أيامنا التي ولا أحلى
امتثل “متعب”؛ سائق باص “حرفون”، وثعلبها، إن جاز تسمية ما احتلّ “خالد” مقعداً من مقاعده باصاً، لطلبه الغريب، ودوما سوف يلتزم “متعب” بما يطلبه منه أستاذه الحاليّ وتلميذه القادم، فأنزله عند شجرة تين جرداء، في أوّل إمساكٍ جدّيّ لأنظار رُكّاب الباص للملامح الكاملة لتلك القرية الحدودية كما تبدو من الطريق العام. والمدرسة التي سيعلّم “خالد” أولادها، أولى فتوحاته في هذا العالم، لن تكون في المكان الذي نزل فيه، بل على رأس تلةٍ تكاثفت من حولها بيوت القرية صانعةً ما يشبه “سفينكس”؛ “أبوالهول”، وسيكون أوديبها القادم، مفكّك ألغازها، وملكها المتوّج!
وذلك الذي خطّطه “خالد” في ذهنه، في الأيام الماضية، حدث بدقة متناهية، وفق المخطط المرسوم. فلا أحد، في الكراج، ولا طوال الطريق، الذي استغرق ساعة ونصف الساعة، سأله لِماذا أراد أن ينزل حيث أراد، ولماذا هو ذاهبٌ أصلاً إلى تلك القرية، التي يمكن منها، كما قيل له: الإطلال على الجولان المحتلّ، المنطقة التي لا يمكن الوصول إليها إلاّ بتصريحٍ معتمدٍ، بعد تدقيقٍ مُفصّل من فرع المخابرات المسمى “فرع منطقة دمشق”.
ولم يكن اختيار “خالد” لشجرة التين، الشجرة التي لو تمّت الأمور كما هو مخطّط لها، فقد كانت ستُمنْحُ شرفَ استضافته في أولى لياليه، قريته الأولى، أوّل تعميدٍ له بالنار والدمّ، لمهنةٍ لن يطول به الأمر ليكتشف أنه لم يُخلق لها، ولم تُخلق للنزقين من أمثاله، ممن لا يكون منهم سوى الأحلام الوردية، لم يكن ذلك الاختيارُ الأخرق، وهو أخرق بكلّ المقاييس، إلا بمقاييسه الخاصة، الشجرة التي لا وجود لها، لا في تلك البقعة ولا في غيرها من بقاع القرية، كُرهاً منه بالناس، أو هروباً منهم، وبالأحرى أن نسمّيه خوفاً، أو خجلاً، أو انكفاءً نحو أصوله البرجوازية الصغيرة، كما سيحلو لرفيق السهرات:
” حسن “
أن يقول:
” إنّ تأسيساً نظرياً يتغذّى من منشورات” وكالة نوفستي وحدها، قال “حسن” يخاطبهم في إحدى السهرات، لن يصنع منهم في خاتمة المطاف سوى بكداشيّين، تحريفيين، والأفضل أن يعودوا مثله إلى الأصول، إلى الكتابات النظرية الرئيسيّة، للمؤسّسين الأوائل”.
” حسن” الباكونيني، التروتسكي، الماوي، والذي من أجل أن يريهم، قبل عامٍ، أو عامين، تختلط الذاكرة، أنه بات يتجاوزهم بأشواط في مسألة التحلّل من التقاليد المجتمعيّة البالية، هكذا سمّاها، اصطحب إلى “صالة الحمراء” في بوابة الصالحية، أخته الصبية “إلهام”، كانت حينها في الحادية عشرة، علمي، لكي تحضر معهم عرض المسرح القومي لمسرحية:
” وفاة بائع جوّال” لآرثر ميلر.
” حسن” الذي انشق عن الحزب قبل أن يدخله، واشترط من أجل دخوله خربطةً فكرية عارمة، تقلب الحزب عاليه سافله، هكذا سمّى “حسن” تهيّب “خالد”: رفيق طفولته، ابن حارته، من مواجهة قرية “حرفون” وأهلها:
” نزعة برجوازية صغيرة”.
