إبراهيم الطنبولي اللوحة المتمردة

الجمعة 2019/02/01
غرافيك "الجديد"

تشكل تجربة الفنان التشكيلي إبراهيم الطنبولي إضافة فريدة للتجارب التشكيلية المصرية والعربية، حيث تهيأت الظروف للفنان منذ نعومة أظافره أن يشتبك بصريا وجماليا وفكريا مع عالم الفن التشكيلي نتيجة لنشأته في أسرة فنية، فعمه الفنان لطفي الطنبولي وهو واحد من الفنانين البارزين، وكانت أعماله تعرض في صالونات باريس، وكان يقام بالقرب من بيت الأسرة بينالي الإسكندرية الدولي في مجمع الفنان حسين صبحي للمتاحف “متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية”، فالبيئة التي نشأ فيها كانت دائما محل احتفاء بأعمال الفنون التشكيلية. هكذا شغف بالفن وبدأ متابعة المتاحف والمعارض والفنانين.

وجد الطنبولي أن تاريخ الفن التشكيلي أنجز فيه كل شيء، وتساءل ما الذي يمكن أن يضيفه فنان جديد لهذا التاريخ الإنساني العظيم الذي أنجزه الفنانون التشكيليون في أعمالهم؟ هذا التساؤل كان شغله الشاغل منذ أن بدأ بالرسم. ماذا يمكن أن أضيف إلى منجزات الحركة التشكيلية في مصر وفي العالم كله؟ سؤال جاد وطموح، وكانت الإجابة تطويرا وتجديدا وتمردا لا يتوقف على القواعد والمقاييس المدرسية والأكاديمية، في رحلة مثيرة لتشكيل خصوصية فنية.

حرصت أسرة الطنبولي على ألا ينافس الفن في حياة ابنهم شيئا آخر، وألا تقيده قواعد وتقاليد وتيارات ومدارس فنية بعينها، أو أن يرتبط الفن عنده بالاسترزاق والتكسب، فأصروا على ألا يلتحق بكلية الفنون الجميلة، وأن يلتحق بكلية التجارة، وأن يعمل لينفق على فنه، لا أن يتكسب منه، وهو الأمر الذي أكسبه قدرا مبكراً من الحرية في رؤاه الفنية، ومن مرحلة إلى أخرى، وأن يكون حريصا على الاختلاف والإضافة في خطوطه وألوانه وتكويناته ومعالجاته لتجليات الأفكار والرؤى.

عانى الطنبولي الكثير كونه خارج القواعد والتقاليد المدرسية والأكاديمية، أخلص لفنه مجددا ومطورا لأدواته ومتابعا عن كثب للتجارب المحلية والعالمية، يقرأها ويتأملها ويعرف موضع ريشته وخطوطه وأفكاره في هذا العالم الثري بالفن والجمال، واستطاع أن يقدم ما يزيد على ألف لوحة لا تتشابه كل منها مع الأخرى، وأن يجول العالم غربه وشرقه لتلقى أعماله الاحتفاء والتقدير الذي لم يحظ به في وطنه بسبب الشللية والتكتلات والتحالف هنا وهناك داخل الأوساط الفنية التشكيلية. ولطالما كان بعيدا عن الإعلام. مؤخراً، حصل الطنبولي على الجائزة الكبرى لبينالي شرم الشيخ الدولي للفنون في دورته الثالثة، وكان لنا معه هذا الحوار حول حياته وبداياته وفنه.

قلم التحرير

الجديد: تبدو مأخوذا بحياة المهمشين والفقراء وهمومهم وقضاياهم بما تحمله من تجليات اجتماعية، وقد انعكست على معالجتك مفردات التراث الشعبي.. هل لك أن تحدثنا عن المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها تجربتك التشكيلية؟

إبراهيم الطنبولي: منذ طفولتي وقبل تعلم القراءة والكتابة كنت أنظر إلى الحروف والكلمات على أنها أشكال تستهويني وكنت أشخبط على الأوراق أشكالا مختلفة، محاولا التعبير بالخطوط عما يدور حولي في محيط الأسرة، وفي المرحلة الإعدادية كان هناك مدرس رسم رائع تعلمت منه الكثير من دراسات للطبيعة الصامتة ورسم الموديل والظل والنور والزخرفة والخزف، وأهم ما أثر فيّ هو طريق تدريسه للرسم، كان يطلب منا أن نغمض أعيننا ونستخدم الألوان والخطوط دون أن نرى ما على سطح كراسة الرسم، ثم بعد ذلك يطلب من الطلبة فتح أعينهم وتأمل هذه الألوان والخطوط، وكل طالب يرسم ما يراه من خلال هذه الألوان والخطوط.

