أوراق شاعر

الجمعة 2019/02/01
غرافيك "الجديد"

إلى أصدقائي السوريين الذين تحولت بلادهم إلى قطرات دم تنزف من جسدي إلى أن تصبح خريطة أقيم فيها وأحلم بالمستقبل

في طفولتي لمستُ التقديس الكبير لأصحاب القلم، كان الشيخ حسن الحاصل على شهادة العالمية من كلية اللغة العربية بالأزهر، وابن خال أبي، كان إذا زارنا تحوّل البيت إلى حفل يعج بزوار كثيرين، وصاحب المقام في الظاهر هو الشيخ حسن، كانوا يُجلسونني لبعض الوقت إلى جواره، ويضع راحة يده على رأسي، ويسألني أسئلة، أظنني لم أكن أجيب عليها، كنت أغمغم فقط، وأكتفي بالتحديق طويلا إلى لباسه الديني، وأتمنى أن ألبسه، وعندما ألمح أمي، أراها تنظر ناحيتي كأنني صاحب المقام في السر، فأغرق في نفسي، وعندما أفيق يكون الجميع قد انصرف، فيما يحكي لنا أبي وهو يفخر بأنهما هو والشيخ حسن كانا زميلين في الكُتّاب، أذكر أن أبي ذات زيارة، أطال الحديث عني، بأنني عندما أمشي، أنظر إلى ما تحت قدميّ، وألتقط أية ورقة على الأرض، وأقرأها، فابتسم الشيخ، وفرك أذني، ثم وضع يدي داخل راحته الناعمة بقية الجلسة مثلما سيفعل أدونيس معي.

الغريب أنني لم أتململ، الغريب أنني استسلمت، في المدرسة الإعدادية كنت أمعن في الخجل إذا دعاني أستاذ اللغة العربية وطلب مني القراءة جهرا، فأتلجلج، مما دفعه في إحدى المرات لأن ينهرني ويقول لي: مالك، أنت لا تقرأ، أنت تُشحّر، مثل قطار قشاش يوشك أن يقف، اجلسْ اجلسْ. ولأنني كنت أحب الأستاذ، وأحب اسمه الغريب، عبدالساتر، تدربت سرا على إتقان القراءة، صرت أستمع إلى الشيخ مصطفى إسماعيل، وأستلهمه، وفيما بعد تربصت بفاروق شوشة ولغتنا الجميلة، وإذا انفردت بنفسي كنت أرفع صوتي بالقراءة، في مرات كثيرة فاجأتني أختي وصفقت لي، في المدرسة الثانوية عرفت للمرة الأولى مكتبة المدرسة، واستعرت ديوان ابن خفاجة الأندلسي فطربت لأوزانه، وديوان المازني، فنشأت علاقتي الأولى معه، والتي لن تنقطع بعد ذلك، خاصة أنني عندما عرفت من الكتب أنه مات سنة 1949م أصررت على أنه حي، وأنني أقابله، واستمرت علاقتنا وذهبت معه أكثر من مرة إلى منطقة الظاهر (الضاهر) بالقاهرة، لأرى اليهوديات المتبرجات، وفي معرض شهر رمضان، أيام المدرسة الثانوية، اشتريت روايات محمد عبدالحليم عبدالله “لقيطة” و”شمس الخريف” و”شجرة اللبلاب” و”للزمان بقية” و”غصن الزيتون”… إلخ، إلخ.

ولم ينقذني من البكاء على أبطاله أو مع أبطاله، إلا بداية تعارفي على نجيب محفوظ، الذي أبكاني لآخر مرة في “خان الخليلي”، قبل أن أقرأ “زقاق المدق” و”بداية ونهاية” و”الثلاثية” و”السراب”، وأكف عن البكاء، لا أستطيع أن أقول تماما، في تلك الفترة شعرت أنني بدأت أحرق أصابعي بنار اللغة، وأنها، نار اللغة، تحرق لحمي وتطيل أظافري، إلى حد أن الأستاذ عبدالباقي، أستاذ اللغة العربية في مدرستي الثانوية، بدأ يكتب تعقيبات على موضوعات إنشائي: أنتظر لك مستقبلا باهرا، ستكون كاتبا معروفا، أظافرك أطول من أصابعك.

كنت وأنا أقرأ تعليقاته عندما أكون وحيدا بمفردي، أكاد أقترب منه لأمسح خيط اللعاب العالق دائما بين شفتيه العليا والسفلى، وكأنني سأحرره، لكنه توقف عن كتابة تعليقاته عندما ضبطني أتسلق السور وأهرب من المدرسة، وقال لي آخر عبارة سمعتها منه: حتى أنت يا أبورمضان، خجلت منه ونظرت طويلا إلى خيط اللعاب، ما زلت حتى الآن أتمنى أن أمسحه، في الجامعة اكتشفت أن معارفي تشبه معارف أحمد عاكف بطل “خان الخليلي”، واعتبرت أن رواية نجيب محفوظ مكتوبة من أجلي، لأن فضيلتها الوحيدة أنها نبهتني إلى أن حقيبتي مليئة بالفراغ.

ضاعت مني السنة الأولى بين القاهرة والزقازيق، وكنت في تلك الأثناء بالإضافة إلى الشعر والروايات والحملقة في وجوه فتيات الزقازيق ونسائها أبحث عن السينما، أعانني على ذلك افتتاح سينما كريم 1 الكلاسيكية، وكريم 2 التجريبية، وكلتاهما أسسهما يوسف شاهين، فانفتحت عيناي على فن آخر، نبهني مثلما نبهني أحمد عاكف إلى أن حقيبتي مليئة جدا بالفراغ، نبهني لكنه كشف لي أكثر عن غرامي بالصورة، ثم كشف لي عن غرامي ليس بالصورة على الإطلاق، ولكن بالصورة متعددة التآويل، فانصرفت إلى البحث عن نفسي بحجة البحث عن يوسف شاهين، وكانت السياسة تترجرج تحت قدمي، وحاولت أن أقاربه قبل أن أنصرف عنه بعد اكتشافي أن سماءه مسكونة غالبا بغيوم، فجأة يصدر صوت من داخلي ويصحح لي، بنجومٍ، نورها الباهر يعشي العيون فيضللها.