فكأنه عثر بذلك على كنزٍ دائم التجَدّد، يدين من خلاله “خالد” لأبد الآبدين. وعلى أيّ حال فلا ينبغي أن نستغرب مثل هذا الاتهام من “حسن” إلى “خالد”، كما ولن نستغرب أيضاً، إذا عرفنا أنهما كانا في الكثيرٍ من السهرات المخصّصة لمناقشة أفكار نظرية عميقة، يعودان متخاصمين، كلٌّ يمشي على رصيف. فتلك هي نفوس بني البشر عندما تمتلئ إلى تمامها، كما امتلأت نفوس أولئك الشباب، بعقائد خلاصيّة. لم يكن ما رسمه “خالد” قبل أن يصل إلى تلك القرية حدوداً صارمة لأوّل اتصالٍ له مع الطبقة المركزية الثانية من طبقات المجتمع:
” طبقة الفلاحين”.
سوى خجله، هو الولد، من أناسٍ أغراب عنه، يلتقيهم ويلتقونه للمرّة الأولى في حياته، وفي حياتهم. تلك هي حدود المسألة. فهو سوف يُعلّم أولادهم عاماً أو عامين، وفوق هذا ينوي، إذا مضى كلّ شيء كما هو مخطّطٌ له، أن يبثّ فيهم وفي أهلهم أفكاره الجديدة بخصوص الكون الذي نعيش فيه:
النضال لخلق مجتمعٍ خالٍ تماماً من التناحر الطبقيّ!
وكان ينوي، وينوي، ولكن ليس منذ لحظة الهرج والمرج في كراج القنيطرة، ولا في باص “حرفون”، ولا حتى فور وصوله: الساعات الأولى، دوّخه التفكير فيها في لياليه الماضية؛ دوّخه البحث عن الإمكانات العديدة لانقضاء ذلك اليوم؛ وصول ما لا يريد إلى ما يريد.
كانت لحظات رهيبة، غريبة عن مألوف حياته؛ كما عاشها منذ أن جاء إلى دنيا البشر: النوم خارج البيت، وخارج الحضن الدافئ للعائلة، والمناكفات الدائمة بخصوص الدراسة:
” لا اتطوّل برّية البيت هَهْ. من شان ترجع لدروسك ووظايفك، فاهم؟. “
” فاهم! “.
وبعيداً عن غزواته الغرامية المخفقة، وعن المماحكات الفكرية مع أصدقائه التاريخيّين، أولاد حارته، والذين كانت السهرات عندهم في بيوتهم، أو عنده، في بيته، الذي ليس له فيه سوى غرفة الضيوف، لا فرق، تمضي ولا أحلى من هيك. فهذا الفقس الجديد، الأولاد الذين كانوا إلى قبل ثلاثة أو أربعة أعوام مراهقين ومشكلجيّة، من طراز عصابي رفيع، وإن لم يرقَ، والحق يقال، إلى مستوى “عصابة موقف الدوّار”، لو انكمش بعضهم وهم يقترفون ما كانوا يقترفونه فلربما صاروا مجرمين، خرّيجي حبوس، هؤلاء الأولاد باتوا الآن يحكون بماركس وإنجلز ولينين وغيفارا وهوشي منه والجنرال جياب، وما عاد لأهلهم من يوم أن انتقلوا، من إعدادية المالكية، التابعة لوكالة الغوث في “مخيم اليرموك” للدراسة في الشام: أولاً: في “ثانوية الكواكبي”، ومن ثمّ في: “دار المعلمين”.
أيّ خصٍّ بما يفعلونه، نهارهم وليلهم، فكان من ذلك سهراتٍ فكرية وفرفشيّة، تمتدّ بهم إلى وِشّ الصبح!
