أوروبا المخطوفة وأوديسيوس الذي لن يعود
الميثولوجيا اليونانية أرادت أن تكون القصّة سابقة لعصرها، قصّة “يوروبا” أو “عروبة، الفتاة الفينيقية، ابنة أجينور ملك صور، التي خطفها الإله زيوس متن كراً في زيّ ثور أبيض، وهو ما فتح المجال لتعدّد النظريات بقدر ما يمكن أن يجنح إليه الخيال، على حدٍّ سواء، في الأسطورة أو ما يتفتّق عنه العقل من اعتقادات وفرضيات، بيد أن الاسم ما زال يُخال لغزاً محيّراً.
فهناك علماء اتّبعوا المنهج اللغوي، وانتهوا إلى القول أن اسم أوروبا هو اسم وصفي، ويرجعون إلى اللغة اليونانية القديمة لتحليل جذورها، وذلك بجمع كلمتي eurys التي تعني “واسع”، وكلمة ops بمعنى “الوجه” أو “العن”، بغية الو صول إلى معنى “النظر الواسع”، كوصف لخط الساحل العريض لأوروبا كما كان يراه البحارة اليونانيون من سفنهم أثناء رحلاتهم المتكررة من ساحل إيجه إلى أعمدة هرقل. بينما رأى علماء آخرون بأن أصل اسم أوروبا موجود في اللغة الأكادية السامية التي كانت شائعة في باد ما بن النهرين القديمة، ويشرون إلى أن الكلمة الأكادية erebu تعني “غروب الشمس”، والسبب، من منظور بلاد ما بين النهرين، أن الشمس تغيب في الغرب، فوق أوروبا، ويستشهدون بالكلمة الأكادية لشروق الشمس، asu ، التي يعتقدون أن اسم آسيا مشتق منها. فمن منظور شعوب باد ما بن النهرين، كانت الشمس تشرق من آسيا.
والحال، نحن ما زلنا أمام اسم يؤجج تخيّلنا ويدفعنا لأن نبحث عن فحواه ودلالته، حتى لو كلفنا ذلك عبور البحر على متن زورق مطاطي، وليس على ظهر ثور فتيّ كما فعلت سالفتنا البعيدة. ويبدو أن الشعراء، برهافة النفس وبذلك الهوس الذي لطالما دفعهم للتعمّق في الأشياء وسر أغوارها، هم الوحيدون الذين تمكّنوا، على مختلف مشاربهم، أن يمن حوا هذا الرواية دفقاً من الالهام تتجاوز فيه الشاعرية حدود الالتباس وتنقلنا إلى عوالم أبعد من المجاز، لتخلق منه، من بين الأشياء الأخرى، ر مزاً معا صراً لمأساة باتت اليوم تشغل العالم برمّته، أي اله جرة الكثيفة من دول العالم الثالث إلى القارة العجوز.
وقد كتب العديد من الشعراء قصائد حاو لوا من خلالها ربط هذه الأسطورة بموضوع معاصر، مثل قصيدة “قصة أوروبية:
أصل الابتسامة الساخرة” ل جاي فوكس ا لواردة في هذا المقال المترجم، وقصيدة ال شاعر السوري، المولع بالأساطير، نوري الجراح، الذي يتوجه مباشرة إلى الإغريق متسائلاً، ب حرة أو بقصد، في “أنشودة أوروبا”، كيف تخيّ لوا، بل كيف تجرّؤوا على الخيال بأن زيوس، ذلك الذي ابتلع زوجته ميتي خشية أن تنجب له ابناً أعلى منزلة منه، أن يغري أ مرة من صور، ويشر عليهم، حتى بعد قرون، أن يلجؤوا إلى لقيانوس السميساطي (سميساط، سورية 125 - 180 ميلادية)، ألم يكن هو القائل لو نتجاهل الأسطورة الإغريقية الدينية لما بقي للإغريق شيء واحد يفتخرون به ولما توا جوعاً:
أنشودة أوروبا
ما الذي جعل الإغريق يتخيلون أن ثوراً
أعرج يمكنه أن يغري أ مرة من صور،
لأبرح برفقته مطلع الشمس إلى أرض
الظلمات،
وبباب قصر أبي يركع البحر،
وتنزل السماء لتمأ الحدائق بالأنجم
والكواكب.