ما لا أنساه أن يوسف شاهين قبل أن أفارقه قادني إلى أصدقاء الجامعة من اليساريين، إلا محمد خلّاف الذي ظل ميتافيزيقيًّا حتى النخاع، اليساريون اعتبروني وجوديا، ثم اعتبروني عبثيا، وإذا غنوا أغاني الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم اعتبروني مثاليا خائنا لطبقتي، لكنهم في كل الأحوال عاملوني بجدية وشفقة، لأنني لم أستطع بعد أن أهتدي إلى ما اهتدوا إليه، والدليل على ضلالتي هو ما رويته لهم عن زياراتي للشاعر العوضي الوكيل، أحد تلاميذ العقاد، الأهم عندهم أنه أحد ممثلي اليمين الأدبي.

لوحة: موسى النعنع
لوحة: موسى النعنع

مع العوضي الوكيل وفي بيته بالنزهة الجديدة بالقاهرة قرأت جزءا من تحقيقه وشرحه لديوان المتنبي، الذي نشرت دار الشعب كراسته الأولى فقط. في تلك الفترة قرأت كتاب صدقي إسماعيل عن الشاعر المتشرد آرثر رامبو، وأسهبت في الكلام مع أصدقائي عن إشراقاته، وانتظرت زمنا طويلا حتى تعرفت على نصوص لصاحبه فيرلين، أيامها كتب لي العوضي الوكيل: يا بني إنني أربأ بك عن قراءة هذا الشاعر.

كانت صحراء المعرفة قد بدأت تظهر لي، وكأنها تحيطني من كل جانب، انصرفت عن الشعر العمودي، وأخذت أدور برأسي وذراعيّ وقدميّ كراقص حول الشعر الجديد، وفتنني صلاح عبدالصبور ولمّا بعده فتنني أحمد عبدالمعطي حجازي ذهبت إليه فدلني على الطريق، لم أكن أعرف أن العوضي الوكيل قد حاول استكمال كتاب “الديوان في الأدب والنقد” الذي كتبه المازني والعقاد في جزأين ووعدا وأخلفا وعدهما بأنهما سيصلان به إلى عشرة أجزاء، ونشر العوضي الجزء الثالث عن محمود حسن إسماعيل، هاجمه أيام كنت مفتونا به، فانصرفت عن العوضي، وأهملت دروسه، وتماديت مع رامبو ومع محمود حسن إسماعيل ومع أحمد حجازي، وبحثت عن البقية، وكنت كلما تعرفت على أحدهما سمعت تحذيرا، حدث ذلك فور معرفتي بكفافيس وتينيسي ويليامز ويوكيو ميشيما، عاش العوضي الوكيل عمره كله في عصر التطرفات الذي يحدده إيريك هوبزباوم هكذا من 1914م إلى 1991م، وها أنذا أعيش في عصر كان هوبزباوم سيحار في تسميته.

II

علمني أبي ألا أكتفي بأب واحد، وأن أكون ابن حرام في المطلق، كان يتركني أحيانا مع مَنْ يحسبني مفتونا بأحاديثهم، وكان يراقب صمتي، فإذا تماديت في الصمت بسبب خجلي كان يحمد للخجل أنه يلزمني بالإنصات إلى حكايات الآخرين، لكنه لم يكن يحمد استمراري في الإنصات إلى حكّاء فاشل، لذا كان يتعمد أن يتركني مغيظا وهو يراقبني سرا، علّني أتعلم كيف أسكت الحكّاء الفاشل، فتعلمتُ، واكتشفت فضيلة الانصراف بجسدي.

 إلا أنه بسبب غياب اللياقة عمّا اكتشفته، راجعني وعلمني فضيلة الانصراف بروحي، هكذا أصبحت غريبا على العائلة، وبعيدًا عن الكائنات، والهائم في البرّية، لأنني أصبحت أتجنب الأحاديث العامة والعملية، وهي الأحاديث الغالبة، وأصبحت أطارد الحكّائين الذين يصادفونني، وأغريهم بأن يفتنوني، فإذا فعلوا ودخلوا قلبي من باب الفتنة وملأوه وعمّروه، رأيتني أحب الحياة أكثر، ورأيتني أتعلق بالكلمات والأشياء، أتعلق بالطبيعة الناطقة، ورأيتني أتوه وأتيه، وإذا مضى زمن الراحة دون أن أقابل أحدهم، كنت أسعى.

هكذا علمني أبي، إلى كتب عيون الأخبار وإلى الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني والمسعودي وابن قتيبة والتوحيدي وابن عبد ربه وإلى المقريزي، ولمّا وصلت إلى ابن خلدون أدركت أن عالمي يمتلئ، واكتشفت أن الحكايات أعمار مضافة، وبدلا من الشعور بالشيخوخة، كانت الحكايات تدفق في كل جسمي ماءً بطعم الروح، الذي كنّا نسميه في طفولتنا: ماء المُحاياة، ولمّا عرف أبي أنني أكتب الشعر سرا رفع الغطاء وأطلق يدي، وتركني أسعى خلف أولياء الشعر، أبي سَيَفْرُك كفيه ببعضهما كلما ذكرت له اسم أحدهم، وكان أحمد عبدالمعطي حجازي أولهم.