وحدث ذلك على وجه التحديد ابتداءً من عام 1968، وهم في العام الثاني لهم في “دار المعلمين”. وتواقت في تلك السنة؛ السنُّ الأمثل لنضج الآدميّين، واستعدادهم لتقبّل أفكار أعمق، ثمانية عشر عاماً، مع حدوث نكسة حزيران في صيف العام الفائت. وهكذا، ففي حين مضت سنة 1967 بالنسبة إليهم، كطلبة، بمثابة مطهر؛ رِجلٌ في طفولةٍ بائسة، ورِجلٌ في شبابٍ لم تتّضح ملامحه بعد، وإذ بعامهم الثاني، ومن اليوم الأوّل فيه، يبدأ والأحزاب والتنظيمات الفدائية الفلسطينية، كما ونشاط الأحزاب السورية قاطبةً، ملء الدنيا، ومادّة حديثٍ لا حديث غيره في الفُرَص المدرسيّة، بل وحتى في قلب الحصص الدراسيّة. وبينما كانت فكرة الهروب إلى لبنان انطلاقاً من الجبال المطلّة على “عين الخضرا” تعانق مخيّلاتهم في سنيّ مراهقتهم الماضية كلما صادفتهم متاعب مع أهلهم، متأثّرين في ذلك أشدّ التأثّر بأفلام صباح وسميرة توفيق وفهد بلاّن، التي تعرضها دوماً سينما الكرمل:
” فيلمين دفعة وحدة. أرِّب. رح إيبلّش”.
صارت أغلب أحاديثهم بعد عام 1968 تتركز حول إمكان التحاقهم بقواعد الفدائيّين في الأردنّ، متى حانت الفرصة. فهكذا، تنقلب حيوات الناس وكامل مخطّطاتهم المستقبلية رأساً على عقب، بين سنة وأخرى!
فهل يختلف الانتماء لفكرة، لحزبٍ من الأحزاب عن حكاية عشقٍ، غرامٍ بفتاةٍ ما، قد تحدث للواحد من الناس من أولّ نظرة؟ وقد لا تكون المعشوقة أجمل ما في الكون، ولكنها هي التي بادرت فأمسكت بالشغاف، ونحن مَنْ تولّه بها. كلمة، منشور، شخصٌ أو أشخاص يتهامسون، فيكون أن يناولوك رأس خيط، وتمضي بعده قُدماً؟ والمراهق الذي ارتاع هو وأهله وأهل حارته، ومستوى تفكيره كان على قدّ تفكيرهم تماماً، من هزيمة حزيران المريعة، بالرغم من أنّ الناس فعلوا كلّ ما طُلِبَ منهم، فطلوا زجاج نوافذ بيوتهم باللون الأزرق، وحفروا خنادق في حاراتهم، وسعيد الحظّ منهم مَن تحصّل أيامها على بندقية تشيكيّة، والأهم من هذا وذاك أنهم لم يبخلوا بالعواطف الجيّاشة لمعانقة برهة تحرير فلسطين، كما وعدهم بذلك البعثيون في سوريا، والناصريّون في مصر، ذلك الولد انتقل في عامٍ واحدٍ فقط من المراهقة إلى الرجولة، وبات يقبض في الوعي الذي صار له الآن، في العام التالي على نكسة حزيران، على أسباب أعمق تبيّن لكلّ عينٍ بصيرة أنها هي التي أدّت إلى حدوث كارثة الهزيمة المروّعة، وليس غيرها.
ومن الطبيعي في مراحل التحوّل المفصلية في حياة البشر ألاّ تبقى فكرة من الأفكار الكبرى في هذا الكون إلا وتعرض نفسها. وهكذا، فكما اختار “فؤاد” زعيم شلّتهم، التيار السلفيّ أفقاً له، وكان ذلك خياراً طبيعيّاً لواحدٍ لم تستطع كتب “الأشياء” أن تقنعه بكروّية الأرض. فلو كانت كرويةّ، كما ظلّ يُصرّ، فكيف لا يقع من هم الآن في أسفلها، في الفراغ. وأما باقي أفراد:
” عصابة موقف أبوحسن “
” خالد” و”حسن” و”أحمد”، فقد اختاروا خطّاً مغايراً تماماً:
خطّ النضال الطبقي!
والآن، وبعد أن عرف “خالد” العالمَ على حقيقته الحقيقيّة، هكذا خُيِّلَ له، فقد بات يتوجّب عليه، كما يطلب منه ماركس، تغيير ذلك العالم، فكما أن الفقر أبُو الجريمة فهو أبو الثورة، أيضاً، على حدّ قول أرسطو!
