أَزمَنٌ الرِّوَايَةِ أَمْ أَزْمِنَةُ الإِبْدَاعْ؟
لَيْسَ لِمِعْيَارٍ خَارِجيٍّ كَهَذَا الَّذي اخْتَاره تَسَاؤلُ "الجَديد" لِيُعَلِّلَ بِه نَفْسَهُ، أنْ يَصْدقَ في مَسْأَلَةِ نِسْبَةِ الزَّمَنِ إلى أيِّ جِنْسٍ أو نَوعٍ أو شَكْلٍ أو نَمطٍ من أَنواعِ الإبْدَاعِ الإِنْسَانِيِّ، وفِي مُقَدِّمَتِهَا جَميعَاً، الفُنُونِ والآدَابِ، عَبْرَ جَعْلِ هَذَا الْجنسِ أو النَّوعِ أو الشَّكلِ أو النَّمَطِ ذَا أَوَّلِيَّةٍ، أوْ أَولَويَّةٍ، أَو كَثَافَةِ وُجُودٍ، في زَمَنٍ هُوَ جَديْرٌ بالْهيْمَنَةِ الْمُطْلَقَةِ عَلَيْهِ، وبِنِسْبَتِهِ، عَلَى نَحْوٍ كُلِّيٍّ إِلَيْه، كَأَنْ نُقَرِّر، تَأْسِيْسَاً عَلَى مِعْيَارٍ خَارِجيٍّ يَتَمثَّلُ في إقْدامِ مُؤَسَّسَة "نُوبِل" على مَنْحِ جَائزتِهَا في الآداب إلى ثلاثَة روائيين أَو أكثرَ، وعلى نَحْوٍ مُتَوالٍ أو مُتقاربٍ زَمَنِيَّاً، أَنَّ الزَّمَنَ الَّذِي نَعِيْشُهُ، الآنَ، وفي العَالَمِ بِأسْرهِ، هُوَ "زَمَنُ الرِّوايَة"، أو أَنْ نَذْهَبَ مَع ذَهَابِ هَذِه الْمُؤَسَّسَة إلى مَنْحِ جَائِزَتها، وعلى النَّحْو نَفْسِهِ، إلى ثَلاثَة شُعَراء أو أكْثَرِ، إلى نِسْبَة الزَّمَنِ الَّذِي نَعِيْشُهُ، الآنَ، وفي العَالَمِ بِأسْرهِ أَيضَاً، إلى الشِّعْرِ، لِنَكُونَ، مع هَذِه النِّسْبَةِ المُفْتَعَلة، فِي زَمَنٍ هُوَ "زَمَنُ الشِّعْر"، بِامْتيازٍ!
ولَستُ أَحْسبُ أنَّ لِتَصْدِيقِ أيِّ إسْنَادِ خَارِجيِّ سَاذَجٍ كَهَذا الَّذي نَحْنُ بِصَدده، أَنْ يَتَأسَّسَ على شَيءٍ سِوى فَهْمٍ مَغْلُوطٍ، شَديدِ التّعَسُّفِ والضِّيْقِ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ مَنظُور ووجْهَةٍ، لِمَعْنى طَرَفَيْه الِمَضْفورينِ في صِيْغَةِ إِضَافَةٍ، أَو إسْنَادٍ، يُرادُ لَهَا أنْ تَكونَ مُصْطَلَحاً نَقْديَّاً، فِكْرِيَّاً وجَمَالِيَّاً، دالَّاً، وقَابِلاً للتَّداولِ في تَاريْخِ الأدبِ، والنَّقْدِ الأَدبيِّ، والْفِكْرِ، وعِلْمِ الْجَمالِ!