لم أستطع أن أستمر في الاستماع إليه لأنه صاحب صوت يمتلئ بالخوف من الحرية، فتتحول حكاياته إلى منبر وعصا، وبسبب أحمد حجازي تخيلت العقاد، أبي يفرك كفيه، تخيلت العقاد يحكي ويضحك على ما يحكيه من طرائف قبل أن نضحك، فأشفقت على العقاد، وبحثت عن المازني الذي أَلِفَ أن يقابلني في ركن بيتي، شرط أن نكون نحن الاثنين بملابس البيت، هكذا تعارفنا لأول مرة، وعندما جرؤت وذكرت أمامه طه حسين وعبدالرحمن شكري عبس لوهلة ثم سامحني.

لم أستطع فيما بعد أن أستمع إلى محمد عفيفي مطر لأنه كان جهما حتى حين يضحك، كما أنه لم يكن يحكي، كان يرشد ويدل، فتركته، واكتفيت من سعدي يوسف بغمغماته وجمله الناقصة التي دعتني إلى إكمالها. كان سعدي يحب حلمي سالم ويكره عفيفي، وكان إصرار حلمي على تجويد حكاياته يجعلها أشبه بنصوص تدرب على إلقائها، وتظل فتنتها ناقصة، وتظل تبحث عن الخاتمة التي يريدها حلمي أن تكون زاعقة صاعقة مثل قول مأثور أو مثل نكتة، أو مثل التعري الكامل في شارع مزدحم، حلمي سيعترف لي فيما بعد، بأنه قط لم يضبط سعدي يصل بالابتسامة إلى حد الضحك أو إلى حد القهقهة، وأنه يتمناه أن يفعلها، فآسف مثله من أجل سعدي.

هكذا تأملت حلمي في حلمي، وسعدي في سعدي، وتأملت نفسي في الآخرين، كنت أحب لهجة إبراهيم أصلان، أبي يفرك كفيه، خاصة عندما يستغرب ما تقوله ويسألك: لا يا شيخ! كان أصلان ينصت أكثر، إذا قلت له، يومَ الأربعاء ذهبت إلى إدوار الخراط، فيرد أصلان: آه، فأُكمل، طوال الوقت كان إدوار يثقبنا بعينيه قبل أن يثقبنا بصوته، يقول أصلان: آآه، فأُكمل، لكن لغته الفصيحة جدا ظلت تطن في أذني كأنها لغة مستعارة، ربما الأصح كأنها لغة ترتدي ثقافة عارية، يقول أصلان: لا يا شيخ! ثم يسألني: قابلتَ أدونيس؟ فأقول له: لمدة ساعتين، ثم أضيف، كان أدونيس عندما يتكلم تفاجئني يده اليمنى أو اليسرى، وتمسك بكفي القريبة منها، وتحاول أن تحتويها، وتتلمس أطراف أحد أصابعه بطن يدي، كأنه يكلمني من أعماقه، يقول أصلان: واد يا منعم، حاسب من أدونيس، إنت في خطر،هاهاها.

ضاعت مني السنة الأولى بين القاهرة والزقازيق، وكنت في تلك الأثناء بالإضافة إلى الشعر والروايات والحملقة في وجوه فتيات الزقازيق ونسائها أبحث عن السينما، أعانني على ذلك افتتاح سينما كريم 1 الكلاسيكية، وكريم 2 التجريبية، وكلتاهما أسسهما يوسف شاهين، فانفتحت عيناي على فن آخر، نبهني مثلما نبهني أحمد عاكف إلى أن حقيبتي مليئة جدا بالفراغ

لم أصدق أن أصلان هو أول ضحايا ما بعد 25 يناير من كُتابي الذين أحببتهم، كأنه مات برغبته، فبعد 25 يناير رأيت بعينيّ هجرة الحكايات واختفاءها، لم أكن أعرف بهذا اليقين الذي أحسه الآن أن الحكايات لا تستطيع أن تعيش في الأماكن المصلوبة، لذلك رجعت إلى الوراء، وقررت أن ألهث، قررت ألا أكف عن اللهاث في سبيل البحث عن أبي، في سبيل البحث عن كل آبائي، النعمة الوحيدة التي أحسدهم عليها أنهم ماتوا قبل أن يروا بعيونهم المفتوحة اختفاء الحكايات، أكرر العبارة، اختفاء الحكايات، فيفاجئني خيال اثنين ينهضان من بين الأموات، أبي أبي، وأبي المازني، وأسمعهما يوبخانني ويصححان لي: موت الحكايات، موت الحكايات، ويطردانني، فأنصرف عنهما قبل أن يكفا عن الصراخ.

III

عندما في سنة 2011م اختنق صدري بسبب الثورة المغدورة والأحلام المغدورة، يمكنك للترقيق ولفتح نافذة واحدة للأمل، أن تقولها هكذا: بسبب الثورة الضائعة والأحلام الضائعة، عندما حدث ذلك شرعت في المقاومة، عن طريق الشعر غير الدعائي وغير المباشر، وقرأت الدواوين التي أحببتها لشعراء لم يكتبوا قصائدهم بغرض المقاومة، لكن قصائدهم تحولت مع الوقت إلى فنارات ومنارات وسواتر احتمينا بها، وعلى إثر الشعور بهذه الحماية جمعت قصائدي التي كتبتها في آخر ثلاث سنوات، وكلها قصائد حب، واخترت أن أنشرها في ديوان بخط يدي، وهو ليس بالخط الفريد بين الخطوط، اخترت ذلك علامة على تأكيد وجودي الذي أصبحت أشعر بأنه مهدد بأن يصير وجودا وهميا، وسميت الديوان: “الحنين العاري”، أصدرته سنة 2012م قبل أن تبرد حماستي تجاهه، كي أفلته من يأسي.

بعدها تراكمت على قلبي أحلام جديدة قديمة ضائعة مغدورة، أحسست بسبب مرارتها أنها ستمكث طويلا، وتذكرت أمي التي عاشت عمرها مغطاة بغطاء رأس محكم وثوب طويل حتى القدمين لتخفي عن عيوننا أحلامها المغدورة هي أيضا.