يا للخيال الإغريقي الجامح،
حتى الحداد الذي ولد في ميلوس
ولم يسمع بجزيرة اسمها ميكونوس
لن يقبل بهذه الفكرة ..
إيسوبوس أيها البارع في تلفيق الحكايات
ارو لنا عن أميرة في الشرق حكاية أخرى!
ولو اضطررت إلى مثال،
عليك بأبوليوس وجحشه الذهبي،
ولو أردت شيئاً مجرباً حقاً، ويمكن له أن
يبقى في ذا كرة الإغريق
وأسلافهم الفينيقيين
عليك بلقيانوس السميساطي فهو سيد
الكلمات.
لندن 2022
ساؤلات ربما نجد بعض أجوبتها في هذا المقال للكاتب الإيطالي صامويل ريت سولي، المختص في الأدب المتعلق برحات الأمل المعاصرة والقديمة في البحر الأبيض المتوسط، والتي غالبا ما انتهت، وما زالت، بكوارث مأساوية.
أدب الهجرات من خلال النصوص الشعرية إذا ما أردنا تحليل الشعر المهاجر حول رحات الأمل، في النصوص الواردة هنا، يمكننا تحديد ظاهرة أدبية تستجيب مباشرة للوقائع في البحر الأبيض المتوسط.
فرى أن هذه الوقائع أصبحت الموضوعات الرئيسية التي يُبنى عليها الخطاب الشعري من خال كتابة قصيدة حضرية تهدف إلى إعطاء مغزى للواقع الراهن.
وبالفعل، تمكنت محتويات هذه القصائد من تحديد الخطوط العريضة لسرد الهجرات في البحر الأبيض المتوسط، التي تركّز وتتوقّف عند المراحل الفردية والجوانب واللحظات التي تكوّن الرحلة، مما يجعل الموضوعات الشعرية متكرّرة. بهذا المعنى، يبدو أن هناك، من قبل المؤلفين، العزم
على جعل القصائد الشعرية يوميات سفر، التي تلخّص المراحل الرئيسية، سواء المادية أو تلك الكامنة في دواخلهم، للمسار المأساوي لرحلات الأمل. وكما يقول دوناتو دي بوتشه، فإن البحر المثار هنا يصبح أيضًا “روح الشعراء”، وقصائدهم “أطواف من الحر”.
من وجهات نظر مختلفة وأشكال لغوية متعدّدة، تم تحديد ح قول الموضوعات التي تتوافق مع تلك اللحظات البارزة والأكر رمزية في تجربة اله جرة، بما في ذلك اليأس كسبب للهروب، والمهرِّب كرمز لجريمة الاتجار البشري. بينما جزيرة لامبيدوزا كمكان فاصل بن عالمن، ومركز
استقبال، أو بالأحرى “معسكر اعتقال حديث”، عدا عن كونه رمز الرفض، وغرق المراكب، وفقدان الحياة في البحر، إلى جانب وطأة الألم والمعاناة التي تميّزهم.
من خال استعادة الموضوعات الموجودة في المادة الشعرية، من الممكن تتبّع القيمة السردية والاجتماعية للأحداث التي يذكرها المؤلفون، وبالتالي استكشاف رحلات الأمل من منظور، بالتوازي مع التحليل النقدي لمراحل اله جرة، يصف جوانبها بشكل أعمق وأكثر إنسانية. مقارنة بسرد الوقائع المأساوية، ينجح الشعر في تقديم تفسر قادر على تمثيل الإنسانية في حالة اله جرة التي لا مفر منها، مما يوحي إلى إدراك متواصل لله جرات المعاصرة من خال نظرة إلى الماضي.
