أَقنعة الأَصْلِ الطَّبِيعِيّ في الشعر العربي

الأقْنِعَةُ الشعرية بَيْن إسْقَاطٍ، وحُلُولٍ، وتَفَاعُل خَلَّاق
الثلاثاء 2020/12/01
لوحة لحاتم فاضلابي

تنهضُ عملية تكوين الأقنعة، وبناء التَّجارب المروية في القصائد الثَّلاث العائدةُ أَقْنِعَتُها إلى الأصل الطَّبِيعِيّ، على مبدأ تكويني يُمثِّل قاسماً مشتركاً بينها جميعاً؛ وذلك لأنه ينبعُ من الجدلية التي يُؤَسِّسُهَا انفتاحُ الشَّاعِر، في قصيدة الْقِنَاع، على “أَنا مُغَاير” يعودُ إلى واحدٍ من العوالم الطَّبِيعِيّة الثَّلاثة. وليس هذا المبدأ إلاَّ واحداً من التَّجَلِّيَات المحتملة لديَالِكْتِيك التَّمَاهِي؛ حيثُ لا يدخلُ الشَّاعِرُ تَجْربَةَ “رؤْيَا داخلية” مع ذاتٍ انْسَانِيَّة تمتازُ بأسبقية الوجود، ولها تَحَقُّقُ التَّجْربَةِ، وتَجَلِّي مُكوِّنَاتِ الهُوِيَّةِ في ذَاتِهَا الْمتَحَقِّقَةِ مَع استمرار صَيرورةِ الحياةِ، وتتابُع حَرَكَةِ سَيْرِ التَّاريخ، أو مُدَوَّنَة تَجْربَتُهَا الْكُلِّيَّةُ الْعَاكِسَةُ مُكوِّناتِ هُويَّتِهَا في نصٍّ إبداعي مسبق الوجُودِ، ومُسَتَمرٍّ في الزَّمان؛ بل إنَّه لَيَدْخُلُ هذه التَّجْربَةَ مع كائن طبيعيٍّ، له واقعية الوجود بالْقُوَّة كَمَوضُوعٍ مُحَايَدٍ، مستقلٍ ومعزولٍ، ولا يملكُ، لِكَونِه مُسْرِفَاً في الْوُجُودِ، إِمْكَانِيَّة الوجُود الْفِعْلِيِّ، إلاَّ في حالة اتِّصال الإنْسَانِ بهِ على النَّحو الذي ينقل هذه الإِمْكَانِيَّة من الاحْتِمَالِ التَّجْريديِّ إلى التَّحَقُقِ والتَّعَيُّن.

ولأنَّ اتِّصَالَ الشَّاعِر بالطَّبيعة قَدْ اتَّخَذَ، على مدى تاريخ الشِّعْرِ، مَنَاحِيَ مُتَعَدِّدَةً؛ فإِنَّنا نستطيع أن نتبيَّن مَنْحَيَينِ أساسين يُغَايِرانِ المنحى الذي يتِّخِذُهُ شاعرُ قصيدة الْقِنَاع. فقد يفضي انفتاح “أنا الشَّاعِر” على الطَّبيعة وكائناتها إلى انبثاق آلية الإسقاط، أو آلية التَّفاعل، فنكون، مع الآلية الأُولى، بإزاء المَنْحَيَينِ المُغَايِرينِ لِلْمَنْحَى الَّذي تَنْهَضُ قصيدةُ الْقِنَاع عَلى فَاعِليَّة وُجُوده، وذلك بالمعنى الفني العميق للمُصْطَلحِ الدَّال على القِنَاعِ الشِّعْرِيِّ محَكمِ البناء والتكوين، وهو المَنْحَى الذي يَتَأَسَّس على الآلِيَّة النَّقيضِ؛ أي عَلَى آلية التَّفَاعُل الْحَيَوِيِّ الخلاَّقِ النَّاهِضِ على تجربَة رؤيَا داخِليَّةٍ وعلى اشْتِغَالٍ .

يتمثل المنحى الأول لآلية الإسقاط في إسقاط الشَّاعِرِ لِنَفْسِهِ: مشاعر، وتجارب، وأفكاراً، وتَجَلِّيَاتِ سُلوكٍ، على الطَّبيعة، فيوهمنا أنه يتكلَّم نيابةً عنها، فِيمَا هو، في الحقيقة، يتكلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ التي يُسْقِطُهَا  عليها، وهو الأمر الذي يضعنا إِزاءَ رومانسية ذاتوية متهالكة تنبعُ من إسقاط الذَّات إسقاطاً كُلِّيَاً على موضوعٍ جامِدٍ لا يَنطِقُ أبَداً، ولا تنبعُ كَلِمَاتُه مِنْ خَصَائِصِهِ إنْ هُوَ قَدْ أُنْطِقَ!

وإذْ يتمثَّلُ المَنْحَى الثَّاني في نقيضِ المَنْحَى الأول؛ أيْ في إسقاط الموضوع إسْقَاطَاً كُلِّيَاً على الذَّات، حيث يُسْقِط الشَّاعِرُ الطَّبيعةَ، عبرَ تَقَمُّصٍ سَطْحيِّ لِكَائنٍ، أَو شَيءٍ، طَبِيْعيٍّ، أو أَكْثرَ، على نَفْسِهِ، فَيْجَعَلُهَا تَتَكَلَّم وكأَنَّمَا هي تَتَكَلَّم، بِطَبِيعَتِهَا، عَنْ نَفْسِهَا؛ فإنَّ لِهَذا النَّوع مِنَ الإسْقاطِ أنْ يضعنا إزاءَ مَوضُوعِيَّة زائفةٍ تُنَاقِضُ، على المستوى الظَّاهري فَحَسْب، المَنْحَى الأول؛ لأنَّها تُحَاولُ – بافْتِعَالٍ ظَاهريٍّ مُصْطَنَعٍ، مُسَطَّحٍ، ومَكْشُوفٍ – أن تُحَقِّقَ اكتِمَالَ الْوَهْمِ عَبْرَ إيْهَامِ السَّامِعَ، أو القَارئَ، أو حَتَّى النَّفْسَ، أنَّ الكائناتِ والأَشياءَ الطَّبِيعِيّةَ تَتَكَلَّم عن نفسها، وأَنَّهَا، عَنْ حَقٍّ، تُخاطِبُنَا، بَيْنَمَا هِيَ، في الحقيقة، وفي إدراكنا الذَّاتي العميق، تَتَكَلَّم نِيَابةً عن الشَّاعِر الَّذِي قَرَّرَ أنْ يَتَّخِذَ منها قَنَاةً يُمَرِّرُ من خلالِهَا مَشَاعِرَهُ وأَفْكَارهُ ورُؤَاهُ الخاصَّة، أوْ أنْ يَجْعَلَهَا مَحْضَ بوقٍ لا يَنْطِقُ، أو على الأصَحِّ، لا يبُثُّ، غَيْر صَوتِ الشَّاعِرِ نَفْسِهِ، مَحمُولاً، بسذاجَةٍ تُجَافي الإبْداعَ والفَنَّ، عَلى صَوتِهَا الْمُتَوهَّمِ المزعُومِ كَوَهِمٍ جَرى في الْوَهِمِ تَصْديقُهُ.