في الفترة السابقة على “الحنين العاري”، كنت قد أصدرت ديوان “الصعود إلى المنزل أو انظر أيها الغريب”، الذي جعل أحدهم يتساءل بحق: هل هكذا يكون الديوان محض خلطة أنواع؟ هل هكذا يكون الديوان؟ وفكرت في أن كلمة ديوان في ذاتها تعني كما يقول القاموس: مجتمع الصحف، وتعني أيضا كما يقول القاموس: الكتاب يُكتب، أي تُدوّن فيه أسماء أهل الجيش وأهل العطية، وتعني ثالثا كما يقول عامة الخاصة: صحن البيت.

ولأنني كنت أتبنى ما يتبناه المارقون من أهل الحداثة ويزعمونه الكتابة عبر النوعية، حيث يمكن أن يتجاور ويتداخل الشعر والنثر والقص واللوحات والصور والصفحات البيضاء، ويختار صاحب الكتاب تسميته باسم النوع الذي يغلب عليه، والتسمية الأقرب في ظني لكتاب هكذا هي الديوان، إذن سأسميه الديوان، ويطمئن، أعني صاحب الكتاب، إذا أدرك القارئ غرضه ومراده، وفطن إلى أنه يدخل الديوان دخوله منزل صاحب الديوان، وينظر في أرجاء المكان نظرة الغريب، فإذا اطمأن وهدأت نفسه، شملته الألفة، واسترخى كأنه مكون جديد يضاف إلى بقية المكونات، الشعر والنثر والقص واللوحة والصورة والصفحة البيضاء.

عموما صدر “الصعود إلى المنزل” قبل 2007م، قبل 2011م، وصدر “الحنين العاري” بعدها، ومنذ الحنين وأنا أحلم حلما يشبه الكابوس، أن أتمكن من الصحو المبكر لرؤية أول شروق الشمس، أن أتمكن من السهر طويلا لرؤية أول اكتمال القمر، أن أتمكن من السعي وراء الجميلات لرؤية أول قلبي، أن أتمكن من السير مع كل الآخرين مسافات تتيح لي أن أبلغ ما لم أبلغه من نفسي، هكذا أصبحت الهائم في البرية.

IV

في حجرتي أيام كنت طالبا جامعيا، قرأت مع صديقي محمد خلّاف قصائد عفيفي مطر إلى نفيسة، كنا نمرُّ معًا، خلّاف وأنا، بمرحلة يمكنني أن أسميها مرحلة أرشيبالد ماكليش، صاحب كتاب “الشعر والتجربة” بترجمة سلمى الخضراء، الذي مع الوقت حوّله شعراء السبعينات إلى إنجيل من أناجيلهم، إنجيل ماكليش، وإنجيل سيد حجاب، وإنجيل أدونيس، وإنجيل إدوار الخرّاط، وإنجيل عفيفي مطر.

كان محمد خلّاف أيامها يجيد الإصغاء إلى الكلمات كصوت والكلمات كمعنى، ويتحرّى دروس ماكليش، وتدهشه قدرة عفيفي على تزويج ما لا يتزاوج، مما صرف الأكثرية عن شعره، أعني عفيفي، لغموضه، في السبعينات دأبنا على السفر بعيدا مستعينين بالمتصوفة خاصة عبدالجبار النفري وبالشعراء خاصة أدونيس وعفيفي مطر ومحمود حسن إسماعيل الذي كان عفيفي يجلّه ويدمن الإطلال من نافذته، وبقصّاصي الستينات إبراهيم أصلان ومحمد البساطي وعبدالحكيم قاسم ويحيى الطاهر عبدالله، وبالروائي إدوار الخرّاط، والتشكيلي عدلي رزق الله.

أيامها كان عفيفي يعيش في مدينة كفر الشيخ، إحدى مدن الدلتا، ويعمل معلما، ويصدر مجلته سنابل التي ستوقف السلطات إصدارها بعد نشره قصيدة أمل دنقل “الكعكة الحجرية”، أغلبنا، أعني جيل السبعينات، اصطفى من الستينات عفيفي مطر، ولم ير إبراهيم أبوسنة للأسف، والتفت بعض الالتفات إلى أمل دنقل، صار عفيفي علامة من علاماتنا، ولمّا فرّ من دولة السادات إلى عراق صدام أسفنا عليه، ولم نغفر له فراره، وظللنا نحبه عن بُعد، وعلى الرغم من شعبية أمل دنقل ظللنا نفضّل عفيفي، كان يخايلنا كحُلمٍ، إلى أن عاد وعرفناه عن قرب، ووجدناه قد أغلق جرابه على ما فيه، وكنا نأمل منه أن يكون قد أفرغه قبل أن يأتي، كنا نأمل أن يكون قد اغتسل، كنا نأمل أن يكون قد تهيأ لاستقبالنا كما تهيأنا، فاجأنا عفيفي في آخره بآراء كهلة وشعر عجوز وحروب فاسدة، فبكينا على ما ضاع، وبعدها بكينا على موته.

أعترف بأنني حتى الآن أقرأ شعره الأول فألهث من شدة الفرح، وأقرأ شعره الأخير فألهث من شدة التعب، كانت ميتافيزيقاه الأولى ميتافيزيقا الوجود، وصارت ميتافيزيقاه الأخيرة ميتافيزيقا العدم، وفي الحالتين تهيّأ لأن يكون نبيا، لكنه انتهى نهاية نبي أعزل، في رواية أخرى لا أحبها انتهى نهاية نبي منبوذ، الغريب أن سفر الشاعرين المصريين عفيفي وحجازي الأول إلى عراق صدام والثاني إلى باريس برعاية عراق صدام أعادهما مكسورين وبغير أجنحة، أعادهما هكذا، عفيفي أكثر تزمتا وغضبا وحجازي أكثر تطلبا واحتياجا.

