أهي نهاية اليمين واليسار
فكيف إذن نفسر فوز إمانويل ماكرون ولم تمض سوى سنة بالتمام والكمال على تأسيسه حركة «إلى الأمام»؟ هل انساق الناخبون إلى الحركة أم إلى رجل لم تلطخه أوضار السياسة، وهو الذي لم يظهر إلى الواجهة إلا بعد انضمامه إلى حكومة مانويل فالس كوزير للاقتصاد؟ هل اختير لأن سنّه، ولم يبلغ بعد الأربعين، تؤهله للتغيير الذي طالما انتظره الفرنسيون، أم اختير لشخصه، أم أن الحظ لعب دورا في انتصاره؟
عندما أطلق ماكرون حركته، قال إنها ليست من اليمين ولا من اليسار، ثم عدل عن ذلك بعد انتقاد خصومه سلبيةَ هذا الشعار، فقال بل إنها من اليمين واليسار في الوقت ذاته، أي أن ما أنشأه جامع للشيء ونقيضه، وهو ما عَدَّهُ بعضهم دليلا على تدني النظرية السياسية، لأن انتشار الأحزاب «الجامعة لكل شيء» أخطر ما يمكن أن يصيب الديمقراطية من عطب، كما قال رجل القانون الألماني أوتو كيرخهايمر(1905-1965). غير أن ماكرون يعتقد بأنه لم يعد ثمة حاجز بين اليمين واليسار، بل الحاجز إنما يقع بين التقدميين في مواجهة المحافظين. وهو في هذا يذكّر بتجارب سبقه إليها توني بلير بسبيله الثالثة في أواخر التسعينات، وبعض زعماء اليمين الفرنسي بدءا بجان لوكانويه في الستينات، وشابان ديلماس في السبعينات، وبيير شوفانمان في مطلع الألفية الثالثة، وحتى نتالي كوسيوسكو موريزيه خلال انتخابات حزب الجمهوريين التمهيدية لهذا العام. ولم تمنع كل تلك الدعوات بقاء الأحزاب، وبقاء الفوارق بين اليمين واليسار.
أما عن ظاهرة الانخراط وراء شخصية ثانوية فيعتقد المؤرخ وعالم الاجتماع بيير روزانفالون أنها قطيعة ديمقراطية، فانهيار الأحزاب التقليدية في نظره يعكس زوال الديمقراطية النيابية، حيث يلبي الحزب السياسي مطلبا اجتماعيا ويكون صورة ملخصة لفئة اجتماعية، وجملة من الآراء، تزول لفائدة ديمقراطيةِ تمثُّلٍ مختلفٍ بشكل جذريّ.
فالجبهة الوطنية ليست حزبا، بل لجنة مساندة لعائلة لوبان، وميلنشون لم يعد يترشح على رأس حركة هي جبهة اليسار، بل كزعيم يقدم عرضا للبلاد تحت راية عدم الاستسلام. أما ماكرون فحركته هي حركة من ينضمون إلى شخصه. كل هؤلاء يزعمون مناهضة المنظومة، والقطع معها، وهذا ما يؤكد الفرق بين الموقف والمظهر. يقول روزانفالون «عندما نكون في مواجهة عدة مسائل متقلبة ومريبة، تفرض قوة الأفكارِ السلبية، أي أفكارِ الرفض والنبذ، نفسَها. ومن ثَمّ صارت الديمقراطية تستند إلى الانفعالات والمعتقدات أكثر من الأفكار».
لقد كانت سياسات اليمين واليسار في فرنسا عاجزة عن تلبية الرهانات الوطنية، واقتراح مشروع ذي مصلحة مشتركة، ودعوة الجميع إلى بذل الجهد لرفع تحدى البطالة والعجز، ومقاربة العالم بوسائل مغايرة. والنتيجة بروز قوة مركزية هجينة، تحرسها من اليمين ومن اليسار قوتان متطرفتان، ما يجعل تداول الحكم مستحيلا، أو منذرا بالوقوع تحت هيمنة أحد المتطرفين.
عندما نرى الملياردير دونالد ترامب والمليونيرة مارين لوبان يزعمان الدفاع عن الشعب، نتساءل ألا يزال لمصطلحي اليمين واليسار معنى؟ الثابت أنهما في أزمة. فأحزاب اليسار بدأت منذ أواخر القرن الماضي تفقد قاعدتها في الطبقة العمالية الصناعية، حين صارت إعادة توزيع الثروات أقل أهمية من التفتح الاجتماعي للأقليات الإثنية والجنسية. ونابت عن الرابطة القديمة بين النقابات والمثقفين تحالفات متنوعة بين مثقفين ونسويين ومثليين وسود.. في الأثناء قدمت أحزاب اليسار، على غرار الجمهوريين في الولايات المتحدة، مساندة ظاهرية للمحافظة الاجتماعية، وحتى الطائفية، والنّاخِبين الأقل حظا في المناطق الريفية، ولكنها كانت في الوقت نفسه تصادق على أفضل القرارات لفائدة المؤسسات الكبرى حينما تكون في السلطة. وما كان صالحا للمؤسسات الكبرى لم يسئ دائما إلى مصالح أحزاب وسط اليسار، فقد حصلت المؤسسات على يد عاملة زهيدة الثمن، فيما شجع اليسار التعدد الثقافي.