فَمنْ جِهَةِ المُضَافِ، أَي الزَّمَنِ، سَيتَقَّلَّصُ إلى الحَدِّ الَّذي يَجْعَلُه قَابلاً للتَّعَيُّنِ، تَصَوُّرِيَّاً، في حَيِّزٍ مَكَانِيٍّ أُفُقِيٍّ شَدِيدِ الاسْتِواءِ، مَعْزولاً عنْ سِواهُ، ولا يَتَحَرَّكُ، مَع مَحَاورِ أُفُقِيَّة مُتَفَاعِلِةٍ أُخْرَى، أَو دَوائرَ مَفْتُوحَةٍ عَلى بِعْضِهَا بَعْضَاً فِي تَعَالُقٍ ثَريٍّ، على مِحْورٍ ،أَو عَلَى أكْثرَ مِنْ مِحورٍ رأْسِيٍّ، مِنْ مَحاورِ زَمَنٍ رَأْسيٍّ مَوَّارٍ، فَلا يُوجَدُ فِيْه مِنْ شَيءٍ، وقَدْ ضُيِّقَ وعُزِلَ وجُعِلَ حَيِّزاً أُفُقِيَّاً سَاكِنَاً، سِوى الرِّوايَةِ، أَو غَيْرِهَا مِنَ أَجْنَاسِ الأدبِ أَو الْفَنِ، الَّتي سَيَكُونُ الزَّمنُ، عَبْرَ هَذا الإسْنَادِ الْخَارِجيِّ الدِّعَائِيِّ، المُؤَدْلَجِ أَوْ المُسيَّسِ أو غِيْرَ ذِلِكَ، زَمنَاً واحِدَاً لا يَتَّسمُ بِتَعدُّدٍ أو تَنَوُّعٍ أو تَغَايُرِ، وسِيكونُ هُوَ "زَمَنُ الرِّوَايَة" فَحَسْبُ، أيْ الزَّمِنَ القَائِمَ وُجُودُه عَلَى تَكَفُّلِ الرِّوايَة بنَفْيِّ غَيْرهَا مِن أجْناسِ الأدبِ وأنْواعِه الَّتي تَغُمرُ الزَّمَنَ، بِتَواصُلٍ إبْدَاعيٍّ، وتَجَدُّدٍ، وتَنَوُّعٍ، وكَثَافَةَ حُضُورِ على المُسْتَوى الْجَماليِّ، ولا سَيَّما منْهَا الشَّعرُ بِشَتَّى تَجلَّيَاته الجَمَالِيَّة النَّوْعِيَّة والشَّكِليَّة، وعَلَى رَأسِهَا جَميعاً قَصِيْدَتَا التَّفعيلَةِ، والنَّثرِ، والَّتي يبدو أنَّ الأخِيرةَ مِنْهُما قَدْ شَرَعتِ في تَسْرِيْعِ خَطْوهَا، وتَنْويُع مَسَارِاتِه، وتَوسِيْع مداراتِ حُضُورِهَا الْجَمالي عبر تجلِّيات نَصِّيَةٍ تَكادُ لا تَنْتَهي أو تَتَناهَى !
ومِنْ جِهَةِ الْمُضَافِ إِليْهِ الَّذي نَحنُ بِصَدَدهِ، قَدْ يَبْدو، للوَهْلَةِ الأوْلَى، أنَّ الرِّوايَةَ، كَجِنْسٍ أَدَبِيٍّ مُطْلَقٍ وغير مُتَعَيَّنٍ في نَوعٍ أو شَكْلٍ أَو نَمطٍ مُحَدَّدٍ، هيَ الَّتي تَمْلُكُ هَذَا الزَّمَنَ، وهِيَ وحْدَها الَّتي تَجُوسُ رِحَابَهُ الضَيِّقَةَ الَّتي تَمَّ تَحْدِيدُها علَى نَحوٍ لا يُضِيِّقُ الزَّمَنَ فَحَسْبٍ، بَلْ يُضَيِّقُ الْعَالَمِ لِيُعَولِمَهُ عَبْرَ حَصْرهِ فِي قَبْضَةِ الرِّوايَةِ انْقِيَاداً لِمشيئَةِ صُنَّاعِ "جَائِزة نُوبل" ومانِحِيْها، أُولَئِكَ المَمْسُوسِينَ بِغِوَايَةِ "الْمركَزِيَّة الغَربِيَّة"، وبِامْتِهَانِ كُلِّ إبْداعٍ غَيْرِ غَربيٍّ وتبْخيسَهِ إنْ لَم يَكُنْ مَمْسُوسَاً، بِدَورهِ، بالغَربِ الرَّأسِمَاليِّ، ومَركَزِيَّتِه، وبِإطْلاقِيَّة هَيْمنَتَه الَّتي أَنْهَتِ التَّارِيخَ وصَارتْ هِي الزَّمَانُ فِي كُلِّيَّتِه الْمُطْلَقَة!
