ما وراء انتفاضة شباب الضّواحي
منذ مطلع الألفية، ما انفكّت التحرّكات الشعبية تتوالى في فرنسا، منذرة كلّ مرة باندلاع حرب أهلية، بعبارة أكثر من معلق ومحلل. فالطبقات الضعيفة، إذ سحقتها رأسمالية في طور الاحتضار، لم يعد لها سوى النزول إلى الشارع وإثارة الشغب وتحطيم كل ما له علاقة قريبة أو بعيدة بالشركات العالمية ومؤسسات السلطة المتواطئة معها. فهل أن تلك الانتفاضات المتتالية تمهيد لإقرار سياسة مشتركة لدفاع مشروع عن الوجود؟ ولكن كيف السبيل إلى الدفاع عن قيم ومثل عليا دون الاتهام مسبقا بالعنف الاجتماعي وحتى بـ”الإرهاب الفكري” بعبارة وزير الدّاخلية، الذي سبق أن وصف تحرّكات المدافعين عن البيئة بـ”الإرهاب الإيكولوجي”؟
الأنسنة تحيل على عمل الثقافة والحضارة الذي جعل من الفرد كائنا اجتماعيّا وعضوا في مجموعة سياسية ما. والانتفاضة تنشأ حين يتعطل عمل الأنسنة أو يتراجع، تحت تأثير الأزمات الاجتماعية المتلاحقة، ويغدو الفرد مجرد هومو إيكونوميكوس (homo economicus) في النظريات الليبرالية، محصورا في دائرة حاجاته الحيوية، التي لم تعد هي نفسها مضمونة للجميع.
والتاريخ يذكرنا بأن الأفراد مهدّدون على الدوام بتراجع إنسانيتهم الفردية والجمعية. وعندما يحدث ذلك، كما هي الحال اليوم في فرنسا، تحت تأثير الأزمات الاقتصادية والإيكولوجية والنفسية التي تهدد استمرار وجود الجنس البشري في هذا الكوكب، لا يبقى للأفراد من ملاذ سوى الصراع والنضال، بمختلف الوسائل، ليس لأجل قيم كالحرية والمساواة وما إلى ذلك، ولا لأجل الحقوق، وإنما لأجل البقاء. أي أن الجنس البشري، لم يعد أمامه سوى اللجوء إلى العنف للدفاع عن نفسه ضد خطر الفناء.
لقد قامت المنظومة الرأسمالية منذ القرن الخامس عشر على خصخصة كل شيء، حتى البشر، والاستحواذ على خيرات الطبيعة بلا هوادة، وعلى الثروات التي يخلقها العمل البشري، ولا تزال تسطو على كل شيء حتى الأنشطة النفسية الأساسية. وقد دلت أعمال المفكرين الذين اهتموا بالتاريخ مثل ماركس وهيغل أنّ المسار التاريخي إذا أدرك نهايته، لن ينتج سوى العناصر السلبية التي يحتوي عليها. لقد كانت الرأسمالية عامل تقدّم في البلدان الغربية أساسا، ولكنها لم تعد تنتج، حتى في هذه البلدان، سوى تناقضات لا حلّ لها (تفاوت متزايد، أزمة بيئية قاتلة، تشويه كلّ شيء، اتسام كل العلاقات الإنسانية بالعنف…). في ظرف تلك سماته، تحدث الانتفاضة، ولكنها لا تنتأ من خارج المنظومة بل من صميمها نفسه، فالعنف بكل أشكاله المسلط على الأفراد والطبقات الضعيفة خاصة يولّد عنفًا مضادًّا، راديكاليّا، لدى المحرومين والمظلومين.
يمكن أن تساهم أعمال الشغب في خلق ظروف اجتماعية وسياسية لظهور حركات تمرّد وحتى حركات ثورية تهاجم الدولة نفسها، ولكن دون أن تحمل في طياتها ثورة. فالشغب هو في حدّ ذاته منتهى، بلوغٌ لدرجة قصوى، يجد معناه في طبيعته القائمة على الهوشة والهياج والتدمير. وكأنه لحظة إعادة توليد جسد جماعيّ محطّم، أو مهدّد في بقائه من طرف عنف الأوليغارشيا، فهو يحمل ما أسماه فالتر بنيامين “العنف المؤسس” الذي يمهّد لظهور قانون جديد، ونظام اجتماعي في خدمة الجميع، وليس مقصورا على أقليّة بلوتوقراطيّة تحتكر كلّ شيء، ولا تنوي التفريط في امتيازاتها مهما كانت الأسباب. يقول فالتر بنيامين “الطبيعة التدميرية تحطّم ما هو موجود، ليس حبّا في الأنقاض وإنما حبّا في الطريق التي تعبرها”.
ما يلاحظ في الساحة الفرنسية أن ثمة مللا مطّردًا من استحالة التفكير في العنف الاجتماعي خارج أحكام التنديد والإدانة التي اعتادت عليها وسائل الإعلام والماسكين بالسلطة. فالمحللون والسياسيون لا يتحدثون عن العنف إلا لإدانته ورفضه، دون أن يبحثوا في أسباب اندلاعه، فهم يتحدثون في الغالب عن ضواحي باريس والمدن الكبرى الأخرى على أنّها بؤر لشتى أنواع الانحراف، والخروج عن القانون، بل إن بعضهم لا يتردد في وصفها بـ “مناطق فقدتها الجمهورية”، ولم يجرؤوا على القول إنها “مناطق أهملتها الجمهورية”، فسكانها، وأغلبهم من المهاجرين وأبنائهم، يعانون الأمرّين في شتى مجالات الحياة، بدءا بالعمل والتعليم، ولا تواجههم السلطات إلا بالقمع البوليسي، والمراقبة اليومية المشفوعة بالإهانات والشتائم العنصرية، فالنظام المديني بوليسي بالأساس، والمهيمنون وضعوا في خدمتهم وسائل مراقبة وقمع لا تني تتزايد.