وأولى لحظات التغيير، المواجهة الأولى، يومه الأول في التدريس، في عالمه الجديد، بعيداً عن عالمه التاريخّي، سوف تكون له وحده. فقرّر، هو المغطّس، يعترف الآن، بالخجل، والخائف من أيّ مفاجأة، هو ومهما مَوَّهَ، وراكم قناع الجدّية على ملامحه الطفلية، كانت، قرّر للحظة ألاّ تنفلش، فتجري، بالقلم والورقة، بالسنتميتر الذي يقيس كلّ شيء!
وسيذهب إلى كراج القنيطرة، كان يومها في مُجمّع باصات المحافظات في الحلبوني، قبل يومٍ واحدٍ من افتتاح العام الدراسيّ، وليس قبل يومين أو ثلاثة، كما اقترح والده، يومٌ للوصول ويومٌ للبحث عن غرفة يستأجرها، سيذهب قبل يومٍ واحدٍ فقط، يدّس شنطته بين أغراض الركّاب، لا من شاف ولا من دِري. يدفع الأجرة، وينطق اسم معشوقته الجديدة:
” حرفون “،
كأنه مواطنها الأزليّ:
– على حرفون.
– وين؟
– على حرفون!
– باص حرفون ينطلق يوم الجمعة. تعال يوم الجمعة، وإلاّ فإلى الجمعة التي بعدها!
(أوّلُ فضحٍ لأجنبيّته عن المكان).
وكان هاجسه الأكبر، أن يكون أوّل اتصالٍ له مع أناس قريته القادمة سلساً، متدرّجاً. فيتّجه فور استيقاظه من تحت شجرة التين، الشجرة التي اختارها من بين أشجار الكون، إلى المدرسة، فلا يصل ولا يصل أهل القرية إلى عصر ذلك اليوم التاريخي في حياته إلا وتكون أولى خيوط العلاقات الإنسانية معهم، مع الذين أحبّهم قبل أن يراهم، قد انتسجت على أتمّ وجه!
سلاسةٌ وتدرّجٌ سوف يتيحان له مدخلاً أمثل إلى عالم الفلاحين، الذي وإن كان إلى لحظتها يجهل ما هو على أرض الواقع، فإنه يعرف تماماً ما ينبغي أن يكون عليه، من خلال النصوص النظرية التي استظهرها مؤخّراً بدقّة متناهية في اجتماعاته الحزبية؛ وسهراته البيتيّة:
“الدور المركزّي لطبقة الفلاحين في العملية الثورية الشاملة، على المستويين الوطنيّ والأمميّ”.
وهو لم يكرههم سلفاً، كما قد يتّهمه مراقبٌ يجهل حقيقة الأمور، إذ أين يجد من يحمل أفكاراً كأفكاره بخصوص الاتّحاد المتوجب إقامته بين البروليتاريا والفلاحين، وتمتين تحالفهما ونضالهما المشترك لإقامة المجتمع اللاطبقيّ المنشود، أين يجد مكانه الأمثل إلا في “حرفون”. القرية التي لم يسمع باسمها ولا رأى رسمها إلا عندما تسلّم كتاب تعيينه معلماً أصيلاً فيها. ثم، حتى ولو جرى تعيينه في مكانٍ أقرب إلى دمشق أو أبعد، فلديه، كان، على الدوام، في أيّ مكانٍ كنت ستضعه فيه مشروعات طموحة. والأمر وما فيه أنه لم يعش شيئاً شبيهاً بتلك الحالة التي روّعته في وهلتها الأولى: أن تأخذه إلى مكانٍ غريب، وأناس أغراب، وتقول له:
“هنا ستقضي معظم أيام أسبوعك. هاك يا ‘خالد’. خذ المكان الذي كنت تبحث عنه، حوّل أفكارك الهائلة، التي راكَمَتْها القراءات والاجتماعات الأسبوعية، إلى ممارسات”.