والحقُّ أنَّ هذا المَنْحَى، المسكونَ بوهم الموضوعيَّة، لَقَادرٌ على إيهامنا، وعلى توليد الانطباعِ لَديْنَا بأننا إزاءَ حالةٍ مِنَ حَالاتِ التَّقَمُّصِ الْوجْدَانيِّ، أو التَّقَنُّع؛ حيث تَنْسَحبُ “أنا الشَّاعِر” من الْقَصِيْدَة لتحلَّ محلها “أنا الكائنِ الطَّبِيعِيّ”. ولكنَّ التأمُّل في مسألة الحلول هذه، من حيث إنها تقوم على “الاستبدال” لا على “التَّفاعل”، لَكَفِيلٌ باستبعاد أن يكونَ هذا المنحى منطوياً، بأيّ حال، على فكرة التَّقَنُّع كَمَبْدَأٍ إبْدَاعيٍّ تَكْوِينيٍّ أَصَيْلٍ وذي تَجلِّيَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ ومُتَغَايِرةٍ لا تُفَارقُ مَبْداً التَّفَاعُلِ الحيَوِيِّ الْخَلَّاق.

يُغَيِّبُ “الحُلُولُ” وجْهَ الشَّاعِر، تَغْييباً ظَاهِريَّاً، لِيُظْهِرَ وجْهَ الكائنِ الطَّبِيعِيّ مُمْتَصَّاً هُوِيَّةَ الشَّاعِر، ومَسْكُوناً بمُكَوِّنَاتِ هُوِيَّتَهُ، وسَاكِناً حُنْجُرَتَهُ، ومَأْخُوذَاً بِنبراتِ صَوتَهُ، وكَأنَّه ينفي وُجودَ هَذَا الْكائنِ الطَّبِيعِيّ نَفْيَاً مُطْلَقاً، بينما يَدْفعُ “التَّقَنُّع”، القَائِمُ على صَيرورةِ التَّمَاهِي الدِّيالكتيكيِّ ومَورانه دَاخِلَ وُجْدَانِ الشَّاعِرِ وكَينونَته الْكُلِّيَة، يَدفَعُ كِلَا الوجهين والهُوِيَّتَينِ لِلْكُمُونِ خَلْفَ الْقِنَاعِ، والْمورانِ في أعْمَقِ أَغْوارِ باطِنِهِ العَمِيْق، فِيما هُوَ يُظْهِرُ وجهاً ثالثاً مُغَايِراً لكليهما، وهُويةً ثالثةً هي نِتَاجُ تَفَاعُلٍ حَيَويٍّ بين ذاتين تتبادلان الفعل والانفعال، فلا يكونُ الأمرُ مجرد إسقاطٍ لذاتٍ على موضُوعٍ، أو لموضُوعٍ على ذات.

وسواءٌ أحَمَلَ الْقِنَاعُ اسم “الأَنَا الْمُغَايِر” وَحْدَهُ، أم حمل اسماً مركباً تعود عناصره إلى القطبين المتفاعلين في أغْوَارِ بنيته العميقة؛ فإنَّ تشكيل هويته في سياق صيرورة الْقَصِيْدَة هو الذي يُحدِّد، بدقةٍ، إن كانت الْقَصِيْدَة قصيدة قناع بالمعنى الفني العميق، أو قصيدة قناع بالمعنى السَّطحي، الذي يُحِيلُ التَّقَنُّع إلى مجرد حيلة بلاغِيَّة شبيهة بتلك الكنايات التي نتعرَّفها حين نقرأ القَصَائِدِ الأليغورية (الأمُثُولِيَّة) القائمة على استبدال شَيءٍ بشيء وحيدٍ، أو فِكْرةً بفكرة مُحدَّدة تحملها عَلامةٌ أو شَارة، أو حين نتخيل وجود شخصية إنسانيَّة نمطية معينة خلف صوتٍ من أصوات الحيوانات أو مِنْ كائنات الطَّبيعة التي تُزَوَّدُ بِأَصَواتٍ بَشَرِيَّةٍ تَقُصُّ الحكاياتِ والحواديت المَجْعَولَةِ أُمْثُولاتٍ حِكَائيَّة على حَالاتٍ مُجتَمعِيَّةٍ وتَصَوُّراتٍ وأفكارٍ تُوازِيها في تَعَادلٍ ثُنَائيٍّ، تَرادُفيٍّ، مُحْكَمٍ.