V

دخلت الشعر من بابه الضيق، دخلته من باب تراتيل أبي المصطفى، وغناء أمي فاطمة، وتنهدات جدتي عائشة، دخلت الشعر من محفوظاتي المدرسية التي لم أتقنها، ومن عينيْ هانم ذات الأصابع الستة، ومن باب الحارة، وبعدما عرفت مكتبة المدرسة وسور الأزبكية والفجالة دخلت الشعر من دواوين المازني وابن خفاجة والرومانسيين المصريين الأربعة علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمد عبدالمعطي الهمشري ومحمود حسن إسماعيل، والرومانسيين العرب الأربعة أيضا أبي القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير وعبدالباسط الصوفي وعبدالسلام عيون السود، حلمي سالم أبلغني ذات مرة أنه دخل الشعر من أبواب مماثلة، دخلت الشعر من غناء محمد عبدالوهاب وفيروز ونجاة الصغيرة وصباح فخري وناظم الغزالي، ثم دخلته عبر أحلامي بأن أكون ابن سلالة عربية تصل بي إلى أحد الشعراء العذريين، أو أحد الصعاليك، أو أحد شعراء القرن الرابع الهجري.

بعد انتهاء دراستي الثانوية وقبل الجامعة كنت وحيدًا إلى حد انتظار رسائل وهمية من وضاح اليمن وجميل بثينة لكنها لم تصلني، ذات مرة زعم حلمي سالم أن رسائل المجنون وصلته، وذات مرة أخرى اخترت قرية من قرى اليمامة، وبطنا من بطون بكر بن وائل بن ربيعة لأنتسب إليهما، وذات مرة ثالثة مشيت وراء عفراء وضبطني بنو عذرة وحبسوني ومنعوني، وعندما سألوني عمّن أحبها، قلت: مها، فأطلقوا سراحي. حلمي لم يكن محبوسًا، وذات مرة جديدة تعثرت في أوهامي وتمنيت أن أكف عنها، عن أوهامي، لكنني ما زلت أتشبث بها، فأنا من الجزيرة أو اليمامة، أنا من البحرين أو اليمن، ولمّا التحقت بالجامعة وتعرفت على محمد خلّاف الذي زاملني لثلاث سنوات، وحكى لي عن أحلامه بالسفر إلى الغرب، باريس وروما، ابتسمت، وحكيت له عن أحلامي بالسفر إلى الأسلاف، فاستغرب وصمت، حقق محمد خلّاف أحلام سفره، ولكن بدلا من باريس وروما، سافر إلى المغرب وأقام في الرياض، فيما أخافتني أحلامي فأخفيتها وتستّرت عليها، لكنها ما زالت تراودني.

كان محمد خلّاف يشبه صورة الفنان في شبابه، كان كتوما يتكلم فقط فيما ليس شخصيا، ضبطته في الإسكندرية يعاشر صاحبة الشقة فحسدته، وضبطته في بيتي يختلس كتبي فأصابتني الرعشة، ومع ذلك لم أتوقف عن محبته، بعدها حدثني محمد خلّاف عن حلمي سالم للمرة الأولى، كان مفتونًا به، لم أصدق أن محمد خلاف يمكنه أن يقرأ القصائد بالطريقة التي قرأ بها أمامي بعض مزامير أدونيس في ذلك اليوم، فيما بعد سمعت حلمي سالم يقرأ شعره وشعر الآخرين، يقرأ قراءة ممثل، بعد أن تعرفت على أحمد طه وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم، حدثوني عن حلمي سالم وعلي قنديل وأمجد ريان، كانوا يلتقون أسبوعيا في ندوة سيد حجاب بمنظمة الشباب، التي كما أخبروني انقسمت إلى فريقين، الجيروند واليعاقبة.

كان علي قنديل وحلمي سالم وأمجد ريان طليعة فريق الجيروند، وهو الفريق الذي سيؤسس بعد موت علي قنديل مجلةَ “إضاءة 77″، وكانت طليعة اليعاقبة تنحصر في أحمد طه وزميليه، الجيروند إصلاحيون، واليعاقبة جذريون، الجيروند قوميون، واليعاقبة أمميون، الجيروند يكسبون الأرض نقطة بعد نقطة، واليعاقبة روافض، الجيروند سيصبح وسيطهم مجلة “إضاءة” المفتوحة أكثر على الآخرين، واليعاقبة سيصبح وسيطهم كتاب “أصوات” المغلق تقريبا على أصحابه، الجيروند يقفون تحت مظلة التيار الثوري الذي كانت تسميه طوائف اليسار ” طنط ثريا”، واليعاقبة يميلون جهة أقصى اليسار ويقرأون كراسات الثورة الدائمة وسيرة تروتسكي النبي المسلح والنبي الأعزل والنبي المنبوذ ويعكفون على بعض تراث السرياليين المصريين ويطبعون ديوانا شعريا لجورج حنين، ويتلقون بعض الأذى من سلطة الوقت مثل حبس أحمد طه ومحمد سليمان قبل مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة.

دخلت الشعر من بابه الضيق، دخلته من باب تراتيل أبي المصطفى، وغناء أمي فاطمة، وتنهدات جدتي عائشة، دخلت الشعر من محفوظاتي المدرسية التي لم أتقنها، ومن عينيْ هانم ذات الأصابع الستة، ومن باب الحارة، وبعدما عرفت مكتبة المدرسة وسور الأزبكية والفجالة دخلت الشعر من دواوين المازني وابن خفاجة والرومانسيين المصريين الأربعة علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمد عبدالمعطي الهمشري ومحمود حسن إسماعيل

استمرت الحمّى، حمّى الجماعتين وحمّى صراعهما، طوال الثمانينات، ثم بدأ فك الارتباط بين أفراد كل جماعة على حدة، مات علي قنديل قبل إصدار “إضاءة”، فانفرد حلمي سالم فور إصدارها بالدور الأكبر، وانفتح على الجميع، كانت موهبته الاجتماعية أبرز مواهبه إلى جوار الشعر، في التسعينات نفدت ريح الجماعتين فعدنا أفرادا، وتباغض بعضنا، وتحابب بعضنا.