وهو وإن وَضَعَ في أول يوم له في قرية “حرفون” على وجهه المرتعد قساوةً أكيدة، ترسم للآخرين، كائنين مَن كانوا، حدوداً دقيقة للتعامل معه، ملامحَ ترفض أيّ اتصال منفلش، غير مخطّط له، ترفض أيّ اتصالٍ لم يُقلّب أوجهه العديدة في لياليه الأخيرة، فذلك لم يكن كرهاً بأولئك الأغراب عنه، الغريب، هو، عنهم، وبالأحرى أن نقول من جديد، إنه الخجل. فالمدرسون الذين سبق لـ”خالد” أن صادفهم في مراحله الدراسية وصولاً إلى تخرّجه من “دار المعلمين” كانوا أبناء مدن، درّسوا في مدن، ولهم فيها بيوتٌ يذهبون إليها بعد انتهاء دوامهم الرسميّ، وأما هو فقد قيل له، وقد عثر، بعد جهدٍ جهيد، على الكراج الموصل إلى قرية “حرفون” التي لم يسمع باسمها أحد، قيل له إنّ عليه ابتداءً من برهة ذلك السؤال الملعون، واكتشافه أنها قدره القادم، عليه أن يُطلّق دمشق، والأصدقاء والرفاق، وصالة الكندي، و”مسرح القباني” و”صالة الحمراء”، ومشاوير الكزدرة في الحميديّة وبوابة الصالحية وفي “أبورمّانة”، وبالأخصّ هذا الشارع الذي تكثُرُ فيه المراكز الثقافية:
العربي، والسوفياتي، والألماني.
وباختصار أكثر، عليه أن يطلّق ما كان يبقى في قلبه، سحابةَ يومه وبعضَ ليله، في السنوات القليلة الماضية التي مضت عليه طالباً في “ثانوية الكواكبي” أولاً ثم في “دار المعلّمين” لساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وتعالوا بعد هذا العرض السينمائيّ أو المسرحيّ أو هذه المحاضرة نكمل السهرة عندي، فيقول “أحمد”:
– لأ، عندي، بيتي أأمَن.
فأبوه الذي يشتغل في العمار، وإن لم يجد، فبالفاعل، ينام في الليل مثل القتيل، من التعب!
– طيّب. عندك. عندك. جَهِّز إذاً قناني البيرة!
وقناني البيرة لم تعد، أيامها، موجودة في “نزلة رامي” من “دمشق الشام” فحسب، بل بات يمكن شراؤها سرّاً من دكان “أبوخضر”، في شارع لوبية من “مخيم اليرموك”، ولا تيأس إن لم يبعك “أبوخضر” من أوّل مرّة. فحتى تكرّر طلبك مرتين أو ثلاث مرّات يقول لك:
– طيب وين المصاري إلّلي معك؟
تعطيه، فيعطيك!
وبعد تزبيط السهرة، أحلى تزبيط، تعالوا نناقش الآن فيلم “زد” أو “ساكو وفانزيتي”، أو “أوديب” لبازوليني، أو مهرجان الأفلام السوفياتية في “صالة الكندي”، وبالأخص فيلم “هاملت”، الفيلم الذي سوف يختلفون كثيراً حول نسبته، واختلافهم سوف يوقظ أهل بيت “أحمد”، فظنّوا أن الأولاد يتعاركون في ساعتهم باللكمات والكراسي حول ما إذا كان يتوجّب تسميته فيلماً روسياً أم سوفياتياً؟
أو تعالوا، في يومٍ آخر، نناقش أداء الفنانين “عبداللطيف فتحي” و”ياسين بقّوش” في مسرحية “الملك لير”، لشكسبير، وهي من الانجازات التي تُذكر للمسرح القومي في سوريا! والخطة التي وضعها “خالد” بينه وبين نفسه بخصوص “حرفون” التي ستحرمه من هذا الكثير، ومما هو أكثر منه، وبخصوص أهلها الرائعين، حتى وإن لم يكن قد رآهم ولا خَبِرَهم بعد، لم تلحظ سوى قلقه وخوفه من مواجهة مبهمةٍ مع مكانٍ مبهم، ولم تهتمّ إلاّ بحاجزٍ قرّر هو أن يقيمه مع الطارئ الجديد في حياته، يقيمه أوّلاً ليتسنّى له هدمُه لاحقاً. ولن يستغرق الهدم غير ساعاتٍ قليلة، سحابة أوّل يومٍ دراسيّ، يعود بعدها، فيتحدّ مع أهل القرية، ويتّحدون معه. فقضيتّه، كواحدٍ بات ينتمي إلى الطليعة الثورية الأممية، وإن كان اللعين ” حسن ” يواظب على القول إنهم، وهو معهم، ينتمون في التصنيف الطبقي النهائيّ إلى:
البرجوازية الصغيرة!