ومن خلال دراستي لمادة علم النفس بالمرحلة الثانوية وجدت أن كل ما يمر على الإنسان خلال فترة حياته من أحداث وتجارب وعلاقات وغيره يحتفظ به داخل العقل الباطن للإنسان، وهو ما يسمى اللاشعور، ولا يتذكره الإنسان إلا في حالة وجود مثير، والمثير هنا يمكن أن يكون صوتا أو شكلا أو كلمة، كأن تسمع أغنية معينة تذكرك بموقف معين أو الذهاب إلى مكان معين يذكرك بأحداث معينة، وهكذا أدرجت ما كان يعلمه لنا مدرس الرسم في المدرسة الإعدادية حيث تتجلى من خلال الألوان والخطوط رؤية “المثير” ويرى الفنان ما هو موجود لديه باللاشعور.

أبدأ اللوحة بكسر إحدى القواعد الأكاديمية المتعارف عليها في التكوين، لأنني على قناعة بأن الفنان هو الذي يبدع، وأن الجمال نابع من داخله

أيضا من أهم المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها تجربتي التشكيلية أنني وجدت من خلال دراستي لتاريخ الحركة التشكيلية في مصر والعالم أن التاريخ الإنساني قدم أعمال عظماء وأساتذة كبار أبدعوا حتى ليظن المرء أنهم أبدعوا كل شيء، ومن ثم كان السؤال لديّ ماذا يمكن أن أضيف إلى منجز الحركة التشكيلية بعد كل هذا التاريخ العظيم؟ وكانت الإجابة هي أن ما يمر عليّ في حياتي أو في حياة كل إنسان يختلف عن أي إنسان آخر لاختلاف الزمان والمكان والأشخاص والتطورات، بمعنى أن كل إنسان له تجربته الخاصة، وبذلك إن استطعت أن أعبر عن تجربتي الخاصة بأسلوبي الخاص وبصدق دون افتعال، لا بد أن تكون أعمالي إضافة حقيقية للحركة التشكيلية، وتعبيرا صادقا عن كل ما يدور حولي من أحداث ومواقف وعلاقات إنسانية واجتماعية وأماكن وغير ذلك من حياة المهمشين والفقراء وهمومهم كما انعكست على تراث مصر الكبير من حاضره وماضيه وتطلعاتي للمستقبل الذي أحلم به لمصر والأمة العربية والعالم كله.

ولادة اللوحة

الجديد: كيف تبدأ العمل على لوحتك، هل ثمة أفكار مسبقة أم أنها تختمر داخلك وتتجلى بعد ذلك على اللوحة؟

إبراهيم الطنبولي: تبدأ اللوحة غالبا دون استحضار فكرة مسبقة، ولكن تبدأ بتحضير اللوحة بألوان وخطوط وتكنيكات مختلفة اكتسبتها من خلال ممارستي، وتتداخل وتتفاعل هذه اللألوان والخطوط داخل وجداني أثناء التحضير، وبعد ذلك تأتي مرحلة التأمل والاندماج في اللوحة.

وفي هذه المرحلة تتجلى لي أشكال مختلفة أحسها ولكن غير واضحة المعالم، وبعد ذلك أبدأ بإظهار هذه الأشكال من خلال خبراتي المكتسبة دون افتعال ودون البحث عن معان أدبية أو فلسفية معينة، ولكن بعلاقات وجدانية ومن خلال العلاقات التشكيلية التي تعبر عن أسلوبي وشخصيتي، وبعد ذلك أتأمل اللوحة كمتلق وعين ناقد، وبمنتهى الدقة أتأمل كل جزء في اللوحة وأدخل ما يتراءى من تغيير بما يخدم اللوحة إلى أن تنتهي بالصورة المرضية لي، ثم بعد ذلك أجد أن ما تعبر عنه اللوحة هو ما أشعر به في داخلي في هذه اللحظة.

وأحيانا أبدأ اللوحة بكسر إحدى القواعد الأكاديمية المتعارف عليها في التكوين، لأنني على قناعة بأن الفنان هو الذي يبدع، وأن الجمال نابع من داخله وليس من خلال قواعد أو مقاييس أكاديمية تدرس، لأن الالتزام بالقواعد غالبا ما يقضي على فكرة الإبداع الفني، وأن الجديد يأتي دائما من الاستفادة من القديم فقط والخروج به عن المألوف.