النموذج الأسطوري للمهاجر
تميل القصيدة الشعرية إلى إفادة وجود مهاجرين يتجاوزون السياق التاريخي والج غرافي، وينفتحون على تأمل وجودي يوسّع النظرة إلى الإنسانية التي هي بطبيعتها مها جرة. في هذا الصدد، نلاحظ كيف أن العديد من القصائد التي تم اختبارها تستحضر قصصًا وشخصيات من الأساطير، مما يؤكد كيف أن حركة الهجرة كانت دائمًا بُعدًا وجوديًا للإنسان نفسه.
“هيكوبا توقف عن البكاء” لسيباستيان أ. باتانِهْ فرّو، “أنتيغون في أبوليا” لبريندا بورسر، المهرِّب الذي يقُارَنُ ﺒ “كارون” ] 1[، وكذلك شخصية ثيتيس، الحوريات السماوية، لإينيس، لطالوس، ولاوكون، جميعها تكرّر وتمثّل هذا الاتجاه.
رمزية قصيدة “قصة أوروبية: أصل الابتسامة الساخرة” لجاي فوكس، حيث يعود نفس تاريخ أوروبا وأساطيرها، فيما يتعلق باله جرات المعا صرة، لخلق تجانس بن العصور القديمة الأسطورية والحاضر.
تذكر الأسطورة اليونانية عن اختطاف الفتاة أوروبا على يد زيوس، “الثور الجاث”، برؤية القارة التي تعود أصولها إلى أفريقيا وهي “فرع من آسيا” و”حفيدة ليبيا”.
إعادة إصدار الأسطورة التي تصف التاريخ الحالي لمنطقة البحر الأبيض المتوسط بأنه تدفق للشعوب نحو أوروبا “المغلقة” الآن أكر من أي وقت مضى، “مذعورة من وصول الآخر”، “حارسة الضفاف”. وهكذا تستمر تحركات الناس “بعد آلاف السنين” في إثارة الصراعات والمخاوف، ويعود المهاجر إلى كونه “الآخر”، و”المهاجر غر ال شرعي القديم”، ووصوله هو “الا خراق المخيف”:
لقد اختطفها الثور الأبيض الفتيّ الجاث،
الفتاة اللطيفة
التي انحنت لتداعب خطم
الحيوان الوديع
ابنة ثيتيس ] 2[ وأوقيانوس ] 3[
شقيقة آسيا، حفيدة ليبيا.
بلا جدوى كانت الصرخات الملتاعة
ولا الإيماءات
المحمومة طلباً للعون
بسرعة البرق
انساب على الأمواج
من وسط البحر.
جرّها الثور العظيم
إلى جزيرة كريت
وهناك
على هيئة نسر
نال من عفّتها
شقيقة آسيا، الحورية اللطيفة
يا له من فراق لا يطاق
كان هناك )لاحقا( من
زعم نسبها
للغرب القصيّ.
يوروبا حبيسة في جزيرتها
أنثى بالغة
والدة م لوك المستقبل وقضاة العالم
ا لسفلي
مذعورة من وصول
“الآخر”، ربما أناس من سردينيا
من الغزوات المخيفة
توسلت إلى هيفايستوس ] 4[ ليصوغ لها
عبداً أميناً من البرونز
لحراسة الضفاف
ومن المعدن وُلِدَ طالوس ] 5[
السلف من سلالة الآلات
الجدّ الأكبر للمتمرد غولم ] 6[
عملاق من الصلصال.
طالوس، المتوهّج
كان يهاجم من تُسوّله نفسه
الدنوّ من الشاطئ
يمدّ ذراعه
ولما يشدّهم إلى صدره يحرقهم
ويلوي فمه من الألم.
هؤلاء المهاجرون غير الشرعيين القدامى
ترتسم على الشفاه ضحكة ساخرة
مرّت آلاف السنين
أعيد تكوينهم مرات لا تحصى
أراضي آسيا وأوروبا وليبيا
الآن الرادار ] 7[ Elm-2226
هو طالوس المستجدّ
]…[
بوفرة يُطرَدون
أبناء آسيا وليبيا
ودون أثر لابتسامة
يُودِعونهم السجون.