ومن البديهي أن تجد الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأوروبية نفسها في أغلب الأوقات ضمن حكومات ائتلافية مع محافظين معتدلين مؤيدين للمؤسسات، أو مع ديمقراطيين مسيحيين. ثم ازداد الأمر فداحة بسقوط الاتحاد السوفييتي، لأن الديمقراطيات الليبرالية في الغرب لم يعد لها نفس الحاجة الملحة لمقاومة الأنموذج الشيوعي بتعديلاتها الخاصة. في هذا الإطار يندرج فوز بيل كلينتون في الولايات المتحدة وتوني بلير في بريطانيا، فكلاهما كان يحمل مقاربة براغماتية نيوليبرالية تخدم مصالح المؤسسات. أي أن السمات المميزة التي تفرّق بين يمين ويسار اختفت. وانتهت فكرة اليسار الذي يمثل البروليتاريا المضطهدة ضد مصالح رأس المال والبورجوازية. ولعل من أسباب هزيمة حزب العمال البريطاني أن سياسات زعيمه، جريمي كوربين، لم تتغير منذ السبعينات.
والفرق بين اليمين واليسار في فرنسا ليس على الصعيد الاقتصادي وحده، بل على مستوى الأفكار أيضا، فبعض المحللين يعتبرون أن الشقاق بين أنصار دريفوس وأعدائه (الذي يرجع عهده إلى 1890) لا يزال قائما في البرلمان حتى اليوم، وإن بصور مغايرة. فماكرون، الذي عمل مصرفيا عند مؤسسة روتشيلد يؤمن بالانفتاح على المؤسسات العالمية، يساري في الأصل وإن انزاح ناحية الوسط، وهو من أنصار دريفوس، فيما لوبان زعيمة فرنسا العميقة، فرنسا المسيحيين البيض الغاضبين في المناطق الريفية، أولئك الذين يعتقدون أن ثمة تناقضا حينما يصرّح المواطن أنه فرنسي ومسلم، هي عنصرية سليلة المعادين لدريفوس ثم للسامية والإسلام، وسليلة المنظمات الإرهابية الفرنسية كمنظمة الحراك الفرنسي.
الفرق بين اليمين واليسار في فرنسا ليس على الصعيد الاقتصادي وحده، بل على مستوى الأفكار أيضا، فبعض المحللين يعتبرون أن الشقاق بين أنصار دريفوس وأعدائه (الذي يرجع عهده إلى 1890) لا يزال قائما في البرلمان حتى اليوم
أما اليمين فهو أيضا يعيش أزمة لا تقل خطورة عن أزمة اليسار. وكان بدأها ساركوزي إبان حملته الرئاسية عام 2007، حينما طلع بفكرة «اليمين غير المعقد» لتبرير تبنيه خطاب اليمين المتطرف تجاه المهاجرين وأبنائهم، والتركيز على المسائل الأمنية، ثم البطالة، فأخفق بعد وصوله إلى سدة الحكم في المسألتين، ما جعل الفرنسيين يرون أنه إن كان لا بد من التصويت لمن يحل مشاكل الهجرة والبطالة، وقد غدت في تصورهم مترابطة، فالأصل أفضل من الصورة. وبذلك أمكن لمارين لوبان، التي خلفت أباها على رأس الجبهة الوطنية، أن تستقطب الفرنسيين بخطاب شعبوي يوهم الفرنسيين بأنهم لن يسترجعوا سيادتهم إلا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، والتخلي عن اليورو، وسدّ أبواب الهجرة. وكان بإمكان اليمين أن يفوز بالرئاسة لولا الحزازات الشخصية بين قادته، أهمها العداء المستحكم الذي يكنّه ساركوزي لألان جوبي، حتى أن أحد المحللين صرح بعد الفضائح التي تعلقت بفرنسوا فيون أن ساركوزي يفضل فيون منهزمًا على جوبي منتصرا. والنتيجة أن بعض قادة اليمين يعرضون اليوم خدماتهم على ماكرون.