غَيرَ أَنَّ لإعْمَالِ الْمِعْيارِ الْخَارِجيِّ نَفْسَهُ (جَائِزة نُوبِل) أَنْ يُغْلِقُ مَنافِذَ تِلْكَ الوَهْلَةِ الأُولَى، وأَنْ يُنْهي حَصِيْلَتَها الزَّائِفَةِ، وَذَلِكَ بإطْلَاقِ السُّؤالِ عَنْ النَّوعِ، أو الشَّكلِ، أو النَّمَطِ الرِّوائيِّ، الَّذي امْتَلَكَ الزَّمَانَ ونَسَبَهُ، مِنْ فَوْره، إلى نَفْسِهِ؛ فَأيُّ نَوعٍ، أو شَكْلٍ، أو نَمَطٍ، رِوائيٍّ، هَذَا الَّذي مُنِحَ "الْجَائِزةَ"، فَامْتَلَكَ الزَّمانَ؟!
سَيَطرَحُ هَذَا السُّؤالُ نَفسَهُ علينا لِكَونِهِ يَعَلمُ أَنَّنا نَعْلَمُ مَا تَمتَازُ بِه الرِّوايَةُ، كَجنْسٍ أَدبيٍّ سَرْدِيٍّ مُوَسَّعٍ، منْ تَغَايَرٍ مَضْمُونِيٍّ، وتَنَوُّع بِنَائيٍّ، وتَعَدُّدٍ شَكْلِيٍّ، مَفْتُوحٍ مِنْ وجْهَاتٍ ومَنْطُوراتٍ واتِّجَاهَاتٍ فِكْرِيَّةٍ وجَمالِيَّةٍ شَتَّى، عَلى ما يَربُو عَلَى قَبْضٍ أو حَصْرٍ، وَذَلِكَ إضَافَةً إلى مَا تُؤَسِّسُ نَفْسَهَا عَليه مِنَ اسْتلْهَامَاتٍ وتَداخُلَاتٍ نَصِّيَّةٍ وانْفِتَاحٍ لَا يُحَدُّ عَلَى شَتَّى أَجْنَاسِ الأَدبِ الَّتي تُجَاورهَا وتتفاعَلُ مَعْهَا، وعَلى جَمِيعِ الْخِبْراتِ والتَّجَارُبِ والمَعارفِ والعُلُومِ، مَعْ تَوالي انفتاحِهَا على الواقِعِ الْخَارجيِّ، وعَلَى مَدَائِنِ أعْماق الْكائنِ البشريِّ الَّذي هُوَ مُنْطَلَقُهَا ومَقْصَدُهَا، تَمَاماً كَما هِيَ حالُ غيرها مِن أَجْنَاسِ الفُنُونِ والآداب، وأنْواعِهِمَا وأشْكالِهِمَا وأنْمَاطِهَما الْمتَكَاثِرةِ، والْمُتَدَاخِلَة!