وأصبحت أنا وحلمي رفيقين دائمين فيما عدا الفترة التي تلت قصيدته “شرفة ليلى مراد”، كنت أراها قصيدة رديئة، وهي كذلك في رأيي حتى الآن، وأن الدفاع عن حرية التعبير لا يعني الدفاع عن قصيدة رديئة، وكان حلمي يرى ضرورة الدفاع حتى عن حرية الرداءة، فشكاني إلى كل المثقفين والشعراء، خاصة الشعراء العرب من أصحابنا، وبكى أمام بعضهم، ومنهم من تأثر وانفعل ولامني، خاصمني حلمي إلا أنه قبل عيد ميلاده، ربما قبل الأخير، ربما الأخير، تململ من مرارة الخصام، فقرر إنهاءه، وروى لأصحابه أنه سيدعونا، حسن طلب وأنا، لحضور مولده، لأننا، هكذا قال، مَنْ سنقف في مأتمه لتقبل العزاء فيه، ثم لاحقته الأمراض وداهمته، في مرضه الأخير، حدثني مرات عن أمه زاهية، حدثني مرات عن قريته الراهب، حدثني عن عفيفي مطر، لكنه قبل موته بأيام، عندما كنا وحيدين في عنبره بالمستشفى، هل كانت حنين قريبة منا، سألني: هل ستكتب عني؟

 لم أستطع أن أغالطه وأدعي عدم فهمي، قلت له: لا، سألني: لماذا؟ قلت: كي لا أُغضب أمل وحنين، زوجته اللبنانية وابنته، وتذكرت لميس ورنيم ابنتيه الأخريين، فقال: اطمئن، إنهما يحبانك، وبكى، وبكيت معه، وفي خيالي اختلطت دموعنا، فاحتضنته، ليلة موته، أخبرتني أمل أن مستشفاه الحكومي سمح بخروج جثته آخر الليل دون تصريح دفن ودون شهادة وفاة، مما يعني الرغبة في التكتم على خطأ طبي أدى إلى الوفاة، اكترت أمل سيارة أجرة (تاكسي)، وساعدها الممرضون وأجلسوا جثة حلمي بالكرسي الخلفي كأنه حي، وجلست أمل إلى جواره لتمنعه من السقوط، في صباح اليوم التالي استدعينا طبيب الوحدة الصحية الذي قام بإصدار شهادة الوفاة وتصريح الدفن، أضعفني موت حلمي وأفقدني القدرة على إثارة هذا الأمر، خاصة أن الإثارة لن تعيده حيّا، مات حلمي سالم، مات حلموس، الخواجة لامبو مات.

VI

ضاع مني أن أقترب من صلاح عبدالصبور، كل أصدقائي ذهبوا إليه وعرفوه، لكنني خفت فظلّت صورته التي رسمتها في قلبي صورة أمير متسول في أسطورة بيضاء، يحمل تحت إبطه شعره ومقالاته ومسرحياته وترجماته وخيباته وحزنه، ويجلس على قهوة عبدالله بميدان الجيزة، وينصرف عندما يصبح قريبا من حافة الكلام، كانت المسافة بين شعره والكلام اليومي مسافة غامضة، حتى أنك لا تستطيع إلا أن تداوله بينهما، على العكس من أحمد عبدالمعطي حجازي الذي أدرك منذ البداية أن الشعر حرفة، من واجباتها أن تمايز بين الاثنين، الكلام في الشعر والكلام اليومي، من واجباتها الجهر بالمعنى، من واجباتها الجهر بالإيقاع والموسيقى، وإذا امتزج الاثنان الإيقاع والكلام اليومي، وغالبا ما يمتزجان.

كانت الموسيقى هي المتبوعة والكلام اليومي هو التابع، على العكس من صلاح، كان حجازي يفخر ببراعته العروضية ويفاخر بها، إلى حد أن يشير دائما إلى أخطاء العروض عند صلاح ووافقه في ذلك نقاده، خاصة لويس عوض، اتفقوا على تمييز غنائية حجازي عن حميمية صلاح، وعمومية حجازي عن خصوصية صلاح، وشفاهية حجازي عن كتابية صلاح، وعلى يقينهم من أنهم رأوا حجازي يقف على شواطئ بحوره ولا يجاوزها، فيما قدما صلاح تنزلقان وتضطربان أحيانا، فينزلق ويضطرب ولا يأبه، ودعموا آراءهم بتكرار القول عن أن فردية صلاح كانت أكثر عمقا، فيما كان لسان حجازي الجامع لألسنتنا هو أبرز ملامحه، حنجرة حجازي جماعية تزعم أنها حنجرة فرد، لذا هي خارجية أكثر، لذا هي مموسقة أكثر، لذا هي ذات ضجيج أحيانا، وحنجرة صلاح حنجرة فرد يتأذى إذا اكتشف أنه سيغني نيابة عن الآخرين.

كان صلاح يهمس، وحجازي ينادي ويصيح، صلاح يصب حزنه في كأس ويضعه أمامه على مائدته ويشربه في هدوء وبطء، وحجازي يقف ويرقص ويدعو الآخرين للرقص معه، وإذا هتف يدعوهم للهتاف، وإذا كذب يدعوهم لتصديقه، صلاح لا يدعو أحدا إلى شيء، ويتجنب الوقوف في المقدمة، غناء حجازي كان يناسب قصائده عن عبدالناصر وعن الاتحاد الاشتراكي العربي وعن لاعب السيرك الذي هو حجازي نفسه، وكان يناسبني في أول أمري عندما كنت وحيدا، وشعر صلاح كان يشبه نبرة التهكم على السيد ذي الأنف الكبير، لعله عبدالناصر، لعله صلاح نفسه.