العالم مدرستي

الجديد: هل ثمة مدارس أو تيارات أو اتجاهات فنية تأثرت بها وألقت بظلالها على تجربتك؟

إبراهيم الطنبولي: طبيعي أنني تأثرت واستفدت من كل المدارس والاتجاهات الفنية والتاريخ الكبير للحركة التشكيلية في العالم كله من خلال دراسته وزيارة المعارض والمتاحف في مصر ومختلف دول العالم، ولكن أكثر ما أثر فيّ هو الحرية والجرأة والتلخيص والتشخيص عند بيكاسو وماتيس وقوة الرسم عند ايجون شيلي والألوان عند جوجان وديجى ورينوار والكثير ممن يصعب ذكرهم جميعا، وأكثر ما تأثرت به هو المصري القديم والقبطي والإسلامي والحضارات السابقة في الشرق والغرب. باختصار تأثرت بكل التاريخ الإنساني السابق والمعاصر، ولكنني بحثت عن تجربتي الشخصية بكل ما تحمل من رؤى وأفكار وثقافات مختلفة ورؤيتي الخاصة لكل ذلك.

البهجة والحزن

الجديد: قليلة هي البهجة التي تطل من لوحاتك فالشخصيات والأجواء ذاتها غالباً ما تخيم عليها مسحة من الحزن، رغم بعض الاستثناءات؟

إبراهيم الطنبولي: أختلف معك قليلا في هذا الرأي حيث أنني حريص كل الحرص على أن أبدأ لوحاتي عندما تكون حالتي النفسية في حالة بهجة حتى تنعكس هذه الحالة على اللوحة وأن تحمل اللوحة شحنة إيجابية للمتلقي، ونحن في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها مصر ومنطقتنا العربية بأمس الحاجة إلى البهجة والطاقة الإيجابية التي تساعدنا جميعا على الوصول إلى وضع أفضل بكثير مما نمر به الآن، ومن أفضل ما كتب عن أعمالي بوصفها صانعة البهجة وهي من أسباب اقتناء أعمالي لدى الكثير من الجهات والمؤسسات والأفراد، ولكن الاستثناءات هي التي بها مسحة من الحزن وفي هذه الأعمال دائما أكون حريصا على أن تتضمن ألوانا ساخنة ومبهجة حتى لا تؤثر على المتلقي بطاقة سلبية، ولكن أحرص على إضافة طاقة إيجابية للخروج من مسحة الحزن في موضوع اللوحة، وعلى أية حال فإنني لا أحاول الافتعال ولكنني أرسم ما بداخلي مما يجرى من حولي وأتفاعل معه وأتأثر به وأعرض وجهة نظري من خلال لوحاتي.

المرأة والرجل

Thumbnail

الجديد: تكوينات الجسد، خاصة جسد المرأة، تأخذ أبعادا تصل في بعض اللوحات إلى حد التشويه. كيف ترى تجليات حضور المرأة داخل لوحاتك بعالمها وعلاقاتها الحميمة وإحساسها بجسدها؟

إبراهيم الطنبولي: المرأة هي نصف المجتمع، هي الأم والأخت والابنة والزوجة والأقارب والزملاء والأصدقاء، وهي الأرض التي تعطي خيراتها وحبها ومشاعرها النبيلة لكل من حولها وللمجتمع كله. المرأة ليست جسدا لمتعة الرجل فقط ولكنها عالم كبير مليء بالمشاعر والأحاسيس.

جسد المرأة حالة تعبيرية استخدمها في التعبير عن كل ما سبق ذكره، ولكن لا أقصد أبدا تشويه المرأة في لوحاتي وإنما تلخيص أو تحطيم النسب الطبيعية للمرأة من أجل الوصول إلى الحالة التعبيرية في اللوحة، كما يتجلى إبداع الخالق في جسد المرأة، ولقد تناول الفنانون جسد المرأة على مر العصور في آلاف الأعمال الفنية من نحت وتصوير وغيرهما بما في ذلك جسد المرأة الجميلة والقبيحة وغيرهما، وكذلك من أبجديات اللغة التشكيلية دراسة جسد المرأة من الناحية الفسيولوجية والسيكولوجية. ولا ننسى أن المصري القديم قام بتخليد المرأة ووضع لها مكانة خاصة في الآثار المصرية القديمة كما تم تخليدها في الحضارات الإغريقية والرومانية. كل ذلك وأكثر بما تحتويه تجربتي الشخصية من علاقتي بالمرأة كان له الأثر الكبير في أخذ المرأة مكانة خاصة في كل لوحاتي.