وقَد تتَعَدَّدُ المَعَاييرُ التَّقْيِمِيَّة الخَارجِيَّةُ، فَتَضُمُّ المَعَاييرَ السِّيَاسِيَّةَ، والآيديُولُوجِيَّة، والاجْتِمَاعِيَّةَ الطَّبَقِيَّة، والثَّقَافِيَّةَ الُمبَرْمَجةَ سُلْطَوِيَّاً، والتَسْويقيَّةَ الاسْتِهْلاكِيَّة المتعلِّقَةَ بعَددِ الطَّبعاتِ، وعَددِ النُّسَخ المُبَاعَةِ، ودَرَجَةِ الانتشارِ الْجُغْرَافيِّ الكَميِّ! ولَعَلَّهَا تَشْمُلُ مُواصَفاتٍ ومُعطياتٍ تَتعَلَّق بِشُخوص الكاتبين والكاتباتِ من حيثُ شُهْرَتِهم، وانتمائِهم القَوميِّ، وديانَتِهِم، ولُغَتِهم، ولَوْنَ بِشْرَتِهم، والرُّؤي المبثوثَةِ في أعْمَالهم، ومواقِفِهم السِّيَاسيَّة والإنْسَانيِّة؛ وَهَذِه كُلُّهَا ومَا مَاثَلَهَا، مَعَاييرٌ تَمييزِيَّةٌ غَيرِ سَوِيَّة تُؤِسِّسُ "خُرافَةَ الرَّواجِ وامتلاكِ الزَّمَنِ"، فيما هي تُمَاهِي مَعَايير "الحُصُول على جَائِزةٍ"، سَواء أكانَتْ هَذِه الْجَائِزةُ بالِغَةَ القِيْمَةَ المَالِيَّة، وذَات تَّأثيرٍ انْتِشَاريٍّ لَاحِقٍ، وشُهْرةٍ إعْلَانِيَّةٍ وتَسْوِيقيَّة، كَـ"جَائِزة "نُوبِلْ"، أَو كَانَتْ أَقلَّ شَأنَاً مِنْها في كُلِّ ذَلِكَ، لِكَونِهَا جَائزةً إقٍلِيميَّةً، أو مَحَلِّيَّةً، أَوْ شَخْصِيَّةً، أَو مُتَخَصِّصَةً بِلِغُةٍ بِعَيْنِهَا أو بِجِنْسِ الرِّوايَةِ فَحَسْبُ. ومَعْ ذَلِكَ، فَإنَّ أَمرَ التَّسَاؤلِ عَنْ مَقَاصِدِ وغَايَاتِ هَذِه الْجائزة، أو تِلْكَ، وعَنْ المَعَاييرِ المُعْتَمدةِ مِنْ قبِلِ هَيْئاتِهَا ولِجَانِ التَّحْكيم التَّابِعَةِ لِهَا، يَبْقَى مَشْرُوْعَاً وقَائِمَاً، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ قَصْدِيَّتِه، وعَنْ مَدَى بِراءَتِهِ!