]…[
يتمرّدون معاً نسل أوروبا اليوم
ومن آسيا وليبيا
على درب الأشْتِيَة
التي تفوح بالكاليكانثوس ] 8[
وبالرِبَاع ] 9[ المحُتملة
وبالعوالم الجديدة والقديمة
متخطّياً بجرأة وفخر
أعمدة هرقل للبحث
عن قصّة ليست من تلك القصص
النتنة المعتادة المتوارثة عبر آلاف السنين.
بن الأساطير والحاضر، أصبحت اله جرات رحلات رجال شجعان ويائسين، في إشارة إلى النموذج الأصلي التأسيسي للثقافة الغربية الكلاسيكية، والتي، بالنسبة إليها، تمثل الرحلة التجربة التعليمية بامتياز. رمزية هي شخصية أوليسيس، الشخصية الأسطورية للمسافر والأجنبي، التي تذكرها تشامبرز كمرجع مؤسس للثقافة الغربية وبالتالي كنموذج للتاريخ القادم: إذا كان أوليسيس هو الشخصية الأسطورية للمسافر والأجنبي الذي تبدأ
معه تلك القصة )الأوروبية(، فلا تزال هذه القصة مستمرة مع شخصية المسافر والأجنبي.
من خال التناقض الخطابي بن المهاجر المعاصر، الفقر والمحُتقر، والطابع الأسطوري لأوليسيس، البطل الكوني، ينتج الشعر تغ يراً في المنظور في تصوّر الهجرة. إن المهاجر غر ال شرعي، وهو استعارة للبطل المعاصر، ينطلق ويجسّد رحلة الذا كرة والرغبة نحو وطن با اسم
وعالم با حدود.
تم التعبر عن هذا المفهوم بشكل جيد في قصيدة “مخيم اللاجئن” التي كتبها ف. فيرّاريسّو والتي يتم فيها تمثيل المهاجر غير الشرعي على أنه أوليسيس المعاصر:
]…[
أوليسيس مجهول الاسم الذي ليس لديه
إيثاكا أو زوجة
يطلب حق اللجوء
ويريد أن يذهب إلى البحر، وإذا نظرت إليه
ستجده
مضاعفا في كل الوجوه
مليونان أو ستة ملايين مهاجر غير شرعي.
كما يستخدم الشعراء شخصية أوليسيس لتذكّر حالة عالمية لا تتعلق فقط بالمهاجرين، بل ينظر إليها الشاعر نفسه عى أنها حالة وجودية من الغرابة،
كلجوء من قبح العالم المحيط ووحشيته.
كما يتذكّر دوناتو دي بوتشِهْ، في مقدمة أنطولوجيا “مهاجرون غر شرعيون”، فإن المهاجر غير الشرعي هو أيضًا الشاعر “الذي يكافح ضد تناقضاته واختلافاته، ومصره وشبكة علاقاته الخاصة مع الآخرين ومع العالم”، العالم الذي يشعر منه بأنه مُجبر على النأي بنفسه، ولذا فهو يعتر نفسه منفياً منه.
رحلات الأمل بين الماضي والحاضر، النزوح والهجرة
يتطابق استحضار الشعر الغنائي للماضي التاريخي القريب بالتوازي مع الماضي الملحمي البعيد. تُروى قصص الرحات البحرية، والتي تُظهر كيف كانت الهجرات دائمًا، عبر التاريخ، تتسم بالمعاناة والظلم.
في هذا الصدد، تُذكّر كلمات تشامبرز كيف يظهر ذلك التأمل في تاريخ اله جرة. إن مهاجري اليوم، رغم أنهم غالبًا ما يبعثون عى الخشية، ومُحتقرون، وعرضة للعنصرية، هم تذكر تاريخي بحقيقة أن البحر الأبيض المتوسط ، الذي يعتر أصل أوروبا وال غرب، هو دائمًا__ جزء من مكان آخر؛ تمامًا مثل قصصها وثقافاتها وشعوبها )بما في ذلك 27 مليون إيطالي( الذين هجروا باستمرار شواطئهم إلى أماكن أخرى.