وكي يَتَفَادى شاعرُ قصيدة الْقِنَاع إِمْكَانِيَّة السُّقوط في ما يحاول الابتعاد عنه، أو في مَا يُريد لِلْقَصِيدِةِ القائِمةِ على مَبْدأِ التَّقَنُّعِ أن تَأْخُذَهُ بعيداً عنه: الغنائية الذَّاتوية، والموضوعية الزَّائفة، فإنه يستبدل آلية التَّفاعل الْجَدَلِيِّ بآلية الإسقاط، منطلقاً من مبدأ ديَالِكْتِيك التَّمَاهِي، لا من مبدأ الْحُلُول، ومؤسِّسَاً، بذلك، مبدأَ أَنْسَنَةِ الكَائِنِ الطَّبِيعِيّ، وطَبْعَنَة الذَّاتِ الإنْسَانِيَّة، بحيث لا تقتصر هذه العملية المزدوجة، التي تتمّ في إطار تجربة رؤيا داخلية، على إعارة الشَّاعِر صوته للكائن الطَّبِيعِيّ، أو الإيهام بأنَّ الأشياء تَتَكَلَّم من تلقاء ذاتها. بل تتجاوز هذه الثُّنَائية الزَّائِفَة، كي تعثر على القواسم المُشْتَرَكَةِ التي تَتَوَحَّدُ في إطار تفاعلاتها تجربة الكائن الطَّبِيعِيّ وخصائصه المرئية أو الكامنة، مع تجربة الشَّاعِر وجوهر هُوِيَّتِهِ كإنسان؛ بحيث يرى الشَّاعِر نَفْسَهُ في مرآة أناه المغاير، فِيمَا يَرى هَذَا الأَنَا الْمُغَايِرُ “أَنَاهُ” في مرآة الشَّاعِرِ بِوصْفِه أَناهُ المُغَاِيرَ، فيكون الكائن الطَّبِيعِيّ إنساناً والإنسان كائناً طبيعياً، ويكون ناتج التَّفَاعل بينهما كَكَينُونَتيِنِ صُيِّرَتَا ذاتينِ مُتَفَاعِلَتينِ تتبادلان المواقع والأدوار، والخصائص والسِّمات، والتَّجارب والمصائر، هو الْقِنَاع الذي يُجلِّي الوحدة الكونية التي تحتضنُ الإنسان والطَّبيعة في صيرورة جدلٍ مستمرٍ ومفتوح، ويكون صوتُ الْقِنَاع هو صوت الطَّبيعة المؤنسنة، وهو صوت الإنسانِ الطَّبِيعِيّ، الجَوهري؛ هَذا الَّذِي في صيرورة الدَّوراتِ الْوجُودِيَّة لحياة الإنْسَان والطَّبيعة، تَتَبَدَّى هُوِيَّتَهُ المتميزةُ، كَقِنَاعٍ حَيٍّ هُوَ كائنٌ طبيعيٌّ وإنسانٌ تَضْفُرهُما لُحْمَةُ كَينونَةٍ وُجُودِيَّةٍ واحِدةٍ ومُلْتَحَمةٍ، هي كَينُونُةُ الْقِنَاع.

جدلية الأقنعة في الشعر
جدلية الأقنعة في الشعر

وهَكَذَا نُدْركُ أنَّ الشَّاعِر لا يَنْسِحبُ انْسِحَاباً كُلِّيَاً، ومُطْلَقاً، من قصيدته، وَإنَّمَا هُوَ يَغِيْبُ فِي أغْوارِهَا الْعَميقَة مُحَقِّقاً موضوعِيَّتَهَا مُمْكِنَةِ الْوجُودِ، مَوضُوعِيَّتَهَا الحَقِيقِيَّةِ غَيرِ الْمُلْتَبسَةِ، وغَيرِ المُظَلَّلة بِسَذاجَةٍ تِشَكُّلٍ مَوهُومٍ، أو بإسْقاطٍ قَسْرِيٍّ يُزَيِّفُهَا. إنَّهَا مَوْضُوعِيَّةٌ فَنِّيَّةٌ وَوُجُودِيَّةٌ في آنٍ لأَنَّها تَنْجُمُ عن تفاعل ذاتين فاعلتين ومنفعلتين، وليست موضوعيةَ مَوْهُومَةً تَنْتُجُ عن إسقاطِ “ذَاتٍ” على “موضوعٍ” جامدٍ لا يفعل ولا ينفعل، أو عن إسقاطِ “موضُوعٍ” على “ذَاتٍ” لا تَمْتَصُّ منه إلَّا ما تُسْقِطُهُ هي نَفْسُهَا إسْقاطَا قَسْرِيَّاً، وبلا أَدْنى تَفاعُلٍ مَعه أو تَجَاوبٍ مِنْ جَانِبه، عليه.

وهكذا لا يتجاوز الشَّاعِرُ النَّزْعَة الرُّومانسيَّة الْفَرْدَانِيَّة السَّاذَجَةَ، أو النَّزْعَة الذَّاتَويِّةِ المُغْلَقَةِ عَلَى أَنَوِيَّة قَاحِلَةٍ، فحسب، بَلْ إنَّه لِتجاوزُ النَّزْعَة اللَّاإنسانية التي انطوت على ردِّ فعلٍ شديد المغالاة عليهمَا، وهي النَّزْعَة الَّتي ارْتَكزتَ على الدَّعوة إلى تَجْسِيدِ موضوعيَّة الفَنِّ كَمَوضُوعية واصِفَةٍ، مُحَايِدةٍ، ومُجَرَّدةٍ من المشاعر الإنْسَانِيَّة الذَّاتيةِ، ومن علاقة الإنسانِ الْمُبْدعِ: فَناناً وكاتِبَاً، بواقعه ومجتمعه، ومن خُصُوصِيَّة تَجْربَتِهِ، وشَخْصِيَّتِهِ، ورؤيته للعالم، ورُؤَاهُ؛ وذلك على اعتبار أنَّ “الفَنَّ العَظِيمَ” – بِحَسَبِ فلوبير – “هُوَ دائماً فَنٌ موضُوعِيٌّ وغير شَخْصِيٍّ”، وهو الأمر الذي يعني، بحسب فلوبير أيضاً، أَنَّهُ “ليس من حقِّ الفنان.. أن يُعبِّر عن رأيه في شيءٍ أياً كان.. إذْ لم يَحْدُث قَطْ.. أن عَبَّرَت الآلهةُ عن رأي”. كَمَا أنه “ليس من حقِّ الْفنَّانِ أن يري شيئاً أو يقصد إلى شَيءٍ”؛ وذلك لأنَّ “احتلال العدل مكانَهُ في ميدان الفَنِّ، يقتضي أن تَحُوزَ نزاهةُ الوصفِ … جلالَ القانون”.