أما المَعَاييرُ النَّقْدِيَّةُ الجَمَالِيَّةُ المُعْتَمَدةُ لتأْصِيلِ القَول بأنَّ الزَّمَن الذي نَحْن فيه الآن، ومُنذُ زَمنٍ غيرِ قَصِيرٍ، هو "زمنُ الرِّوايَةِ" الَّذي لَمْ يُلْفِتُ انتباهِنَا إلى وُجُودِهِ، وإلى وجُوِدِنا في رِحَابِه، كَبَشَرٍ يَنْطقونَ اللُّغةَ العربِيَّةَ ويقْرؤنَها وبِهَا يكتبونَ ويُبدعُون، إلَّا كِتَابُ النَّاقِدِ المرموق "جَابر عصْفُور" المَوسُومِ بـ"زَمَن الرِّواية" والصَّادر في مِصْر، في طبعتِه الأولى، قبلَ نحْو عِقْدين وعَاميَن (تشرين الأوَّل/أكتوبر 1999)، فَإنَّهَا لَتَردُّنَا إلى مُؤَسِّسَاتِ إطْلاقِ عِباراتٍ وأقْوالٍ هي أقربُ ما تكَونُ إلى خُلاصَاتٍ تأَمَّلِيَّةٍ صَاغَهَا فلاسِفَةٌ وعلَماءُ جَمَالٍ ونُقَّادٌ ومُبْدِعونَ غَرْبِيُّونَ وشَرَعَ في التَقاطِهَا مِنْ ثَنَايا مُؤَلَّفَاتِهم الأصْلِيَّة، أو عبر تَرْجَمَاتٍ ووسَائِطَ تَرْوِيجِيَّةٍ أُخرى، ومَنْذُ نَحْوِ مُنْتَصَفِ سِتْيِنَاتِ الْقَرنِ الماضِي، مَنْ يُنَاظِرُهُم في الفَضَاء العربيِّ لِيُقَارِبُوا تَجَلِّيَاتِها المُتَحَقِّقة في الأَجْنَاسِ الْآدبِيَّة السَّائدةِ في بُلْداِنهِم، ولا سَيَّمَا الرِّوايَةِ، كَيْ يَتَطَابَقوا مَعْهُم في القَولِ إنَّ الزَّمنَ التَّارِيخيِّ الذي نعيشُهُ في الفَضَاءِ العربي الْمتَشَظِّي، وغَيرِ المدَنيِّ، هُوَ، مِن وجْهَة الإبداع الأدبيِّ، "زمَنُ الرِّوايَةِ" أيْضَاً، وذَلِكَ بِمَعزَل عنْ تُباين شُروطِ الْعَيْش، وتَابُوات الإبْداعِ، الَّتي تَحْكُمُ الْعَرَبَ، عَنْ تِلْكَ الَّتي بِهَا يَتحَكَّمُ الغَرْبيِونَ في فَضَاءاتِ بِلْدانهم، وفي أحْيَازِ تَوسُّعِهم، عَبرَ ثَورةٍ صَنَاعِيَّةٍ واندفَاعٍ رَأْسِمَاليٍّ تُتَوِّجْهُما هَيْمَنَةُ طَبَقَةٍ بُرْجُوازِيَّةٍ صَاعِدةٍ سَتَأخُذُهَا تَحَوُّلاتُهَا البنيَوِيَّة المُتَسَارِعَةُ، كَطَبَقَةٍ مُفْعَمَة بالحَمَاسَةِ الْملْحَمِيَّة والنَّشَاطِ، صَوبَ رأسِمالِيِّة مُتَوحِّشَةٍ تَتَوخَّى مِن الغَاياتِ والأسالِيب مَا يُنَاقِضُ دَوافِعَ نَشْأتِهَا، وغَايَاتِهَا الإنْسَانِيَّةِ الأُولى، وأَساليبَ نُهُوضِهَا الْملْحَميِّ النَّسيجِ، والتَّوجُّهَاتِ، والأَبْعَادِ، والرُّؤَى!