الجديد: أيضا ملامح الرجل خاصة تكوينات وجهه تبدو حادة وواضحة في مواجهة وجه المرأة. هل ثمة علاقة بين ما يعتقد أنه رقة المرأة وخشونة الرجل؟

إبراهيم الطنبولي: الرجل هو النصف الآخر للمجتمع، والمجتمع لا يتكامل إلا بالرجل والمرأة معا، كل منهما مكمل للآخر ولا يستوي المجتمع إلا بالتكامل وليس التشابه بينهما، ولهذا اختلفت المسائل بين رقة المرأة وخشونة الرجل لاختلاف دور كل منهما، حيث أن دور المرأة يحتاج إلى رقتها مع زوجها وأبنائها، كما أن المجتمع يحتاج إلى خشونة الرجل في تحمل المصاعب والمشاق التي تعتمد على قوته، وهذا الاختلاف هو التكامل في طبيعة خلق الكون كاختلاف الليل والنهار والسماء والأرض والبحار والأنهار.

ألوان الوجود

الجديد: الطفل، السمكة، الطائر، الحيوان، كلها عناصر تتناولها لوحاتك، ماذا تعني لك تلك العناصر؟

إبراهيم الطنبولي: أكثر شيء مؤثر في حياتي هو الطفل باعتباره المستقبل. إن مستقبل الشعوب يحدده الاهتمام بالطفل ورعايته وتعليمه واكتسابه المهارات العقلية والجسدية والحسية وغيرها من المهارات اللازمة للمجتمع، والطفل أعبر به في لوحاتي دائما عن المستقبل وعن حاضر هذا الطفل الذي سيتكون منه المستقبل، لذا يظهر في بعض اللوحات لينبه المجتمع إلى وضعه، وفي بعض اللوحات يقصد به الابن أو الابنة أو الأحفاد، والبعض الآخر يعبر عن طفولتي.

السمكة من العناصر أيضا التي أستخدمها كثيرا في بعض اللوحات، وهي تعبر عن حضارتنا ومدى التمسك بها وتأثيرها في الكثير من الأحداث أو المشاعر تجاه ما يحدث حولنا، كما أن السمكة تعني في لوحات أخرى الرزق والبحر والخير.

تأثرت واستفدت من كل المدارس والاتجاهات الفنية والتاريخ الكبير للحركة التشكيلية في العالم كله من خلال دراسته وزيارة المعارض والمتاحف في مصر ومختلف دول العالم، ولكن أكثر ما أثر فيّ هو الحرية والجرأة

أما الطائر فإن علاقته مرتبطة بالسماء أو السمو بالروح والحرية والسفر. والطائر علّم الإنسان الكثير مثل دفن الموتى والطيران وأمور أخرى كثيرة. الطائر كان موضع تقديس عند المصري القديم وهو أيضا الإله “تحوت” أو “توت” إله الحكمة والفن والثقافة وكاتب الإلهام، وإله السعادة، وكان المصري القديم يدعو “يا تحوت أوهبنا السعادة” وقد ظهر الإله “تحوت” في الكثير من لوحاتي.

أيضا الطائر رمز السلام والمحبة، ويستخدم في لوحاتي للتعبير عن كل ذلك حيث كانت هناك فترة من حياتي كنت فيها دائم السفر، وفي تلك الفترة كنت أعبر عن نفسي بالطائر. الحيوان عكس الطائر يرتبط بالأرض والجسد، وبكل ما تحتويه الحياة الدنيا من خير وشر، ويظهر في الكثير من اللوحات بأحد هذه المضامين.

بحر الإسكندرية

الجديد: البحر، الصيادون، القوارب، المصطافون، الحياة السكندرية الهامشية. كل ذلك يتجلى في أعمالك. ما أبرز ما تأثرت به من مدينة الإسكندرية كمدينة ساحلية تطل على البحر وتزخر بالموروثات القديمة والشعبية؟

إبراهيم الطنبولي: الإسكندرية مولدي وطفولتي وشبابي، مدينتي التي أعشق كل ما تحتويه من مظاهر الحياة من بحر وصيادين وقوارب ومصطافين. أعشق أحياءها الشعبية والراقية ورائحة بحرها وتراثها العريق عبر التاريخ وثقافتها وفنانيها ومبانيها القديمة ومتاحفها، والحديث عن الإسكندرية وعشقي لها وتأثيرها في لوحاتي يحتاج إلى كتابة مجلدات. كل أعمالي تنتمي إليها لبحرها وسمائها وشواطئها وآثارها وأهلها ومقاهيها ومهنها، والبحر بشكل خاص يمثل عشقي وطفولتي وشبابي وحياتي كلها، لذا فإن حضوره وحضور الإسكندرية كمدينة صاخبة وجميلة أمر طبيعي في أعمالي.