ولئن أفضت عَمَلِيَّةُ إحْلَالِ “نَزَاهَةِ الوصْفِ”، كقانونٍ “فلوبيريِّ” للكتابَة الإبداعِيَّة الواقِعِيَّة الموضُوعيِّةِ الْجَافَّة، وذاتِ الأسلوبِ الموسُومِ بالدِّقَة، والْمُحَايَدةِ، والْمَجَانِيَّةِ، واللَّاقَصْدِيَّة، وبِالخُلُوِّ التَّامِّ منَ التَّجْريد والغُمُوض، إلى انْسِحابِ الكاتبِ الرِّوائيِّ مِن روايَتِهِ، والشَّاعِرِ مِنْ قَصيدَتِه، والمُبْدِعٍ في أيِّ حَقلٍ أدبيٍّ أو فَنِّيٍّ مِمَّا يُبدِعُ، فَإنَّ هَذَا الانْسِحابَ لَم يَكُنْ إلَّا انْسِحَابَاً وهْمِيَّاً، بَقَدْرِ مَا لَمْ يَكُنْ اتِّخَاذُ النَّصِّ، أو القَصِيدةِ، أو الْعَمَلِ الْفَنِّيِّ، طَابَعاً موضُوعِيَّاً مُطْلَقَاً، وغير شَخْصيٍّ تَمَاماً، إلَّا تَخْيُّلاً زَائِفَاً، وتَخْيِيلاً مُؤَدْلَجَاً لا يَتَجَاوزانِ الظَّاهِرَ المُوهُومَ، ولا يَخْلُوانِ في ذَلكَ مِنْ مَقَاصِدَ وغَايَاتٍ لا تَسْتَجيبُ لِحاجَاتِ الإنْسَانِ وأشْواقِه!

وفي حَقِيْقةِ الأمْرِ الَّتي نَقرأُهَا بِتَفَحُّصٍ مَوضُوعيٍّ، ورَصَانَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ، وإمْعَان، فإنَّ هذا الانْسَحَابَ الوهْميَّ الْمُتَخيَّلَ، وتلك الموضُوعِيَّةِ التَّخْييلِيَّة الْمُؤَدْلَجَةِ الزَّائفة، لم يكونَا، إلَّا تَعْبِيراً فَنِّيَاً وفِكْرِياً، جَمالِيَّاً ودلالِيَّاً، عَنْ جَوانِبَ مِنْ حقيقةَ انْسِلاخِ الإنْسَانِ الْمُبدعِ: أَدِيباً وفَنَّانَا، بَل وكُلِّ كائنٍ بشريٍّ يَسْعَى لإدراكِ إِنْسَانِيَّته، عن مُجْتَمَعٍ بَشَرِيٍّ فَاسِدٍ يَرْفُضُهُ، كَمَا أنَّهُما لم يَكونَا إلَّا تَجْسِيْداً لَما يُجَلِّيه فُقْدَانُ هَذَا الْكائِنِ الْبَشَرِيِّ أدْنَى شُعُورٍ بشَخْصِيَّتَهُ الفرديَّةَ الخَاصَّة، ولِمَا يَعكِسُهُ تَيَقُّنُهُ مِنْ عَجْزِهِ النِّهَائيِّ عَنْ تَشْكِيلِ ذَاتِهِ الإنْسَانيِّةِ الحَقَّةِ في مُجْتَمعٍ بَشَريٍّ فاسدٍ ومُتَوحِّشٍ وبِلا هُوِيَّةٍ تَكْتَنزُ أيٍّ مِنْ مبادئ الإنْسَانيَّة النَّبِيلَةِ وقيمهَا السَّامية، مِنْ حَقَائِقَ مُوضُوعِيَّةٍ ضَارِيَةٍ ومُعْطَياتٍ جَارِحَةٍ تَجَلَّت في واقِعٍ بَشريٍّ مُسْتبِدٍّ صَيَّرَ الإنسانَ وهْمَاً، والحَيَاةَ ضَبَاباً، والْوجُودَ عَدمَاً مُراوِغَاً، ولَمْ يُبْقِ، بَعْدَ ذَلِكَ وأثْنَاءهُ وقَبْلَه، غير الطَّبِيعَةِ وكَائِناتِهَا وأشْيَائِهَا الْجَاري انْتِهَاكُ حُقُوقِهَا واستْنْزافهَا، في كُلِّ حَيثٍ وحِينٍ، مِنْ قِبَل اَنْظِمةِ رأسِ المالِ والاسْتِغْلالِ والتَّملُّكِ، وهي نَفْسُهَا الطَّبيعَةُ وقَدْ تَحَوَّلَتْ، على أيْدي الكُتَّابِ والفَنَّانينَ الموضوعِيينَ المأخُوذينَ بتنظيراتِ فلوبير وَوَصَايَاهُ، إلى طبيعةٍ مَجَمَّدَةٍ في وصْفٍ مَوضُوعيٍّ جَامدٍ تُزْعَمُ لَهُ الْواقِعِيَّةُ والنَّزَاهَةُ، وتُلْقَى عَلَيهِ أقْنِعَةُ الْحِكْمَةِ، وأرْدِيَةُ الْجَلالْ!