 أدرك صلاح خوف رجال الدين من الكوميديا فعكف على كوميدياه، وأدرك حجازي حب رجال السلطة للتراجيديا، فلم يسخر سوى من صافيناز كاظم والعقاد، وكتب مراثيه التراجيدية المتوجة بمرثية العمر الجميل، وعندما نظر حوله، ورأى الشعراء التالين عليه يقتربون من الوقوف على منصته، لم يستطع أن يقبلهم قبل أن يشير إلى أنسابهم، أحفاد شوقي أبناء حجازي، واكتفى بسلالة من شعراء قدامى اختارهم ليختلف عنهم، وظلت قوميته العربية في فترة، ثم المصرية في فترة تالية، وكلتاهما كانت محدودة الأفق إما بعبدالناصر وميشيل عفلق، وإما بالليبرالية قبل عبدالناصر.

ظلت قوميته تعمل كحاجز بينه وبين شعراء عاصروه، وها هو قد أمهله العمر، ليجلس في حدائق شعرية تختلف عن حديقته، لكنه لم يفعل، عينا حجازي كانتا تنظران إلى الخلود، أما صلاح فلم يمهله العمر ليختبر كتاب تحولاته، عينا صلاح كانتا تريان الموت، كلاهما حبس شعره داخل باترون واحد، باترون صلاح متعدد الطبقات لذلك هو أكثر اتساعا لدرجة أن ذهب بشعره إلى المسرح، وباترون حجازي متعدد درجات الإجادة وإن كان أكثر ضيقا. يبقى أدونيس ويبقى الشعراء الذين بعدي ويبقى الشعراء القدامى، لعلني لن أستطيع الآن أن أوفيهم حقوقهم قبل أن أطمئن إلى لون السماء التي لم تعد زرقاء، فعندما ستكون السماء كذلك، سوف أستطيع أن أتمادى، أن أكتب بعض أسفاري، أن أُشهد المرأة التي تنتظر وقوفي على مسارح هؤلاء جميعا، لتراني كيف سأرقص، وكيف سيكسوني الشيب، وكيف سأخفي أمارات تعبي قبل أن أرى بصعوبة صورة الشعر الذي أعرفه، وهي تتسرب بالتدريج من المرآة، هكذا هكذا.

VII

لوحة: موسى النعنع
لوحة: موسى النعنع

في بيتنا الأول، كان أبي هو الرئيس الفعلي، والناطق باسم العائلة، وكانت أمي حجر الزاوية، وكنّا، نحن الإخوة الثلاثة، شعب البيت، أختي المتمردة بقسوة سرا، وباستخفاف علنا، وأنا الوديع المتلصص، وأخي المقيم غالبا خارج البيت باستثناء ساعات نومه، كان أبي يزهو برئاسته، ويستعرضها إذا حضر الضيوف، وكانت أمي تخفي حَجَرَها، حجر الزاوية، لأنها الأذكى، إلا إذا تعثر أبي وأفلت منه القول، عندها كانت تنبهه بابتسامة أو رفة جفن، وبنداء ناعم: يا حاج، مع إطالة ألف حاج.

في أول دراستي كنت فرحا بسباق التفوق، كنت الثاني، لكنني فور دخول المدرسة الإعدادية أصبحت مشغولا بالفرجة، وما زلت مشغولا، لذا فإنني أنحاز إلى نفسي وأظن أنني رأيت وسمعت وصمت، أكثر مما رأى أخي، لا أجرؤ أن أقول: وأختي، في بيتنا كانت الحوائط عارية إلا من صورة أبي، إلا أنهم بعد رحلة الحج التي أركبته السفينة لأول مرة، والتي جددت حكاياته وأضافت إليها، علقوا على حائط القبلة سجادة صلاة تحمل صورة الكعبة، ومنذ تلك اللحظة كانت جدتي إذا خرجت من حجرتها اتخذت البقعة تحت صورة الكعبة مستقرا، فأصبحنا نربط بين الكعبة وجدتي.

وعندما اختنق أبي من ضياع حريته بسبب عمله الرسمي في المدينة، جلس إلى جوار الجدة تحت صورة الكعبة، وتكلما بصوت غير مسموع، بعد شهر أو أكثر قليلا، كان أبي قد خلع ملابسه المدنية، وخلع العمل الحكومي، وعاد إلى عمامته، وإلى أعماله الحرة، وانفجرت ابتسامته وتحولت إلى ضحك أحيانا تعقبه كركرة، وأصبحت ابتسامة أمي، الابتسامة الضيقة دائما، أصبحت أكثر بهاء، وأصبحنا نربط ثانية بين الكعبة وحرية أبي، وعندما اختنقنا جميعا من بيتنا القديم، جلس أبي وأمي على جانبي الجدة، وتجادل الثلاثة، وطال جدالهم، فعلوا ذلك لعدة أيام، وبعد شهور انتقلنا إلى بيت جديد، وأصبحت أربط بين الجدة والكعبة وحريتنا جميعا، خاصة حريتي، لأنني في بيتنا الجديد تميزتُ بأن أصبح لي غرفة أكوّم فيها كتبي وأستقبل فيها أصدقائي، وأشرع معها في الابتعاد بعالمي جهة اليسار غالبا.

بعض أسراري كانت تفطن إليها أختي لسابق خبرتها بي، وبموضوعات الأسرار، والبعض الآخر كنت أحرص أن أخفيه عنها، فتستدرجني وتنجح، لأنها الأذكى. في تلك الأيام كنت قد بدأت كتابة الشعر، ولم أكن قد تعلمت بعد كيف أحمي شعري من حياتي، وكيف أحمي حياتي من شعري، أيامها صاحبت السيدة القبطية التي تسكن بيتنا، أحسب أنني آذيتها كثيرا، لقلة خبرتي وكثرة حماقاتي، أيامها قرأت نشيد الأنشاد وسفر الجامعة، وبقي في رأسي مثل نغمة دوّارة، صدى صوت الجامعة سليمان بن داود، لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت، للولادة وقت، وللموت وقت، للقتل وقت، وللشفاء وقت، للبكاء وقت، وللضحك وقت، لتفريق الحجارة وقت، ولجمع الحجارة وقت، للحب وقت وللبغضة وقت.