ويقولون أولئك المحللون والسياسيون أيضًا إنّ شباب الضواحي يكرهون فرنسا، والحال أن أفراد الجاليات العربية والأفريقية يحسّون أن فرنسا هي التي تكرههم، فلا توفر لهم ما توفر لغيرهم من الفرنسيين أسباب الحياة الكريمة من مرافق وشغل وتربية وعدالة، بل إن من يتداولون على المنابر، وأغلبهم من أصول أجنبية، أمثل حسام جان ميسحا القبطي المصري، ونادين مورانو الإيطالية، وإريك زيمور اليهودي الأمازيغي، لا يتوانون عن شتمهم جهارا وتحميلهم كل أزمات فرنسا. والحال أن فرنسا وكذلك الدول الغربية “لا تريد أن تجعل من المهاجرين عمّالا، بل عبيدا ومنحرفين أو معزولين” بعبارة المفكر الإيطالي رفائيلّي سيموني.
ومن الطبيعي أن يولّد كل ذلك كراهية تتفجّر عند أول مناسبة، كما حدث إثر مقتل المراهق العربي مؤخرا بدم بارد. تلك الجريمة التي كادت تعامل بنفس ما عوملت به جرائم البوليس العنصري سابقا، من طمس للحقائق وتبرئة لأعوان الأمن القتلة، لولا الفيديو الذي صورت فيه عابرةٌ الحادثَ كما وقع، وكذّبت أقوال الشرطي القاتل وزميله المحرّض وحتّى ادّعاء النائب العام.
لتفسير ما حدث بعد تلك الجريمة من أعمال شغب وحرق ونهب، ينفي دوشان أن يكون ذلك انسلاخًا عن المجتمع، ويعتبر أنّه عودة إلى الجسد المشترك، لأن الفرد كما يقول عالم النفس الفرنسي هنري والّون كائن أنشأته المجموعة، ثم تنشأ الذّات الفردية فيما بعد. وأثناء الهزات الاجتماعية تتم العودة إلى الجسد الأصلي بشكل يقطع مع تلك الفردانية، بل وينتصر على الفردانية الليبرالية الراديكالية. ويضيف دوشان “أحاول أن أنظر نظرة مختلفة إلى ما يتبدّى ظاهرة جنون اجتماعي، وتفجّر عنف، وهجمة قتالية غير مفهومة. لقد لاحظ الجميع أن المشاغبين حطّموا مراكز اجتماعية جُعلت لأجلهم وأحرقوا سيارات على ملك أناس في مثل وضعهم الاجتماعي، ولكن بالاستناد إلى تحليل ميشيل فوكو وعن فكرة الحرب الأهلية كما شرحها إريك هازان، أحاول أن أجد في كل ما جرى شيئا عقلانيّا، ولذلك أدرجتُ هذه الظاهرة في المدى الطويل للتاريخ، مثل حرب أهلية طويلة بين المهيمِنين والمهيمَن عليهم منذ قرون. ولئن بدا أن عبارة ‛حرب’ مبالغ فيها، فحسبه أن يتذكر جواب الملياردير الأميركي وارين بوفيت حينما سئل ما إذا كان لصراع الطبقات من معنى اليوم، حيث قال دون تردد بالتأكيد ثمّة حرب بين الأغنياء والفقراء، وهذه الحرب، نحن، الأغنياء، الذين سينتصرون فيها”.
ويضيف جاك ديشان أنّ نهب المحلات التجارية هو بمثابة نهاية مسار طويل للتسليع، ذلك أن شباب الضواحي يعيشون حياة قاعديّة، ليس فيها سوى التماهي مع الكائن المستهلِك، ولذلك لا يحققون وجودهم إلا من خلال استعراض ماركات السوق العالمية من نايك وأديداس وريبوك وبوما ولاكوست… فهم في حالة فقر اجتماعي أو ما يسميه الفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين “الحياة العارية”، أي الحياة في معناها الطبيعي البحت، ولكن حتى تلك العناصر التي قد توحي لهم بنجاح مزعوم ليست في متناولهم لأسباب اقتصادية معلومة، ومن ثَمّ نفهم اندفاعهم إلى نهب تلك الماركات. لأنّ ذلك النهب هو لحظة استعادة لكينونتهم السّلبية، على غرار نهب القصور ومخازن الطّحين في القرن الثّامن عشر، أي الاستيلاء على الأشياء التي لها علاقة بالحياة التي يحيونها، والمجتمع الذي يعيشون فيه.
ولم يكن أمام الدولة، المالكة لشرعية استعمال العنف، إلا أن تلجأ مرة أخرى إلى البوليس والدرك والجيش في بعض الأحيان لإخماد “الفتنة”، ولكن بدل استخلاص العبرة، جنحت لاستغلال غياب توازن القوى في علاقة المهيمِن بالمهيمَن عليه لتفرض حلولا قمعية تغلّفها بخطب وعظية أخلاقية أو بما يسمّيه نيتشه بالـ”مورالين”، ذلك الخليط السامّ من الأخلاق الأولية، الثّنائية، حيث يكتفى بالحكم عمّا هو حسن أو سيّئ مُدانٌ أخلاقيّا. ومن الطبيعي أن تنتهي هذه الانتفاضة مثلما انتهت مظاهرات المناهضين لترفيع سنّ التقاعد، ولكن الغضب باقٍ، وسوف يظل يوفّر مزيدا من “الوقود” للانتفاضات القادمة.
في “مديح الشّغب” يقول جاك ديشان “الشغب ليس قوة تسارع، بل محاولة لإيقاف زمن السّلطة”.