هنا مرة أخرى، يظهر اهتمام خاص لمنطقة البحر الأبيض المتوسط كمساحة تمثيلية، تتجاوز إحداثيات الزمان والمكان المعاصرَيْن.
باختصار، “النزوح، اله جرة، التواجد في المنفى والتشتت، ليست قضية حديثة، لأنها تؤثر على كامل النطاق الزمني للحداثة، من لحظة اكتشاف العالم الجديد إلى و صول المراكب على السواحل الشمالية للبحر المتوسط في أيامنا هذه”.
يتجسّد الفكر الشعري في تذكّر الهجرة الإيطالية، على وجه الخصوص، باعتبارها لحظة مقارنة أساسية لفهم نقدي لرحلات الأمل. تهدف الإشارة المستمرة إلى الهجرة الإيطالية إلى التأكيد على فقدان الذاكرة التاريخية للشعب الإيطالي، الذي ترك أرضه لقرن كامل بحثًا عن آفاق أفضل للحياة.
قبل أن تصبح إيطاليا بوابة لأوروبا، كان “المهاجرون غير الشرعيين” الذين هربوا هم بالضبط الإيطاليون، الذين كانت رحلاتهم أيضًا رحلات أمل، والتي، كما يتذكّر جان أنطونيو ستيلا، كانوا “يُخَزَّنون في الدرجة الثالثة”، في ظروف مروّعة من “البؤس والتدهور الصحي والصحي والمعنوي”. ] 15 [ “هجرة جماعية” حقيقية شهدت من عام 1876 إلى عام 1915 خروج مهاجرين إيطالين إلى البحر على من قوارب عُرفت
آنذاك بأنها سفن الموت، والتي على الرغم من أنها تتسع ل 700 شخص، كانت تبحر وعى متنها أكر من 1000 شخص.
كانت حالة سفينة ماتيو بُووتسو رمزية، في عام 1884 ، “تم رفضها من قبل سلطات مي ناء أوروغواي حيث تفشى وباء أث ناء الرحلة الذي أدى إلى موت وإصابة 1333شخصًا يائسًا بالعدوى”. كان هذا النزوح، الذي يشبه اله جرة الحالية، قد ترافق مع قصائد شعرية، مثل قصيدة: “المهاجرون” التي كتبها إدموندو دي أميتشيس في عام 1882 ، حيث يبدو وصف ظروف الرحلة آنيا بشكل هائل:
]…[ مُكدّسون هناك مثل الخيول
في جليد مقدمة السفينة الواجفة من
الرياح
يهاجرون إلى أراضٍ مجهولة وبعيدة
رَثّون وسُقَماء
يعبرون البحار للبحث عن لقمة العيش.
مخدوعون من مُتاجِرٍ أفّاك
يمضون، محطّ هزء للأجنبي،
دواب للحمل، أقنان مُحتقرون،
لحم للمقبرة،
يروحون ليرتزقوا الكربة في ضفاف
مجهولة ]…[
رحلات الأمل، تلك التي قام بها المهاجرون الإيطاليون بأعداد ك برة دون أن يملكوا أدنى يقن من وصولهم إلى وجهتهم، وتعرضوا هناك لحالات عديدة لغرق السفن، مثل حادثة يوتوبيا في عام 1891بال قرب من مي ناء جبل طارق حيث مات 576 مها جرًا إيطاليًا، وكذلك في حادثة غرق سفينة بورغونيي في عام 1898 بالقرب من مقاطعة نيو سكوتلاند الكندية، و 550قضوا حتفهم في غرق سفينة سريوس في عام 1906 عى صخور قرطاجنة في جنوب شرق إسبانيا، وأيضاً الأمرة مافالدا، السفينة الرائدة في الأسطول التجاري الإيطالي التي غرقت في 26 أكتوبر 1927 ، “غرقت بحمولتها من الف قراء على بعد 90 ميلا من ريو دي جانرو، مما تسبب في مقتل 657 شخصًا”.