لَيْسَتِ الموضُوعِيَّةُ التي يَتَوَصَّلُ إليهَا مِثْلُ هذه الاتِّجَاه اللَّاشَخْصِيِّ، اللَّاذّاتيِّ، السَّاعي، بِدَأبٍ عَنيدٍ، إلى تَوسيعِ نِطاق هَيْمَنَتِهَا وتَكْريْسِ وُجُودِهَا، إلَّا مَوضُوعِيَّةً زائِفَةً ومَوْهُومةً، تَخَيُّلِيَّةً وتَخْيِيلِيَةً، ومَسْكُونَة بأيديُولُوجْيا تَفْتُكُ بالإبداعِ بِقَدرِ فَتْكِهَا بِالإنْسَانِ وبإنْسَانِيَّة الْوجُود. ومِنَ الحَقِّ أنَّ هَذِه الْخُلاصَةِ لا تَتأسَّسُ، فِي تَصَوُّرِنَا، عَلَى ما تَضمَّنَتهُ الفَقَراتُ السَّابِقَة مِنْ تبَصُّراتٍ فَحَسْبُ، وإنَّمَا تَنْهَصُ، أسَاساً وفي السِّيَاقِ نَفْسِه، على حقيقةِ أنَّ هَذِه الـ”مَوضُوعِيَّة” الْجَامِدَةِ، لا تَتأسَّسُ على شَيءٍ سِوى إدْراكٍ غَيْرِ مُؤَصَّلٍ مُؤدَّاهُ أنَّ الذَّاتَ الإنْسَانِيّةَ الرَّائيةَ والمُدْرِكَةَ إنَّمَا تَنْسَحِبُ انْسِحَابَاً كُلِّيّا مِنْ ذَاتِهَا وهي تُبْصِرُ الموضُوعَ الَّذي تَتَفَحَّصُهُ بِتَجَرُّدٍ، وتَتَبَصَّرُ فِيه بِرَوِيَّةٍ وإِمْعَانٍ، وتَتأَمَّلَهُ بِعُمْقٍ، لِتُدْرِكَهُ، وهُو الأمْر الَّذي يُنْتِجُ وهْمَاً آخَرَ يَقُولُ: إِنَّ الأَشْيَاءَ، وهِيَ وحْدَهَا فَحَسْبُ، الَّتي تَتَكَلَّمُ!

ولَئِنْ كانت الآلِهَةُ نفسها، وأيَّا مَا كَانَتْ مَنَابِعُ وُجُودِهَا، قد عجزتْ، كما يؤكد فلوبير، عن التَّعْبِير عن نفسها؛ فإِنَّنَا لَنَتَساءَلُ: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهَا الأَشْيَاءُ؟! وإِنَّنَا لَنَكْتَفِي الآنَ بِهَذَا السُّؤالِ الَّذي نَحْسَبُ أَنَّنَا سَنَعْثُرُ في مُكوِّنَاتِ الإجابة عَنْهُ عَلَى مَا يُعَزِّزُ مَا نَتَوافَرُ عَليهِ مِنْ أدِلّةٍ مُؤَصَّلَة: حضارِيَّاً، وتاريخيَّاً، وعقلِيَّاً، ومنْطِقيَّاً، ومَعْرِفِيَّاً، تُؤَكِّدُ انْطِواءَ هذا الاتِّجَاه اللَّاشَخْصيِّ، اللَّاذَاتيِّ، على عناصر تفكُّكِهِ الدَّاخلي؛ ذلك أَنَّ الاحْتِجَاجِ بِالحُجَّة القائِلَةِ إنَّ الآلهةَ لَمْ تَتَكَلَّم لِتُعَبِّر عن رأيٍّ، قَط، وهو الاحْتِجَاجُ الْمصْحُوبُ بِالدَّعْوةِ الْملْحَاحةِ إلى أنْ يُسْكِتَ الإنْسَانُ، بِإطْلَاقٍ، ذّاتَهُ، ويُخْرِسَهَا، وأنْ يَكُفَّ الإنْسَانُ الْمُبدِعُ عَنِ التَّعْبِير عن ذَاتِهِ، وعَنْ رؤيتهِ لِلْعَالمِ، وعَنْ انْشِغَالاتِه الحَيَاتِيَّة، وتَبَصُّراتِه الْوجُودِيَّةِ، وأشْوَاقِهِ ورُؤَاهُ، وذلِكَ مُحَاكاةً للآلِهَةِ، واحْتِذَاءً لِحَذْوِهَا، وتَقْلِيداً لَهَا، وسَيْراً عَلَى سِراطِهَا، إنَّمَا هُوَ نَفْسُهُ الاحتجاج الذي يُؤَكِّدُ لَنَا، وبِلا أدْنَى لُبسٍ أَو ظلالِ شَكٍّ، أنَّ الإنسانَ المبدِع، وليس الإنسانُ بإطلاقٍ، هُو النَّاطِقُ الوحِيدُ في الْكَونِ الأَرْضِيِّ والسَّمَاوِيِّ الذي نَسْكُنُهُ أَو نُبْصِرهُ ونَراهُ؛ لأَنَّهُ، أيْ الإنْسَان الْمُبْدِعَ، الكائنُ الوحِيدُ الذي أَنْطَقَ الآلِهَةَ أقْوالَ حَقٍّ، أو نَطَقَ باسْمِهَا، حَامِلاً رسَالَتَهَا، مُنْطِقاً، باسْمِهَا وباسْمِهِ، الكَيْنُونَاتِ والأَشْيَاءَ الَّتي يُعِيرُهَا، أو لَعَلَّهُ يُكْسِبُهَا، لُغَتَهُ، وَوُجْدَانَهُ الْكُلِّيَّ، وصَوتَه!

ومنَ الحقِّ أيضاً، ومتابَعَةَ من قبلنا لتَبَصُّراتٍ قَدَّمَهَا إرنِسْت فِيشَرْ ونُقَادٌ مَرْمُوقُونَ أخَرونَ، أَنَّنَا لا نَجِدُ في اعْتِمَادِ هذا الاتِّجَاهِ المُوضُوعِيِّ، الجَامِدِ الزَّائِفِ الْمُؤَدْلَجِ، على حُجَّةٍ أُخرى يُؤَسِّسُها “الوهْمُ القائلُ بأنَّهُ بالاعتماد على ‘الإد’ (الفرويدي)، يستطيعُ الإنسان أن يجعل الأشياءَ الصَّامتة نفسها تَتَكَلَّم”، إلَّا مَا يُؤَكِّدُ وَهْمِيَّة هّذهِ الْحُجَّةِ وزيْفَها، إذْ هِيَ لا تُؤَكِّدُ شيئاً سِوى خَواءِ هَذا الاعْتِماد عَلى حُجَّةٍ فَارِغَةٍ، وسوى حقيقة أنَّ “المتحدِّثَ في الواقع ليسَ هو الأشياء، وإنَّمَا هو الإنسانُ الذي يضعُ نفسه مَوْضِعَ الأشياءِ، فهو لم يَعُدْ يعتمدُ على وعيه، وإنما يعتمد على تداعي الخواطر في اللَّاوعي..”.