ومَا مِنْ خُلاصَاتٍ تَسْترجِعُهَا الذَّاكرةُ المُفَعَّلَةُ الآنَ لإكْمَال الْجَواب، أَقربُ إلى الذِّهْنِ من قَول "جُورج هِيْغلْ" القَائمِ على ربطِ نَشْأة الروايَة بمسألَةِ تَطور الوعيِّ:"إنَّ الرِّوايَةَ هي التَعبير الأمثلُ عَنْ حالة الوعِّي في المجتَمعِ الحَديث"؛ أو مِنْ قَول "جُورج لوكاش مُتَابِعاً هِيغل ومُكَيِّفَاً قَولَه بِما يَستجيب للنَّظرِيَّة الماركسيَّة" إنَّ "الرِّوايةَ مَلحَمةُ الطَّبَقَةِ البرجُوازِيَّة"، أَو قَولِه إنَّهَا "مَلْحَمَةُ عالمٍ بِلا آلِهَة"؛ أو مِنْ تَبّصرات "توماس مان" في الطَّابَع الدِّيمقراطيِّ لـ"الرِّوايَة" الَّذي يُميِّزُهَا عنْ "الملحَمَة" بِمعنَاهَا القديم،والَّذي يَجْعَلُهَا "الشَّكلَ الأَدبيَّ الرَّائجَ" في الزَّمَنِ الغَرْبيِّ الحديث، أو رُبَّمَا مِنْ أَقوالٍ أُخْرى تُنَاقِضُ، جَذْرِيَّاً، الأعَم الإغْلَبَ مِن الأقوال الَّتي أوردْنَا مُؤَدَّيَاتِها للتَّوِّ، وتتَكثَّفُ في تَأكيدِ "مِيخَائيل بَاخْتِين"، مُنَاقِضاً التَّفْسِيْراتِ النَّظَرِيَّة الهيغلية والماركسية واللُّوكاشِيَّة لنَشْأةِ الرِّوايَة ورواجِهَا، مَا مُؤَدَّاهُ أَنَّ الرِّوايَة لا تَنتمي إلى جِنْس "الملْحَمة"، ولا تَتَوافَرُ عَلَى خَصائصَ بُنْيويَّة ورؤيَويَّة وأسلوبِيَّة تَصِلُهَا بِهَا، لِتكُونَ "مَلْحَمةَ" أَيِّ طَبَقةٍ، أو قَومٍ، يَعتَمدُ على وُجُودِ أيٍّ مِنْهُمَا وُجُودُهَا، وإنَّمَا ترتبطُ جُذورُها بالثَّقَافَة الشَّعْبِيَّة التُّراثِيَّة ومَا تحتويه من طُقُوسٍ كرنفالِيَّةٍ ومهرجَانَاتٍ احتفالِيَّة، فَحَسْبُ، فَلا تَكونُ، بِأَيِّ حَالٍ، نِتَاجَاً لِتَطوُّر الوعيِّ الإنسَانيِّ على نَحو يَجْعلُهُا سليلة "الملْحَمَة" كَما يُريدُ لِها هِيغل أنْ تَكون، أَوْ كَما يُتَابِعه لوكاش وسواهُ مِنَ المُفَكِّرينَ والنُّقادِ، وإنْ بِتكييفاتٍ مُتَغايِرة!
وإنِّي لأَحْسَبُ أنَّ ما أَطْلَقَهُ النَّاقِد على الرَّاعي ومَنْ ثَمَّ الرِّوائي نَجِيب محفوظ، ومَا ردَّدَه في إثرهم قُرَّاءٌ وباحِثُونَ ونُقادٌ وروائيونَ عديدونَ، من أَقْوالٍ تُرْهِصُ بِنُبَوءةِ "زَمَنْ الرِّوايَةِ" التي كانَ مُحْسِن جاسم الموسَوي قد التقطَها في سياقِ تنظير نَقْدِيِّ يتَعلَّق بالرِّوايَةِ الغربيِّة الأوروبيَّة في كَتابه الصَّادر في بَغداد في العام 1985مَوسُومَاً بـ"عَصْر الرِّوايَة"، قبل أنْ يُبلْورهَا جابر عصفُور ويُطْلِقُهَا في النَّاسِ مُقارِبَاً الرِّوايةِ العَربيِّة، فِكْريَّاً وجماليَّاً، ولا سِيَّما مِنْ منظورِ صِلَتها بـ"المدينة العربيَّة" وبالعلاقاتِ المَدِيْنِيَّة، أو المَدَنِيَّة، الَّتي هِي، بحسبِ قراءة جابر عصفور، أمُّ الرِّوايَةِ ومجالها الحَيويِّ، لا يَعْدو أنْ يَكونَ إلَّا تَرجِيْعَاً لِأصْداءِ، ورُبَّما لرِجْعِ أصداءِ أقوالِ "هيغل" و"لوكاش" على وجه التَّحديد، وعلى نَحو يُغْفِلُ تَمَاماً ما خَلُصَ إِلَيه آخرون مِمَّنْ ناقَضَهُمَا ورَدَّ ما خَلُصَا إلَيْهِ من المُفَكِّرينَ والباحِثينَ والنَّقادِ، مِثْلَ "باختين".