بهجة الموسيقى

الجديد: الغرام بالموسيقى والغناء يتجلى في الكثير من لوحاتك. ما أبعاد وملامح علاقتك بالموسيقى والغناء؟ وكيف تجلّى تأثيرهما في لوحاتك؟

إبراهيم الطنبولي: الموسيقى والغناء لهما تأثير واضح على تشكل الوجدان المصري، وقد تعودت أن أرسم لوحاتي مع سماع الموسيقى والغناء، وغالبا ما يكون لهما تأثير واضح وكبير في اللوحة والألوان المستخدمة، ويظهر تأثير الموسيقى في التعبير بلغة الفن التشكيلي حتى تكاد تسمع تلك الموسيقى في الكثير من اللوحات، وكل مؤلف موسيقي ومطرب له إحساس خاص حيث ينعكس ذلك في اللوحات حالات من الحب أو البهجة أو الشجن أو الحماس الوطني وكل المشاعر الإنسانية التي يعبر عنها اللحن أو الأغنية أو التوزيع الموسيقي، ومن أحب المؤلفين العالميين إلى قلبي موتسارت وفاجنر ويوهان اشتروس، والملحن المصري بليغ حمدي الذي اعتبره موتسارت الشرق وكذلك عبدالوهاب والسنباطي والموجي وفريد الأطرش وغيرهم كثيرون، وفي الغناء كوكب الشرق أم كلثوم وعبدالحليم وفريد ووردة وفايزة وقنديل ورشدي وغيرهم كثيرون، فالموسيقى والغناء لهما تأثير كبير يتجلى في لوحاتي.

ملء الفراغ

الجديد: تبدو شخصيات منحوتاتك قريبة التشكيل من شخصيات لوحاتك. ما أبعاد علاقتك بالنحت؟ وكيف ترى العلاقة بين النحت والتصوير؟

إبراهيم الطنبولي: كل أنواع الفنون التشكيلية مرتبطة بالشكل وتختلف في الخامات المستخدمة للتعبير عن وجدان الفنان، لذا كلها تتفق في غالبية مفردات اللغة التشكيلية وتختلف فقط في طبيعة الخامة المستخدمة، ونجد في التراث الإنساني الكبير للفنانين التشكيليين عبر العصور جمعا بين أعمال النحت والتصوير والخزف والطباعة والعمارة، وتتشابه هذه الأعمال في التصوير والنحت والمجالات الأخرى بنفس الشخصية والأمثلة مثل مايكل انجلو وجاكومتي وبيكاسو وديجا وغيرهم، وهذا يؤكد شخصية الفنان وصدق تجربته، وهناك كثير من المصورين تفوقوا على أنفسهم في النحت والعكس أيضا صحيح.

إن أول جائزة حصلت عليها عن عمل نحتي، فالنحت عشق خاص، وهو رؤية كتلة مع فراغ، وهو مهم جدا لأي رسام، وهناك رسامون كثيرون أصبحوا من أعظم النحاتين، والنحاتون تجدهم مميزين في لوحاتهم، مميزين جدا. لا يمكن الفصل بين النحت والرسم، بل ليس هناك فصل بين أشكال التعبير الفنية التشكيلية، فأنا أهتم بالنحت والخزف والرسم والتصوير الفوتوغرافي، كل هذه وسائل تعبير بالشكل يمكنها أن تحمل رؤيتك وتشكل إضافة جديدة، بل ويمكنها العمل متجاورة في لوحة أو عمل نحتي أو.. إلخ.