تفاعل جدلي
تفاعل جدلي

وفي ضَوءِ هَذِه الخُلاصَةِ المُؤَصَّلَةِ تَأصيلاً مَعَرِفيَّاً: إِنَاسِيّاً، ونَفْسِيّاً، وجَمَاليّاً، ونَقْدِيّاً، لا تَكُونُ “الأنا النَّاطقةُ” قصيدةً من قَصَائِدِ هذا الاتِّجَاه “الْمَوْضُوعيِّ” الأجْرَدِ إلَّا  “أَنا الشَّاعِر الضَّائِعِ؛ أَنَا الشَّاعرِ الْمُسْتَلَبِ المُتَشَظِّي الهُوِيَّةِ الإنْسَانيَّة، أو فَاقِدِهَا، أيْ “الشَّاعِر الزَّائفِ، وغَيْرِ المَعْنيِّ، خِلافَاً لِشَاعر قَصِيدَةِ الْقِنَاعِ التَّكْوِينِيِّ الْمُحْكَمِ، بِالْبَحْثِ اللَّاهِبِ، والْمُتَصَاعِدِ، والْمُتَجَدِّدِ دوماً، عنها، بِقَدْرِ مَا هُوَ مَعْنيٌّ، بِدَأَبٍ وحِرْصٍ عَنيدٍ وبِلا كَلَلٍ أو مَلَلٍ، بمُتَابَعةِ الإعْلانِ عَنْ فُقْدانِهَا، واسْتِحَالَةِ اسْتِعادَتِهَا، وانْعدامِ أدنى إمكانيَّة للشُّروعِ في صَوغِهَا مِنْ جديدٍ؛ وكأنما هُوَ لا يَرى وظِيْفَةً لِما يَبُثُّهُ في النَّاسِ منْ قَولٍ، أو غَايَةً لِوُجُودِهِ القَائمِ في مُجْتَمَعٍ بَشَريٍّ غَير إنْسَانيٍّ، إلَّا أنْ يُمْعِنَ في تِكْرارِ الإعْلِانَ عَنْ “موتَ الإنْسَانِ”، و”سِيَادَةِ الأَشْيَاءِ” الْجَامِدَةِ المُتَحَجِّرة، تِلكَ الَّتي لَمْ يُجَمِّدْهَا أو يُحَجِّرهُا أو يُنْهِكهَا أَحدٌ سِوى الكائِنِ البَشَريِّ الَّذي لَم يُدْرِكْ مُبْتَدأَ إنْسَانِيَّتَهِ، أو الَّذي تَخَلَّى بِالفِعْلِ عَمَّا كَانَ قَدْ أدْركَهُ مِنهُ لَحظَةَ أَنْ اخْتارَ الإيْغَالَ في تَوَحُّشٍ بَشَريٍّ اتَّخْذَهُ وسيلَةً لإشْبَاعِ جَشَعِه النَّهمِ عَلى حِسَابِ آخريهِ مِنَ الأشياءِ والكائناتِ الطّبيْعِيَّةِ والنَّاس!

هَكَذا، إِذَنْ، لا يَكونُ شَاعِرُ قصيدة الْقِنَاعِ التَّكْوِينِيِّ إلَّا شَاعِراً حِقِيقيَّاً، شَاعراً نَقِيْضَاً للشَّاعِر الزَّائفِ سَليلِ “الموضَوعِيَّة الزَّائِفة الْجَرْداء”، إنَهُ هُو الشَّاعِرُ الحقيقيِّ الْمُؤَهَّلِ لِتَحْقِيقِ ثَالُوث: الْمُوضُوعيَّةِ الْحَقَّةِ، والرَّمزيَّةِ الْحَقَّة، والدِّراميَّةِ الْحَقَّة، كَسِمَاتٍ جَماليَّةٍ جَوهَرِيَّة تُمَيِّزُ الشِّعْرَ الحقيقيَّ الصَّافِي. إنَّهُ، وحْدَهُ، الْمُهَيِّئُ وِجْدَانَهُ الْكُلِّيَّ، ومُخَيِّلَتَهُ الطَّلِيْقَةَ، للانْخِرَاطِ في تَجاربِ رؤىً داخِلِيَّةٍ تَجْمَعُه بكائنٍ طبيعيٍّ أو شيءٍ، أَو بأكْثَرَ مِن كائنِ وشيءٍ، في مَداراتٍ وُجُودٍ حَيَويٍّ تَمُورُ رِحَابُهَا بِحَيَوِيَّة الإنسانِ الْمُتَفَاعِلَةِ، عَلى نَحْوٍ حَمِيْميٍّ، مَعِ الأَشْيَاءِ والْكَائِنَاتِ.

إنَّه التَّفَاعُلُ الْجَدَليُّ الَّذي لا يَكونُ إلَّا بَينَ ذَاتَينِ وقَّادَتَينِ، ذاتَينِ فَاعِلَتَينِ ومُنْفَعِلَتينِ، ومُهَيَّئَتَينِ لِتَبَادُلِ المَواقِعِ والأدوارِ والتَّجارُبِ والأحاسيس والْمشَاعِرِ والانْفِعَالاتِ والأفِكارِ والتَّصَوراتِ والأصْواتِ والنَّبَراتِ، والأشْوَاقِ والرُّوى، عَلَى مدى صَيرورةِ تَجْربَة الرَّؤْيَا الدَّاخلِيَّةِ المائِرةِ في أعَمَاق وِجْدانِ الشَّاعِرِ وكَيْنُونَته المَكْنُوزةِ بِالّلُّغةِ والْمعْرِفَة والتَّجَارُبَ الْحيَاتِيَّة، وبِكُل مَا تُوقِظُهُ مُحَفِّزاتُ التَّعبيرِ الشِّعري عَنْ هذه التَّجرُبة الرَّؤْيَاوِيَّة مِنْ ملكاتِ الإبداعِ الأدبيِّ ومهاراتِه وطَاقَاتِه وقُواهُ الَّتي يَتَوافَرُ الشَّاعِرُ نَفْسُهُ عَلَيْهَا.