وما لُخلاصَة تَبَصُّر النَّاقد على الرَّاعي في مسألَة الرِّوايَة التَّي يُكَّثِّفُها قَولَه إنَّها "دِيْوانُ العربِ الْمُحْدَثينَ"، أو خُلاصَة رؤيَة الروائي نجيب محفوظ (الحائز على جائزة نُوبل) التي يُلَخِّصُها قَولَه إِنَّهَا "شَعْرُ الدُّنيا الْحديثَة"، وهُمَا القَولانِ المُشار إليْهِما في الفقْرَة السَّابِقةِ إلَّا أنْ يُحيلا، إضَافَةً إلى ما يُحِيلانِ إلَيْه مِنَ اسْتِنَادٍ إلى معايير خَارجِيَّة كالرَّواجِ والشُّيوعِ الْجَماهِيري والتَّرويجِ الْمكَثَّفِ مِنْ قِبَلِ وسَائِطَ الإعلامِ المرْئيِّ والمسمُوعِ، وهي وسائِطُ غيرِ مَعْنِيَّةٍ، في أَغْلَبِهَا، بِجَماليَّات الإبداع، إلى تلك الثُّنَائيَّة المُغْلَقَةَ القَائِمَةِ، مِنْ قديمٍ، على عَملِيَّاتِ فَرزٍ وتَصْنيفٍ وتَنمِيطٍ وتَأْطِيرٍ وجَنْسَنَةٍ، أَحْسَبُهَا قَسْرِيَّةً في ذِهَابِهَا إلى أبْعدِ مِمَّا يَحتَملُه الإبداعُ الأدبيُّ مَهمَا كانَ جِنْسُهُ أو نَوعُه أو شَكْلُه؛ وأَقْصُدُ بِهَا الثُّنَائيَّة الَّتي تَضُعُ الشِّعْرَ في مُقَابلِ النَّثرِ، أو تَقْصُره عَلى "النَّظم" فتراهُ نَقيضاً للسَّرد، ولا تَراهُمَا إلَّا مَكبوحَين عنْ أَدْنى تَفاعُلٍ إبداعيٍّ خَلَّاقٍ، وهي الثَّنائِيَّة التَّى لَم نَعُدْ في حاجَةٍ إلى التَّدليل على زِيْفِهَا في ظلِّ ما قَد شَهدْناهُ مِنْ قَبْلُ، وما لم نزل نشْهَدُهُ، مِن انفتاحِ أجناسِ الفنونِ والآداب على بَعْضِها بَعْضَاً، ومن اسْتِمْرارِ تَعايشها التَّجَاوريِّ التَفَاعُليِّ: اسْتِلْهَاماً، وتَأويلاً، وتداخُلَاً نَصِّيَّاً حِوَارِيَّاً مِن منْظُوراتٍ رُؤيوِيَّةِ وبنائِيَّةٍ وأُسْلُوبِيَّةٍ عَدِيْدَةٍ ومُتَنَوَّعَةْ.