الطبقة التي ينبغي التنبّه من إمكان تذبذبها، واصطفافها في المحطات النضالية العصيبة إلى جانب الطبقات المستغلة، التي تقتات على فائض قيمة العمل البشريّ. وعليه، فإن قضية “خالد” الكبرى، كما شرحتها له السهرات البيتية والاجتماعات الحزبية الأسبوعية، كانت تتمثل في اقتناص الفرصة الذهبية الماثلة أمامه، وأمام جميع أولاد حارته، للتكفير عن انتمائهم الطبقيٍّ المخجل للـ:
البرجوازية الصغيرة، وصغار الكسَبة!
حتى وإنْ لم يكن لهم يدٌ في ذلك الانتماء، وذلك من خلال النضال الدؤوب لخلق أفضل الشروط الموضوعية لتحالفٍ راسخ ووطيد، يقوم بين طبقتي البروليتاريا والفلاحين، باعتباره الأفق الوحيد لخلاص البشرية جمعاء!
إنها المسافة التي ستُخلق بينه وبين أهل قرية “حرفون”، لكنها لن تتواصل. ومؤكّدٌ أنه سيكون جزءاً أكيداً من العالم الذي يقوده إليه الآن، في هذا اليوم الموحش البارد من أيام الخريف، باص القرية. وستتواصل علاقاته معهم، وأوقاته بأكملها سوف تكون بينهم، ولكن وفق خطواتٍ مدروسة، هو الذي يقرّر أيّها يكون أوّلاً، وأيّها يكون تالياً. وسوف يندمج بهم، ويندمجون به، ولكن ليس من وهلته الأولى. فتلك الوهلة سوف تمضي، كما خطّط لها تحت شجرة تين، عند مدخل القرية، أوّل قريةٍ يتعيّن معلّماً أصيلاً فيها، قِسْمَتُهُ التي رآها ممتازة، القسمة التي استهزأ بها أكثر من واحدٍ من أصدقائه الممتلئين بالأفكار:
” شو هالحظّ اللي إلك؟ ما إجو يزتّوك إلاّ بـ’حرفون’؟ “
” إنت عارف يعني شو ‘حرفون'”؟
” حرفون” التي عاند لكي يحتفظ بتعيينه معلّماً أصيلاً فيها تياراً واسعاً من أفراد عائلته، خاطبوه، كما الكورس، في المسرحٍ الإغريقي:
” لو وظيفتك أقرب من هيك عَ الشام كان اشتغلت لك شغلة تانية بعد الظهر، تساعد أهلك، ونفسك”.
وهو آخر ما كان “خالد” يفكّر فيه. فأوقات الفراغ التي له ينبغي أن تُستثمر بالتثقّف وسهرات النقاش الفكري، ومتابعة ما يستجدّ من أحداث ثقافية في البلد. فقرّر هو الهمام، المكتنز بأفكار ثورية، وردية، ألاّ يسأل أحداً من النافذين، البعثيّة، من أفراد عائلته، أن يدبّروا له واسطة، هون أو هون، كما فعل الخبيث “أحمد”، زميل دورتهم، رغم تكتّمه الشديد، فكان أن تمّ تعيينه في مدرسة “أحمد عرابي”، في قاعة الميدان على مرمى حجر من بيته في “مخيم اليرموك”.
لم يفكّر “خالد” في تشغيل أيّ واسطة تقرّبه من “دمشق”؛ الرحم الذي كان ما يزال عائشاً في قلبه، لم يخرج منه بعد إلى النور، واسطة تبعده عن القرية التي قرّر له حظّه النبوئيّ، أن يكون عامل تنويرٍ قادمٍ إليها، رسول الثورة العالمية الدائمة، نوعاً من غيفارا، إن شئت، أو باتريس لومومبا، أو نلسون مانديلا!