وهكذا تعرّ القصيدة عن الوعي بأن “مهاجر الأمس، الذي غادر جنوة ليهبط في بوينس آيرس، ومهاجر اليوم، الذي يغادر دكّا )عاصمة بنغلاديش( ليجد نفسه متروكاً لمصره على أحد شواطئ مقاطعة بوليا في جنوب إيطاليا، منفصلان في الزمن لكنهما متّحِدَانِ في التاريخ نفسه”. كما تأكد ذلك في قصيدة “سقط التاريخ” حيث يعبّر فيها ف. فيراريسو عن نفسه بالكلمات التالية: “ الحرب هي اليوم”، على الرغم من أن “كل شيء كان بالأمس”، للتأكيد على كيف أن التاريخ الذي انعقدت أواصره في البحر الأبيض المتوسط ، مآله الضياع.
المنسي هو هيكلها ونتائج تلك الرحلات واله جرات العديدة التي حدثت على مرّ الزمن بحيث أن ما يحدث اليوم قد حدث بالفعل، وعلى عكس ضمير البشر، سجّله التاريخ.
]…[ التاريخ يحكي بوضوح متى وماذا
حدث ويحدث.
يحدث التاريخ في جميع الأوقات.
من هذا المنظور، يصبح المهاجرون أبطال جميع العصور، “إخواننا المهاجرون” كما هو الحال في قصيدة لوتشيا غويدوريتي حيث ن قرأ “نحن الذين كنّا أنتم/أنتم من كنّا نحن”، وهي صيغة موالفة لظروف جماعية. تصبح المجموعات السكانية مُختلِفة اللغة الجغرافية الأصلية للتاريخ البيولوجي الم شرك، وهي رواسب كل مجموعة عرقية مرّت وهي موجودة الآن في دمائنا.
وللمفارقة، الحالة الجماعية التي تكشف عن ظلم اله جرة، بقيت عى حالها بمرور الوقت أيضًا، كما في الحالة الإيطالية، بسبب قصر النظر، القائم عى إنكار ذاكرة ماضي الهجرة. في هذا الصدد، تعتر كلمات آنا أنتوليزِيْ في خاتمة مختارات “المهاجرون السرّيّون” مهمة، التي تؤكد الرغبة الشعرية لضمان أن تستعيد إيطاليا هذا الوعي، والعودة لكي تلتحم بالتقاليد المؤلمة للأجداد المهاجرين، واستئناف وإعادة تقييم ذاكرتهم الباهتة، وبالتالي تعديل، إن أمكن، غطرسة أولئك الذين، من بن الآباء المنسيين، الذين ينكرون للمهاجر غير الشرعي – الآن وهنا – ما تم إنكاره لهم، في
مكان آخر، ضمن إطار دراماتيكي واستئلاف مُختطف.
حاشية على الترجمة
بعد أن فرغت من ترجمة مقالة صاموئيل ريت سولي، وجدتني أعود إلى شاعر قصيدة “أنشودة أوروبا”، لأستعيد معه واحدة من أكر قصائده شيوعا وترجمة إلى لغات المتوسط، وأعني بها قصيدته “رسائل أوديسيوس” المكتوبة سنة 1992 ، والمنشورة في مختارات أعدها الناقد خلدون الشمعة وصدرت في القاهرة سنة 2009 ، فهي في نظري التمثيل الأنضج لصوت الشاعر في المنفى، والتعبير الشعري عن المصير التراجيدي للمنفي، فهو أوديسيوس الذي لن يعود أبداً.