أدرك صلاح خوف رجال الدين من الكوميديا فعكف على كوميدياه، وأدرك حجازي حب رجال السلطة للتراجيديا، فلم يسخر سوى من صافيناز كاظم والعقاد، وكتب مراثيه التراجيدية المتوجة بمرثية العمر الجميل، وعندما نظر حوله، ورأى الشعراء التالين عليه يقتربون من الوقوف على منصته، لم يستطع أن يقبلهم قبل أن يشير إلى أنسابهم

فيما بعد ستفاجئني حكمة محمود درويش الشعرية، الشعراء عاديون ما بين القصيدة والقصيدة، فيما بعد ستفاجئني زوجتي بالحكمة ذاتها، فيما بعد أيضا ستفاجئني حياة نجيب محفوظ، الذي استطاع أن يفصل رواياته وشغفه بالأدب عن حياته اليومية، فيما أنفق يوسف إدريس شمعته كاملة وفي وقت محدود لأنه وحّد الاثنين، فيما بعد ستفاجئني السياسة التي هي علم من علوم ميتافيزيقا السيادة. في بيتنا الأول، وعلى أحد جدران الصالة الواسعة، وعلى ارتفاع أطول بكثير من قامتي، كان صوت الراديو الأحمر الكبير، المستقر بثبات فوق رف معلق، رف تطوله يد أبي، كان هذا الراديو هو أحد أعداء الأب، وكانت المدرسة الابتدائية عدوه الآخر، كانا ينازعانه، آنذاك كنت شبه طفل، شبه صبي، شبه أبله، شبه حالم، أتلقى دروس الهوية ودروس البحث عن الجذور من حكايات أبي عن أيام العرب وأساطيرهم، حتى أنني كنت أراني كثيرا وكأنني أقيم في البادية، في خيمة أو تحت نخلة أو وراء جبل، وفي صحبة شيخ طويل شعر الرأس طويل شعر اللحية، طويل العكاز، وفوقنا، أنا والشيخ، نجمة أسأله عن اسمها، فيجيبني ببساطة، وأسأله عن موعد المطر، وعن الطريق إلى قلبي، فيمسك يدي ويقول لي: لا تسأل عما يجب أن تكتشفه بنفسك،.

كنت كل يوم عن طريق حكايات أبي، أصحب شيخا جديدا لأسأله عن أشياء أخرى، بعض شيوخي كانوا يقودونني حتى تمس قدماي طرف الهاوية، عندها يتركونني كي أهتدي إلى أول طريقي، فأقف وأنا أظن أن الطريق تخرج مني، ولم أتقدم إلى الأمام إلا بعد أن سمعت هسيس الشِّعر، آنذاك لهثت مثل الأغلبية، لهثت خلف المتنبي، وصرفني إلى بشار، الذي صرفني إلى أبي نواس، الذي صرفني إلى أبي تمام، سألت أحد شيوخي، يا سيدْنا، مَنْ منهم اشترط لثورته أن تظل داخل النظام الشعري؟

 أشاح الشيخ، سألته، يا سيدْنا، مَنْ منهم اختار عدم التفكير في تبسيط الشعر حتى ولو كان ذلك سببا يجعل الشعر خبرة عميقة كأنها خبرة معقدة؟ سألته، يا سيدْنا، أيهم اكتشف أن علوّ الصوت على الصورة يؤدي إلى انعدام التوازن، أيهم يا شيخ؟ تركني الشيخ فانصرفت أبحث عن أدونيس وأنسي الحاج وسعدي يوسف والمازني، فوجئت بأنهم جميعا لا يجيدون عملا غير طهي اللغة وإنضاجها، فحلمت أن أكون أحدهم.

نصحني المازني أن أتزوج، وبالصدفة جاءت زوجتي من بيت مليء بالكتب، ومن أب رأته أغلب الوقت في غرفة المطالعة والكتابة، فعلِقَت بي، ولمّا علم المازني بشّ وضحك وتذكر زوجته، فيما زوجتي لم تسألني قط عن هؤلاء الذين يحيطونني، رأتهم وسمعت بعض أسمائهم، أناييس نن وتروتسكي وإسحق دويتشر وجورج حنين وتنيسي ويليامز وألبير كامو وديستويفسكي، كلهم بالعربي، صادفتْ صورهم في أماكن مختلفة من البيت، مرة واحدة سألتني بعينيها وبغير كلام عن سيمون دو بوفوار عندما رأت صورتها عارية تماما، ظهرها لنا وبعض وجهها يطل علينا من المرآة التي أمامها في غرفة الحمام، وقدمها اليسرى مرفوعة ومستندة على شيء ما، بعينيها وبغير كلام طلبت مني أن تراها ثانية، ثم ابتسمت ونظرت إلى وجهي بإشفاق فتململتُ، وتمنيت أن تسألني عن الثورة الدائمة والثورة المغدورة، تمنيت أن تسألني عن شيء نزهد في الكلام عنه، عن أم كلثوم، أو عن الجوائز مثلا، لكنها سألتني عن نفسي، ولمّا انصرفتْ، رأيت المازني، فسألني هو الآخر عن نفسي، ثم فجأة خلع جهاز إطالة ساقه، ومشى أمامي، كان يعرج وكنت أسنده وأعرج مثله، وعند المنحنى تركته وعدوت خلف ظلي.

أصل النص حوار أجرته مع الشاعر في القاهرة: سارة رمضان

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.