ولسوف تمضي أيامه القادمة، كما تخيّلها، ولا أروع من هيك. وتحت الشجرة المختارة من بين أشجار الكون قاطبةً، وبتاتاً لم يسأل أحلام يقظته ولا أحلام نومه: لماذا شجرة تين وليس شجرة تفاح، مثلاً، أو إجاص، أو كرمة عنب. تحت تلك الشجرة المختارة سيفرد بعضاً من الملابس التي كثّرت منها “أم خالد” في شنطة السفر، كثّرت كي لا يبرد بِكرها؛ الشابّ الذي ما يزال، كان، في نظرها، الولد، النحيل كخيط، الولد الذي لا تنتظره عائلته المهدّمة من أجل التنوير الملقى على كاهله الواهي، بل لراتبه القادم، معاشه الحرزان، من أجل أن تتبحبح عائلة لاجئة باتت مثل حقلٍ مهجور، بور، من كثرة ما أنجبت من بنين وبنات، تنتظره عائلته ليزداد دخلُها، من يومها هذا، بنصيبٍ أوفرَ، يكفي، من الثروات الجمّة التي يكتنز بها كوكب الأرض، الثروات التي ينبغي أن تكون من نصيب الكلّ، فيمتصّ معظَمها الرأسماليون الجشعون!
والأغراض التي انحشرت يومها في شنطة “خالد”، وهي التي سيجدها بعد أربع سنوات من عامه هذا عندما يلتحق بالخدمة العسكرية الإلزامية، كان فيها ما يلزم، وما لا يلزم، وسوف يفرد أغراضها في ليلته المزعومة، وينام فوق ما فرَدَهُ بكلّ ألق وسذاجة شابٍّ حالمٍ، يمتلئ بأفكار عظيمة، ويُنتَظرُ منه بعد ذلك أن يمتلئ بمفردات الحياة العظيمة. الحياة التي سوف تقرعه على رأسه بشدّة، حتى قبل وصوله إلى قريته، فيستفيق مرعوباً، ومدهوشاً، وسوف يظلّ على الدوام مرعوباً ومدهوشاً من هذا اللاتماثل المرعب، الدائم، بين خُضرة الحياة، وصُفرة الأفكار!
وهذا الذي خطّط له “خالد” في الليالي التي سبقت التحاقه بأفقه، امتحانه الجديد، لم يلحظ حاجة شابٍّ مثله، كان، في ذلك القفر الموحش، الذي تُشابه حكاية استنجاده بشجرة التين، حكاية خروج أوّل انسان بدائيّ من كهفه، جامعاً، صائداً، لائذاً بالأشجار، لم يلحظ حاجته في ليلته تلك إلى وسادة أو لحاف. ولم يلحظ البرودة القاتلة، التي تكون دوماً على جبل الشيخ، الأبيض الثلجيّ، حتى في الصيف، فكيف، والشتاء على الأبواب؟ لم يلحظ، وكيف لواحدٍ مثله لم يرَ طوال حياته غير قطط الحارات والكلاب الجعاريّة في بساتين يلدا وببيلا، إمكان وجود، هنا في القرى النائية، حيوانات ضارية، ضباع، ذئاب، بنات آوى، أفاعي، شركاء بني البشر في الخلاء المرعب، يكون وجود فتىً حالمٍ بعالمٍ أمثل، وبالأخصّ في ليلة اكتمال القمر، تحت شجرة تين، وليس شجرة تفاح، مثلاً، أو إجاص، أو كرمة عنب، عيداً من الأعياد السخيّة لأمّنا الطبيعة، ودليلاً على أنها لا تنسى أحداً من أبنائها، مهما أسَفَّ في السلسلة الغذائيّة!