رسائل أوديسيوس
مَنْ جاء بيتي ساعَةَ لمْ أكنْ ورأى الدمَ في
السَّتائر
مَنْ لمسَ الباب، مَنْ طافَ في الغُرَفِ
من نَظَرَ سريري؟
أنا لستُ أوديسيوس حتى يكون لي
معجبون
قرؤوا قصتي، وجاؤوا يعزّونني
لا
ولستُ أوديسيوس
لتكون لي أختٌ
تُطرِّزُ
على الماكِنة
شالاً، أو قميصاً
لشقيقها الغائب.
لستُ أوديسيوس
لامرأة ماتت ودُفِنَتْ تحت السلَّم
لستُ أوديسيوس
لأمٍّ.
لستُ أوديسيوس
لابنٍ.
لستُ أوديسيوس
لأختٍ.
أنا لستُ أوديسيوس
وهؤلاء الذين صُرِ عوا وتَخَبَّ طوا في فِناء
منزلي
صَرعَهُمُ القَدَر.
مَنْ جاءَ بيتي في عَرَبةَ
مَنْ جاءَ خفيةً
وعندما لمْ أكُنْ
مَنْ فَتَحَ الخزائنَ وقَرأَ رسائلي التي أرسلتُها
إلى نفسي
أنا
أوديسيوس
الميَْتُ في باخرة.__
لندن 1990
هوامش
] 1[ وفقاً للمعتقدات اليونانية، والإتروسكية والرومانية، كان كارون يحمل أرواح ا لموتى من أحد ضفتي نهر أكرون إلى الضفة الأخرى )كما في الكوميديا الإلهية( أو إلى نهر ستيكس )حسب أساطير اليونانيين والإتروسكيين والرومان(، ولكن فقط إذا كانت جثثهم قد تلقت التكريم الجنائزي الطقي، أو بمعنى آخر، إذا كانت لديهم قطعة نقدية ص غرة لدفع ثمن الرحلة؛ أولئك الذين لم يحوزوا عليها، يجُرون عى الب قاء إلى الأبد دون سام في ضباب النهر )أو، وفقًا لبعض المصادر الأخرى، لمدة مئة عام(.
]2[ thetis هي شخصية من الأساطير اليونانية، كانت لها أسطورة مختلفة، وتظهر بشكل رئيسي على أنها حورية البحر، إلهة الماء، أو واحدة من حوريات نيريد الخمسن، بنات إله البحر القديم نيريوس.
] 3[ في الأساطير اليونانية، يعتبر أوقيانوس عملاقًا، ابن أورانوس )السماء( وغايا )الأرض(، وزوج ثيتيس، التي أنجب منها ثلاثة آلاف من الأوقيانوسيين الصغار وثلاثة آلاف من البوتاميين )من Potamòi ، نهر باليونانية( وبالتالي كانوا يجسّدون إحدى قوى أسلاف الطبيعة.
] 4[ هيفايستوس في الأساطير اليونانية، هو إله النار والصياغة، والهندسة، والنحت، والتعدين.
] 5[ طالوس، في الأساطير الإغريقية، هو رجل من النحاس صنعه هيفايستوس لمينوس ليحرس يوروبا في كريت، وكان يت جول عى طول شواطئ كريت ثاث مرات يومياً.
] 6[ في الأساطير اليهودية لأوروبا الوسطى والشرقية، إنسان بهيئة بشرية شنيعة، والذي يمكنه أن يستمد الحياة.
]7[ EL/M-2226 هو نظام رادار ما بعد الأفق، طورته شركة صناعات الف ضاء الإ سرائيلية ويستخدم للمراقبة الساحلية، لكلا الأ غراض المدنية والعسكرية.
] 8[ تعيش هذه النبتة في أميركا الشمالية، أزهارها كبيرة ذات لون أحمر داكن معطرة بقوة بالخلِّ العطري، تتفتح في الصيف؛ وهناك أيضاً نوع ثان من الفصيلة نفسها ينبت في اليابان والصين، ذات أزهار صغيرة، ولكنها عطرة للغاية، تتفتح في الشتاء.
] 9[ جمع ربيع.