وبِهَذا المَعْنى، لا يَكونُ للمُقاربَة السَّابِقَة، ولمُقَارَنَةِ مَا يُسْفِرُ عَنْ تَجاربِ الرُّؤى الدَّاخِلَيَةِ مِنْ شَعْرٍ حقيقيٍّ ومنْ أقنِعَةٍ وقَصائدَ، بِما يسْفِرُ عَنْ “المُوضُوعِيَّة الفَاليريَّة الزَّائِفَة” الدَّاعِيةِ إلى “إلْغاء الذَّاتِ” والاكْتِفاءِ بِتَدوينِ “ما تَقولُهُ الأشْيَاءُ”، أَو ما يُفْتَرضُ، أو يُزْعَمُ، أنَّها تَقُولُه، إلَّا أنْ يُفْصِحَ عنِ نُهُوضِ تَجَاربَ الرُّؤى الدَّاخِلِيَّةِ ليسَ على تَرْكِ كُلِّ ما تَدعو إليْهِ تلك المُوضَوعِيَّة الزَّائفة، بِلْ عَلى اجْتثَاثِهِ مِنْ جُذُوره عَبْرَ استبدالِ “فَاعِليَّة الْجَدلِ” بـ”نَزاهَةِ الْوصْفِ” عَلى نَحوٍ يُؤَسِّس لانْطلاقِ فاعليَّة “ديالكتيك التَّمَاهي” الَّذي يَنْفِي “الْحُلُولَ”، والَّذي يُحقِّقُ انْبثاقَ فَاعِلِيَّة “ديالكتيك التَّنَاصِّ” على نَحْوٍ مُلازمٍ ومُتَواتِرٍ يَتكَفَّلُ بَتجْسيدِ “حيَويَّة التَّجربَةِ وتَدفُّق صيرورَتِها” تَجْسِيداً نَصِّيَاً يَنبضُ بِـ”حيَويَّة اللُّغَة”، في مُقابِل “سُكونِيَّة الْوصْفِ”، ويُحُقِّق “وحدة الرَّامِز والرَّمزِ” ويَرسُمُ مُنْحَنى سَيرَتِهِما و”تَحَولاتِهِما الْمُلْتَحِمة”، في مُقابِل “انْفِصَالِ” الشَّاعِر “الواصِفِ” عَنِ الكائنِ، أو الشَّيءِ “الْمَوصُوفِ”، وثَباتِ كِلَيهِما في سُكُونِيَّةِ تُخْرسُ صَوتَ الإنْسانِ الذَّاتِ، والكائنِ الطَّبيعيِّ الذَّات، لِتَنقلَ “ما تَقُولهُ الأشياءُ” فَلا تُنْتجُ مِن النُّصُوصٍ إلَّا نُصوصَاً إسْقَاطِيَّةً لا تَقُولُ شِيْئاً سِوَى “ما لا تَقُولُهُ الأشَياءُ”!.

***

ولعلنا نستطيع، في ضوء ما تقدم، وفي ضوء القاسم المشترك الذي يَضْفُرُ قصائد الْقِنَاع العائدة إلى المجال الطَّبِيعِيّ داخل إطار جدلية الإنسان – الطبيعة، كمحور أساسي تتحرك عليه الْقَصِيدَة، فتلتصق به، أو تنطلق بعيداً عنه دون أن تفارقه، وهي تبني، في كلِّ حال، تجربة الْقِنَاع – الرَّمز والرَّامِز، وتصهر مكوناته وتصوغ هويته، لعلنا نستطيع، في ضوء ذلك كلِّه، أنْ نقارب القصائد لنتعرف الآلياتِ والتَّقنيات الفنية والأسْلُوبِيَّة التي تنبثق عن جدلية الإنسان – الطَّبيعة، والتي تنهضُ بعملية بِنَاء النَّصّ الشَّعْريِّ عَبْرَ سِبْكِ نَسيجه، وتكوين الْقِنَاع الَّذي يَخوضُ تجْربَته ويَنْطِقُهُ، وتَرْمِيزهِ لِيكُونُ هُو الرَّمزُ والرَّامِزُ، ولنتعرف، في سياق ذلك، المجالاتِ والْحُقُولَ المصدريةَ الأخرى التي تستلهمها هذه الْقَصِيْدَة، أو تلك، وهي توسِّع الدَّائرة التي يتحرك فيها مُؤَشِّر بِنَاءِ النَّصّ، وتَسْمِيَة الْقِنَاع وتَكوينِهِ عَبْرَ قَولِ تَجْرُبِته الْمرويَّةِ في قَصيْدَتِه.

ونظراً لأن المجال الطَّبِيعِيِّ في المَتْنِ الشَّعري لقصيدة القناعِ في الشَّعْر العربيِّ الْمُعاصِر، لا يَضُمُّ سِوى ثلاثة أقنعةٍ، تنطق ثلاث قصائد، لثلاثة شعراء، ولأَنَّ التَّحليلَ النَّصِّي قَد بَيَّن حقيقةَ أنَّ كُلَّ واحدةٍ من هذه القصائد تَتَّسِمُ بعلاقة مع المحور الذي تَتَحَرَّكُ عليه تميّزها، من حيث درجة قربها منه أو ابتعادها عنه، عن غيرها من القصائد، ولأنَّ لكلِّ قصيدة تقنياتها الخاصة في أَنْسَنَةِ الْقِنَاعِ الطَّبيعيِّ، وفي بناءِ تجربتهِ النَّصِّيَّة؛ فَقدْ كانَ لذلك كُلِّه أنْ يُوجِبَ عدم الاكتفاء بتناول قصيدة واحدة كنموذجٍ دال، وأنْ يَقْتَضي تناول القصائد الثَّلاث؛ حَيْثُ تقدمُ كُلُّ واحِدةٍ مِنْها نَمُوذَجاً مُتَمَيِّزاً، أو مُقتَرَحاً إبْدَاعِيّاً  يَتَفَرَّدُ بِخَصَائصَ تُميّزهُ عَن غيره من القصائد، سَواءٌ في إطارِ أقْنِعَة المجال الطَّبِيعِيِّ أو في الإطار الْكُلِّي لقصيدة القِنَاع بِمَجالاتِه الثَّلاثَة العائدة إلى الطَّبيعةِ، والإبْداعِ، والتَّاريخ، عَلى تَنَوُّع حُقُولِهَا الْمصْدَرِيَّة، وتَشَعُّبِ فُروعِهَا.