هكذا، كانت أفكار “خالد” وأحلامه وكامل مخطّطاته، في تلك البرهة المبكرة من حياته، ابن العشرين ربيعاً، خريفاً، الولد، الرجل، ابن المخيم والمدينة، كان، ومفصّل الأشياء على مقاس المدينة. ولأنه خطّط ورأى ما قد يجري معه سلفاً، بدقة متناهية، فإن أموره سوف تمضي بدقّة متناهية. وعندما تلفح جبهته أوّل خيوطُ شمس ذلك النهار التاريخيّ، أول يومٍ دراسيّ له من عام 1970 أو عام 1971، هنا تختلط الذاكرة، ينهض، ويضبّ أغراضه في الشنطة الصفراء الحديدية، كانت، ومن هناك إلى مدرسته. وكانت كما تخيّلها دوماً، لم ينقص شيءٌ من خيالاته، ولم يزد، تقبع على رأس تلة، في سلسلة تلال عالية، وهرة، على سفوح جبل الشيخ!
ثم في الطريق إلى صباحه الأوّل، في أوّل يومٍ له في مهنة التدريس، أوّل يومٍ ينام فيه خارج بيته، بعيداً عن حضن أهله الدافئ، سوف يخترق انطلاقاً من شجرة التين التي أخفت أوراقُها عورة أبوينا آدم وحواء، بعد أكلهم للثمرة التي أُمروا بألاّ يأكلوا منها، الشجرة التي لعنها السيد المسيح ودعا عليها بالقطع: (الشجرة التي سيرى فيها اللعين “حسن”، أنبهُ الأولاد في استخراج دلالات أيّ نصّ، عندما سينقاشون هذا النصّ الذي كتبه “خالد” وسمّاه:
” أيامنا التي ولا أحلى “!
في الأسبوع التالي على كتابته، سيرى “حسن” في التين “رمزاً يُستخدم في العادةً للتدليل على ستر العورة”، وبالتالي يتوجّب على “خالد” الانتباه لدلالاته الخطيرة، فهو رمز أفرزه باطنه اللاواعي، في محاولة خفيّة منه للتستّر على جريرته، بل وجريرتهم الأزلية كلّهم، في عدم انتمائهم، في الأصل، إلى طبقة البروليتاريا؛ عمّال مصانع النسيج والزجاج والصُلب، فهؤلاء هم في حقيقة الأمر المخلّصون القادمون للبشرية جمعاء، وليس أمثالهم من “المعلّمين”، صغار الكَسَبة!
ولم تكن “الهالة” هدف “خالد” من ذلك التصرف الأخرق، بل الاختباء في قلب الضباب. وسوف يمشي في أزقة متربة، وسط الفلاحين وقطعان الماشية، والأولاد المتجّهين مثله، إلى نفس غايته؛ إلى المدرسة، إلى التنوير القادم لهم ولقريتهم، غير ملحوظٍ من أحد: معلم خفيّ، يمضي إلى مدرسةٍ لن يسأل عن موقعها لأنه يعرفه، وسط بشرٍ تنتظرهم، لو أنهم يتريّثون قليلاً في تدافعهم لمشاهدته، وحتى إلى لمسه، وشمّه، كما لو كانوا في حضرة مخلوقٌ قادمٌ من كوكبٍ آخر، تنتظرهم وتنتظر غدهم المشرق الآتي: مخطّطاتٍ عظيمة، لجهة تمكينهم من الإحساس بوعيهم الذاتيّ، بما هم طبقة مسحوقة تاريخيّاً، لا أمل لها بالخلاص من الظلم الأزليّ الذي عانت منه في العصور الماضية، وتعاني منه الآن، إلاّ بتحالفها الوثيق مع البروليتاريا، الطبقة الأولى، الأكثر تنظيماً وثورية، لصناعة المستقبل المنشود: فالمشاعية القادمة، قادمة لا محالة، حيث:
” من كُلٍّ حسب طاقته، ولكلّ حسب ما يريد”.
ولكن، سوف نمرّ قبل ذلك، كما رأى “خالد” وهو ما وافقه عليه “حسن” تمام الموافقة، ولم يثُر حوله أيّ تضاربٍ بالكراسي، سنمرّ بمرحلةٍ يكون فيها لكلّ فردٍ من أفراد المجتمع:
” من كُلٍّ حسب طاقته، ولكلّ حسب عمله”.
………………..
وأما “حرفون” فخاطبته فور نزوله من باص “مِتعِب”، محاطاً بأولاد وبنات، حفاة، وحافيات، بصوت خفيض، متهدّج:
“هنا الوردة
فلترقص هنا
يا “خالد!”.