ولَعلَّ فِي ذِهَابِ الرِّوايَةِ نَحْوَ الشَّعرِ في تَجلِّ روائيِّ لم يُسَمَّ إلا بـ"الرِّوايَة الشِّعْريَّةِ" وذهَابِ الشِّعرِ، ولا سِيَّمَا النَّثريّ مِنْهُ، إلى السَّرْدِ في تَجَلٍّ لا يُسَمَّى إلَّا بـ"القصيدةِ السَّرْدِيَّة"، وهُو ذَهَابٌ غيرُ مقطوعِ الُجُذُور عَنْ تجلِّياتِ مماثِلَة في الإبداع النَّصِّي القديم، مَا يُفْصِحُ، بالتَّضَافُر مَع عديدٍ مِنَ التَّجَلِّياتٍ النَّصِّيَّة التَفَاعُلِيَّة الْحَديثَة المُمَاثلَةِ، عَنْ فَرَضِيَّةٍ مُؤَصَّلةٍ تَقولُ إنَّ أَجْنَاسَ الأدبِ، ومَا تفَرَّعَ عنْهَا منْ أنواعٍ وأشْكالٍ، لا تسْتِقِلُّ بِأزْمِنَةٍ مُنْفردةٍ ومعْزولَةٍ يُهِيْمِنُ علَى كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا جِنسٌ، أو نَوعٌ أو شكلٌ، بِعَيْنِهِ نَافِيَاً غيره مِنَ الأجْنَاسِ والأنْواعِ والأشكالِ، وإنَّمَا هِي تَتَفَاعَلُ وتتكامَلُ في كُلِّ الأزْمِنَة في نِطاقِ الإبداعِ الأدبيِّ الحقيقيِّ المفتوحِ على كُلِّ الأزْمِنَة في مجَرى صيرورةٍ تَخُصُّ كُلَّ جِنْسٍ بِقَوانينَ تَطَوُّر دَاخِليٍّ وتَخُصُّ كُلَّ أزْمِنَة الحياةِ، ومداراتِ الْوُجُودِ الْمفتُوحَة على جَدَلٍ حيَوِيٍّ مَفْتُوحٍ على الأزْمِنَة!
وإنَّنا لنتساءَلُ في ضَوء ما تَقدَّم، وفي ضَوء غيره مِمَّا لا يَتَّسعُ المقامُ لإضَاءَتِه؛ هل ثَمَّة ما يُسُوِّغُ، فِكْرِيَّاً وجَمَاليَّاً، القولَ بِأنَّنا لا نعيشُ زَمَنَ الشَّعْرِ، والقِصَّة، والمَسْرحِ، أو أنَّ أيَّا مِنْ هذه الأجناسِ، وغيرهَا، لم يُعَبِّر عن روحِ العصرِ، أو كانَ أَعْجَزَ مِنْ سِواهُ عنْ فِعلِ ذلك، أو أنَّه فقد قدرتَه على الوجُودِ في الزَّمن الَّذي فِيه نَعيشُ والَّذي قِيل لَنا، بلا تسْويغٍ حقيقيٍّ، إنَّه "عَصْرُ الرِّواية" مَرَّة، و"زَمَن الرِّوايَة" مَرَّة، قَبْلَ أنْ يُقالَ لِنَا، بِتَسْويغٍ فكريٍّ وجَماليٍّ يَتأَسَّسانِ على مُراجَعةٍ عَمِيقَةٍ، هَذِه الْمرَّة، إنَّهُ "زَمَنُ القَصِّ" الَّذي هُوَ "شِعْرُ الدُّنيا الحَدِيثَة"! ولكَنْ مَتى كَفَّ "القَصُّ" عنْ تَوزيعِ نِفْسِهِ، بِتَنَوُّعٍ وثَراءٍ، على كُلِّ أجْناسِ الأدب؟! ومَتَى تَخَلَّى الشِّعْرُ عَنْ كَونِهِ قَصَّاً جَميلاً يَتَخَطَّى كُلَّ "نَظْمٍ" قَسْرِيٍّ وقاصِرٍ؟! و مَتَّى تَخَلَّى الَقصُّ عَنْ جَمالِيَّاتِه النَّابِعةِ مِنْ شِعْرِيَّته؟!