أنحتُ شكلي من جذع الشّجرة
هسْ، هو ذا يستفيق من النّوم، وكأنّ الوقت ظُهر. الشمس لم تعد شمسا، بات بريقها كضوء القمر، بل أكثر، بل أقرب، بل أكبر، بل… لا أدري.
تمطّى “الطّرح” تحت الشّجرة الوحيدة أعلى الجبل الأجرد، تثاءب، ثمّ سكن باهتا، والتفت إلى الماء الممتدّ حوله. تشنّج جسمه، وقفز واقفا، ثمّ رفع ذراعيه في طلاقة شديدة، وصوّب ذقنه كذئب، وصرخ صرخات حارقة.
يا وجعه، يا وجعي وأنا ألحظ عذابه.
كنت أراقبه، كنت أسجّل حركاته، وأشعر نحوه بالشفقة والحب، ونسيت، طوال مراقبته، أنّني، أنا الذّاكرة، قد نجوت مثله من الطوفان الرهيب.
لم تعد الحياة حياةً. وهل يمكن أن يتخيّل إنسان ما قبل الطوفان، الأرض، هذا الكوكب الذي كان يمتلئ ضجّة وحركة، خاليا من الدّودة والنملة، من الطير والسبع، من الضبع والأسود والغناء؟
هل يمكن أن يتخيّل كيف يسكن الكون سكونا رهيبا، سكونا لا يقدر الإدراك أن يستوعب نوعه ولا عظمته؟ إن هي إلاّ دمدمة ودويّ أقرب إلى ارتطام الحديد العملاق ببعضه.
طامّة ما عادت طامّة، ابتلاء ولكن لمن؟ لهذا الإنسان الوحيد الذي نجا من الطوفان وهو فاقد للذاكرة؟
ها أنّه جسد مفرغ، جرّة فخّار صامتة، وها أنّي أهوم ذاكرة ولا جسد.
أحاول الالتحام بالطرح، ولا أستطيع، وأظلّ ألاحقه بانجذاب غريب.
ها هو الآن ينزل من فوق الشجرة، ويتوجّه إلى الماء، يخوضه بعنف وغضب، ويتقدّم. يصل الماء إلى رقبته لكنّه لا يتوقّف.
جنّحتُ فوقه. لم أستطع قرع باب ذهنه. أتعبتني المحاولة. وأتعبه الماء. وفجأة، صرخ غاضبا، وعاد سريعا إلى الشجرة، أخذ حجرا وظلّ يضربها، يهرس جذعها، ويجذب أغصانها، يفتّت أوراقها، طعامه منذ أن نجا، ثمّ يلقي بما في يده، ويحضنها.
وفي عمق لزج أحدثته الحجارة بالجذع، يضغط الطّرح وسطه عليه، ثمّ يتصلّب. لقد طلب تكوينه الغذاء الآخر، ما طلبته الذّاكرة، لقد فرضه الجسد ولا شيء آخر. وبتبلّد عجيب، نشرتُ معالقي داخل العمق اللزج، وحططت رحالي. ما انتبهت إلى الثقوب التي أحدثتها الشّجرة في دوابيجي. انتبهت فقط إلى الطرح، شهيّ الجسد، وهو يتولّه بجذع الشجرة، ثمّ يتأوّه بنشوة غامرة.
لم يكن الأمر سهلا جدّا كما توقّعت الذّاكرة، فقد نبّهتها فرضيّة إلى ضرورة البحث عن حلّ آخر حتّى لا تتهدّد بالجفاف أو التّبعثر أو التّلاشي، فكلّ طبيعة لا تحيا إلاّ في طبيعتها، فإذا رُكّبت في غيرها لم تقاوم إلاّ قليلا. فكيف السبيل إلى الامتزاج بجسدي، قالت الذاكرة، وجذع الشجرة، وإن حقّق لي الإغواء، ظلّ يمتصّ مسارب الخزائن حتّى سُدّت منّي خانات، سدّها خدم المعلوماتيّة حرصا على نجاح التّجربة والتزاما، وسرعان ما تعكّرت فرحتي، فقد ملّ الطرح وضعه، وغضب. وبدأ يهزّ الشّجرة كارها. كم هي صامتة، كم هي غيره. كسّر تفرّعاتها ذات غضبة، ثمّ اشتدّ به الهياج، فإذا به يناطحها، ويلتقط الحجارة ويهرسها عنيفا عنيفا، ثمّ يجرّ فروعها ويلقي بها في الماء، ثمّ تنهمر دموعه غزيرة، فيتكئ عليها متعبا حزينا، وسرعان ما يستسلم لنوم ثقيل.
أغصان صغيرة ممزّقة الأوصال، بدأت تتقاطر فوقه، يتساقط القطر على رأسه وجبينه وعينيه. لزوجة مخدّرة تزداد تخثّرا للشمس وتركيزا وهو لا يستفيق. ولأنّه بقي نائما مخدّرا تحت الشمس طويلا، نام المتولّه الغاضب نومته الأبديّة.
وااااجسداه!
صرخة دوّت في المكان. ما كان للذّاكرة المشروخة عرض الماء أن تتكهّن النّهاية. صرخت وهي تراه لا يستفيق، مشلولة هي، عاجزة مثله عن التّحرّك. تعطّل محرّكها، وبدأ الماء يمحو منها المعلومة.
الماء طهور وحياة، لكنّه دمار لها وطريق للفناء.
أيْ قلمي، أي مساحات الحزن فيّ، أي فرضياتي، أي حقائقي.. انتشري خارجي، لا تستكيني للماحي. كوني فاعلة، ابقي حيّة، انتظري ركب السفينة، انفلتي منّي، اتركيني مشلولة كجسدي المنفصل عنّي، ولا تهتمّي. هيّا أسرعي قبل فوات الأوان.
ودون إضاعة للفرصة، نهشت الذّاكرة أبناءها منها، ونثرتهم هنا وهناك، ثمّ استكانت مجهدة فارغة، والماء يغرقها كتجويف مهمل. وقبل أن تختفي تماما، سمعت صوتا كأنّه الأمل:
تُعطى الذّاكرة فرصة أخرى، ويتزعّم “القلم” بكر أولادها المسيرة، أمّا البقيّة، فتموت من البنات “فرضيّتان” وتُطمس خمس “حقائق”، أمّا “الخزّان” فيحيا مهملا منسيّا، وتُشمّع أبوابه أمام “الخيال” إلى أن يحين الحين.