أهو فجر جديد
اللحظة خرجت يا أمي من عند الطبيب بضغط مرتفع لأول مرة نتيجة الضغط الذي عشته طيلة أيام.
ها أنا في قلب آلجي، وفي قلب الحراك الشعبي الذي يهفو إلى الحرية والتغيير.
ها أنا أنصت إلى هدير الشارع. أنبض مع كل كلمة تعانق الحرية، وتكسر جليد الصمت، وجدران الخنوع. أنصت لصوت تلك الأرواح التي فاجأت يأسي، وأضرمت النار بداخلي. قضيت ليلة مريرة ورأسي يكاد ينفجر في انتظار بزوغ فجر جديد. لكن يد الاستبداد تريد انتزاع كل حلم، وكل أمل.
كان الصوت الأول إيذانا بولادة أخرى للجزائر. كان نور الحرية يشع في كل بيت، وفي كل قلب بعد كل العتمة التي كبلتنا.
في ليلة ميلادك يا أمي، وفي لحظات غفوتي القصيرة والمضطربة رأيتك. كنت ممددة في منزل غريب ولكنه شاسع؛ وكنت ترتعشين بردا، تطلبين مني أن أغطيك. نهضت من نومي مفزوعة وبردانة أكثر منك وأنا أستعيد شريط الأخبار الذي يريد أن يرهن الجزائر مرة ثانية، ويهزم أشواق رؤيتها بلدا حرا مختلفا، مدنيا، وحداثيا قائما على الديمقراطية والعدالة والحريات. ليلتها أطفأت حاسوبي، وهاتفي، وشاشة التلفزيون، أطفأت جميع الأضواء في محاولة استجداء ساعة نوم بلا كوابيس أو أشباح.
كانت آلام رأسي لا تطاق، وكان سيل الذكريات ينهمر بلا رحمة؛ وأنا أستعيد صور وأحداث الخامس أكتوبر 1988، وانتفاضة الجزائريين التي شكلت وعيا جديدا، وصار مطلب الحريات والتعددية، وتأسيس دولة ديمقراطية مدنية أكثر من مطلب ملحّ لشعب دفع ثمنا باهظا في ثورته التحريرية.. وظل استقلاله مبتورا بفعل غياب رؤية إستراتيجية، ومشروع وطني حداثي تلتقي فيه جميع الحساسيات والأطياف، وتتوحد فيه النخبة التي ظلت طوال التاريخ الجزائري نخبة هشة ومشتتة ومفككة بافتعال صراعات أيديولوجية، وانقسامات لغوية، وهيمنة أصولية كادت تقضي على كل شيء في الجزائر.
كانت هذه الهزة يا أمي في أول يوم لي بالجامعة ندبة في روحي التي وعت أن أرضنا لا تستحق كل الدمار الذي ألحقته الحركات الإسلاموية السياسية بالجزائريين. كان يمكن يا أمي أن أحتفي بعيد ميلادك في ظروف أفضل من هذه. ولكن أعداء الوطن يبترون كل فرحة صغيرة.
أكتب إليك يا أمي وأنت في العالم الآخر، وأشعر أنك في مكان أجمل وأرحب من هذا الذي حرمنا فيه أن ننعم بالحياة والأمان والرفاهية رغم خيراته واتساعه وعبقرياته التي هجرت ووئدت وقمعت.. أتذكّر أنك كنت إلى جانب والدي المجاهد الذي ظل محتفظا بأسرار الثورة، وكتوما حين يتعلق الأمر بموضوع انتمائه ومشاركته إلى جانب المجاهدين الشرفاء، لولا تلك الحكايات التي رويتها لنا يا أمي ما كنت أعرف نضالكما وصبركما وعطاءكما اللامحدود لثورة من أعظم ثورات العالم.. أفخر بذلك، وأحس بفداحة ما خسره الوطن مع العملاء والخونة والفاسدين والمستبدين. إخفاقات تاريخية، وهزائم سلطة لم تترك فرصة لعمل الشرفاء وانحيازهم للحق والديمقراطية والعدالة. نهب الوطن، ونهبت الأحلام، وتغوّلت عصبة متعفنة على ملايين الجزائريين.
انحزت يا أمي دائما للضحايا والضعفاء والمظلومين.. انحزت للهامش الذي رأيت فيه حريتي وصفائي وعدم خضوعي لأيّ سلطة. فقدت ثقتي في نخبة انتهازية ومهادنة، استفادت من كل المراحل، وأقصت كل صوت مختلف وحر. نخبة تبدي مواقفها حسب موازين القوى. تقف مع الأقوى ضد شعبها، تقف ضد حقيقتها ورسالتها في اختيار مصالحها الضيقة، وحساباتها العابرة التي سيفضحها التاريخ، وتعيها الشعوب التي أنضجتها الحروب والمحن والمآسي. التاريخ الذي يصنعه الأذكياء والقلة المتنورة تستحوذ عليه عصابات مجرمة في حق شعوبها وأوطانها.
لا أنتمي في هذه اللحظة يا أمي إلا إلى الشعب في عفويته وعنفوانه ووعيه وتوقه إلى الحرية والكرامة.. كيف تمحى رمزية بلد بحجم الجزائر بسماسرة باعوا تاريخه، ونبله وكرامته، وقطعوا كل إمكانية لتطويره ونهضته.. لم يطل عمر الكذب والخيانة، وتجلى الانهيار الأخلاقي والسياسي والثقافي والاقتصادي.. وصولا إلى حالة تراجيديكوميدية.. حالة سوريالية، تبين بشاعة الاستلاب والاستبداد والفساد المتفشي في المؤسسات والجامعات والقضاء والصحة.
نعم يا أمي أتذكّر أني ركضت بك بين المستشفيات، وأنهكت روحك وأنا ألاحق أنفاسك والمرض ينهشك نهشا.. نعم أذكر والدي الذي أجرى عمليات عديدة غير ناجحة آخرها بالمستشفى العسكري الذي تركه دون سرير لإسعاف الجرحى من الضباط زمن الإرهاب وزاد حالته سوءا وانتهى بين يدي مبطونا.. أذكر كل ذلك وأفهم أن جرحي صغير أمام جرح الوطن، وجرح الجزائر المفتوح الآن على كل احتمالات الموت والحياة من جديد.
لا زلت أبصر ذلك النور يا أمي وأؤمن بشدة بقوة هذا الشعب وحده الذي سخروا منه واحتقروه واستعبدوه. ونسوا أن جيناته مخضبة بالحرية والنار. تلك النار التي تشتعل بروحي وقلبي الآن. تلك النار بجسدي وأنا لا أقرأ إلا ما تخطه يد الثوار، يد الأحرار.
عذرا يا أمي حبيبتي كان يمكن أن أحتفي بك بشكل أجمل. أنت التي تمتلكين روحي. لن أبكي فقد تجاوزت حالة البكاء.. وذاك الصدر البعيد لا أصل إليه، ولا يصل إليّ. لن أقف على قبرك اليوم يا أمي، لأنك معي في كل نفس ونبض.
أنا مع أمي الكبيرة الجزائر التي تعشقين. نحلم معا يا حبيبتي بفجر آخر.