وليس الوضع في الولايات المتحدة أفضل حالا، فترامب، الذي يدّعي تمثيل الشعب والدفاع عنه، محاط بقدماء بنك غولدمان ساكس وعمالقة كثرٍ من عالم الأعمال. لقد استطاع هذا الجاهل النرجسي عديم الخبرة السياسية أن يصبح رئيسا لأعظم دولة في العالم، بإذكاء كراهية الشعب ضد النخبة المتعلمة، ورجال البنوك والأجانب والمهاجرين، والمؤسسات العالمية، والحال أنه واحد منهم. لئن انتصر ماكرون وبقي اليسار الاشتراكي الديمقراطي في أزمة، فإن ترامب انتصر هو أيضا ولكنه لا يعرف ما يصنع بانتصاره، وبالأحرى لا يدري كيف يستثمر انتصاره. فهل يستطيع، بما يستبطن من عنصرية وشوفينية أن يتعايش مع الرأسمالية التي لا تزدهر إلا بفضل المهاجرين وحرية التنقل والمؤسسات العالمية؟
لوحة: موسى النعنع
في خريف 2014، نشر روبير هُو الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الفرنسي كتابا بعنوان «الأحزاب ستموت… وهي لا تعلم!» فحْواه واضح من عنوانه، غير أن متخصصين في العلوم السياسية يشكون في ذلك، لأن طبيعة اللعبة السياسية في فرنسا القائمة على قواعد انتخابية محددة لن تخدم إلا الأحزاب القوية، كما يقول ماتيو فييرا، أستاذ العلوم السياسية بغرونوبل، ما لم يقع إصلاح مؤسسات الجمهورية الخامسة. وهو ما يؤكده ديديي موس المتخصص في دستورية القوانين، لأن الأحزاب في رأيه وثيقة الصلة بالديمقراطية. وحتى إن شهدت الساحة الفرنسية ظهور حركات تتجاوز اليمين واليسار، فإنها ستنتهي بالتشكّل داخل حزب سياسي، كي تضمن مشاركتها في الانتخابات دون صعوبة، في منظومة دستورية تفرض ذلك. والذين كانوا يحلمون بخلق حركة واسعة تتجاوز الأحزاب انتهوا إلى تشكيل حزب سياسي لخوض الانتخابات، على غرار سيريزا اليوناني الذي تشكل من ثلاث عشرة حركة سياسية، أو بوديموس الذي تأسس انطلاقا من الحشد الاجتماعي للمستنكرين عبر كبريات المدن الإسبانية من مدريد وبرشلونة إلى غرناطة وسرقسطة.
إن مختلف الزعماء في أوروبا والعالم، باستثناء بوتين، وترامب بدرجة أقل، عبّروا عن ارتياحهم لانتصار ماكرون لما فيه من رمزية قهر الشعبوية، والوقوف ضدّ الحمائية، ومعاداة التبادل الحر، وتنقل البشر بحرية، وهو ما يفسر حضور قرابة ثلاثة آلاف صحافي لتغطية الحدث، لأن العولمة كانت مهددة بالانتكاس، وربما بالزوال، لو كتب لمارين لوبان الفوز، مثلما كان الاتحاد الأوروبي مهددا بالاضمحلال في غياب فرنسا، قطبه الأساس مع ألمانيا. لقد التحق بحزب ماكرون منذ تأسيسه في 7 أبريل 2016 رجالٌ ونساء من مختلف ألوان الطيف السياسي، معلنين تجاوزهم الانتماء الحزبي، فلا يمين ولا يسار، ولا اشتراكية ديمقراطية ولا شيوعية، وإنما صاروا يجتمعون تحت لافتة واحدة هي التقدمية. ولكن ذلك لا يحول في رأينا دون استمرار الثنائية يسار يمين بوجود حزب فاشي هو الجبهة الوطنية، قد يؤجج الصراع هذه المرة بين تقدميين ورجعيين على غرار ما ساد أيام التقدمية الاشتراكية في المعسكر الشرقي.
يحدث هذا في أوروبا والعالم، مثلما يحدث في بعض بلداننا العربية؛ فالتقدميون في تونس مثلا لا يجدون حرجا في التعاون مع إخوان النهضة في تسيير شؤون الدولة، بدعوى الترفع عن الانتماءات الحزبية الضيقة، وكانوا من قبل قد انضموا إلى السلطة في عهد بورقيبة ثم أيام بن علي بدعوى إصلاح النظام من الداخل، وما هم في الحقيقة سوى انتهازيين خالفوا النظام لنيل مكسب، وادعوا الدفاع عن المبادئ من منطلق أيديولوجي نفضوا منه أيديهم حالما دعُوا إلى الحكم ولو في وزارة غير ذات أهمية. والثابت أن اليسار العربي في عمومه لم يغادر صفوف المعارضة، وبالتالي لا يمكن الحديث عن تجاوزٍ لثنائية اليمين واليسار، ونحن نقاد من زمن بالسيف والنطع تحت أنظمة رجعية محافظة استبدادية قامعة، ترى في المعارضة جرما يحاسب عليه أصحابه، وفي اليسار خروجا عن الملة. والقلة القليلة التي لا تزال تؤمن بانتمائها إلى اليسار، إنما تجتر أحلام فردوس لم ينعم به حتى دعاته من البلشفيين وأتباعهم، وتتمسك بشيوعية عافها أهلها، وتستحلي دور المعارضة الأزلية شأن الجبهة الشعبية في تونس.