فَلْنَبدأُ، إذَنْ، بتعرف مصادرِ تِسْمِيَة وتكوين الْقِنَاع النَّاطقِ قصيدةَ “نَبْتٌ مُتَسَلِّقٌ” للشَّاعر سعدي يوسف، والْخَائضِ تَجْربَتهَا، لِكونها قَصِيدة شديدة الالتصاق بالمحور، أو بقاعدة التَّفاعل التي يؤسسها قطبا الْقِنَاعِ اللَّذينِ هُمَا، هُنَا “أنا الشَّاعرِ الرَّائي”، و”أنا أناهُ  الْمغَايِر” الَّذي هُو “نَبْتٌ مُتَسَلِّقٌ”، وذلك تَمهيداً للشُّروعِ في تَقديم دِرَاسَةٍ نَقْدِيَّة نَصِّيَّةٍ تَفْصِيْلِيةٍ تَنْهضُ عَلَى إعْمَالِ المنْهَج النَّقديِّ الْمَفْتُوحِ، الْمُؤَسَّسِ، أَصْلاً، عَلَى مُعطَياتِ النَّمَوذَج التَّصَوُّري الَّذي تَمَّت لَنا بَلورتُهُ عَلى النَّحو التَّفْصِيليِّ الْجَلِيِّ الواردِ في الكتابِ الأوَّل “قصيدة القناع في الشِّعر العربي الْمعَاصر: تَحْلِيْلُ الظَّاهِرة”، والْمُرَكَّز على تَكْوينِ الْمتْنِ الشِّعري لقصيدة القناع في الشِّعر العربي المُعَاصِر، وعَلَى تحليل ظَاهِرة التَّقّنُّع مَذْ نَشْأَتِها حتَّى لَحظة تَجَلِّيها في الشِّعْر العربي الْمُعَاصِر، وعَلَى تَأْصيل مَفْهُومَيِّ: الْقِنَاعِ، وقصيدة الْقِناع، تَأصيلاً مَعْرفِيَّاً، جمالِيَّاً، ونقْدِيَّاً.

وسيَكونُ لَنا، وِفقَ مُكَوِّنَاتِ النَّهج نفسِه، أنْ نَذْهِبَ إلى تقديم قِراءَتِنَا النَّقْدِيَّة النَّصِّيَّة التَّفْصِيلِيَّة لِقصيدة “دفاع الأسد عنترة” للشَّاعر معين بسيسو، الَّتي تستدعي عَملِيَّة بِنَائِها مَصَادر تَكْوِينيَّة أخرى، تُؤَسِّسُ لابتعادِ مؤشرُ بناء النَّصّ وتكوين الْقِنَاعِ، قليلاً، عن المحور الَّذي يَتَحرَّكُ عَلَيهِ، مُوَسِّعاً قُطْبَ الدَّائرة التي يتحرَّك في نِطاقِها، ومُنْفَتِحَاً على دُخُولِ دوائرَ مَصْدَرِيَّةٍ أُخْرى.

أَمَّا قصيدة “مذكرات البحر الميت” للشَّاعر عِزِّالدِّين المناصرة؛ فَإنَّها تَتأسَّسُ على تَعَدُّدية لافِتَةٍ، وعلى تنْوِيعٍ يَتجاوزُ الْمجَال الطَّبِيْعِيِّ، في مَصادرِ تَكوين القناعِ، وبناء النَّصِّ الَّذي يَنطِقُه، وبَلْورةِ التَّجربَة الَّتي يَخُوضُ غِمَارَهَا في رحابِه. ولِكلا الأمرين: التَّعَدُّدِيَّة، والتَنْوِيع، أنْ يُفْضِيَا، بطبيعَة الْحَالِ، إلى توسيع الدَّائرة التي يتحرك فيها مؤشر البناء والتكوينِ مُبْتَعِداً عن مِحْوره الرَّئيس، ومُنْفَتِحَاً على دوائرَ جَديدةٍ تَسْتَجيبُ لِتَحَرُّقِ القِناعِ إلى التَّحَرُّكِ خارج المجال الطَّبِيعِيّ الذي منه استدعي اسمهُ، والَّذي لا يُفَارِقُهُ، أبَداً، وإنَّما يَسْعى، طَوالَ الوَقْتِ وعلى مدى صيرورة التَّجربَة، إلى تعزيز صلته به وتَرسِيخِ وُجُودِهِ الْمَائِرِ في وِجْدَانِه فِيْمَا هُوَ لا يَكُفُّ عَنِ السَّعي لاسْتِعَادةِ وُجُوده الْحَيَوِيِّ في رِحَابه. وسيَكونُ لِهذا التَّوسيعِ والتَّنْويعِ والتَّعدُّد في مَصادرِ البناء والتَّكْوين، أنْ يِسْتَدْعي انبثاقَ طَرائِقَ تنطوي على آلياتٍ أكثر تعقيداً في بناء تجربة الْقِنَاع، وفي تكوينه، وفي امْتِصَاصِ مُكَوِّناتٍ تَتفاعَلُ، بِلا تَوقُّفٍ، في صوغ هُوِيَّتِهِ، وبَثِّ رُؤاه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.