محطات في رحلة

Thumbnail

الجديد: قطعت تجربتك التشكيلية مراحل مختلفة على مدار أكثر من أربعين عاما. هل لك أن تطلعنا على تلك المراحل أو الانتقالات الرئيسية فيها؟ وما هي المرحلة أو الانتقالة الأهم بالنسبة إليك؟

إبراهيم الطنبولي: هناك محطات رئيسية خلال تجربتي ولكنها متواصلة ومكملة لبعضها البعض في صقل هذه التجربة وتأكيدها، تبدأ من طفولتي وتأثير الأسرة الفنية وبينالي الإسكندرية الدولي وقصور الثقافة المصرية التي أنشأها وزير الثقافة في ذلك الوقت بدرالدين أبوغازي والتي كان لها دور كبير في تشجيع ورعاية المواهب الفنية ورعاية الثقافة في كل أنحاء مصر، وكذلك الاهتمام بمادة الرسم في المدارس مع تواجد مدرسين أكفاء في هذه المدارس الحكومية المجانية لكافة أفراد الشعب، بالإضافة إلى المراكز الثقافية الأجنبية المنتشرة في الإسكندرية، وكان المركز الثقافي السوفييتي من أهم هذه المراكز حيث كنت أجد هناك الألوان والخامات اللازمة للرسم مجانا والتي تعلمت بها الكثير وكان كل ذلك في فترة الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.

ثم مرحلة الدراسة الجامعية وحرب أكتوبر وبداية استخدام الألوان الزيتية في مراسم جامعة الإسكندرية، والتي كنت أقضي بها أغلب الوقت وتعلمت من خلال المشرفين هناك ومن خلال توفير الخامات المجانية والممارسة اليومية تقريبا استخدام الألوان الزيتية، كما تعلمت أيضا فن النحت وقد تحصلت كل الأعمال النحتية التي أنجزتها في كل هذه الفترة على جوائز الجامعة، وتحصلت أيضا على جائزة على مستوى جميع جامعات مصر، كما كان للألوان والفرش وسكاكين الرسم التي أهداها لي والدي بعد زيارته لفرنسا الأثر الكبير في استخدام السكين في الرسم بالألوان الزيتية التي منحتني الجرأة في استخدام الألوان الزيتية والتعرف أكثر على طبيعة هذه الخامة وتعلقي أكثر بالفن التشكيلي.

بعد ذلك تأتي مرحلة جاليري فكر وفن بمعهد جوته الألماني الذي كان له دور كبير في تجربتي حيث كان الاهتمام بهذا الجاليري على أعلى مستوى من حيث تخصيص مكان للفنانين الشباب لممارسة الرسم والتصوير وعرض الأعمال بمعرض سنوي ومنح الجوائز للمشاركين، وقد حصلت على جائزة الجاليري في التصوير في ذلك الوقت. كما أتاح لي الجاليري التعرف على معارض كبار الفنانين التشكيليين في مصر وألمانيا، وكان زاخرا بالأنشطة الثقافية في جميع المجالات من ندوات شعر وأدب وفكر وتاريخ الحضارة المصرية القديمة وكان يقوم بالشرح د. محمد عبدالفتاح عالم الآثار السكندري ومدير المتحف الإغريقي الروماني بالإسكندرية، وكان له الأثر الكبير في تعلقي بالحضارة المصرية القديمة وقد انعكست رموزها في أغلب لوحاتي وقتئذ.

لا أقصد أبدا تشويه المرأة في لوحاتي وإنما تلخيص أو تحطيم النسب الطبيعية للمرأة من أجل الوصول إلى الحالة التعبيرية في اللوحة

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة سفري للعمل في الأردن خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، وهناك كانت أغلب أعمالي بألوان التنبرا والألوان المائية مع استخدام الألوان اويل باستيل، وكان لهذه الخامات نتائج مبهرة وجديدة. وقد شاركت في هذه الفترة في الكثير من المعارض الجماعية التي كانت تقام ضمن فعاليات مهرجان جرش للفنون، ومن خلال هذا المهرجان تعرفت على الأميرة وجدان علي التي كانت مسؤولة عن المتحف الملكي الأردني، وقد أعجبت كثيرا بلوحاتي وطلبت مني إقامة معرض خاص في عمان، وحجزت لي قاعة عرض بجاليري بنك البتراء وكانت من أهم قاعات العرض في المملكة في ذلك الوقت، وكان لهذا المعرض صدى واسع بالمملكة وقام المتحف الملكي الأردني باقتناء عملين للمتحف.

وفي هذه الفترة رزقت بابنتي مي وابني عمرو، وكانت للحياة الأسرية من زوجتي وأطفالي تجليات كثيرة في لوحاتي، كما كانت لهذه الفترة تجليات كثيرة لرؤية مصر من الخارج والحنين إليها في الكثير من الأعمال، وبطبيعة الحال التأثر بالبيئة الأردنية وطبيعتها الخلابة بما تحتويه من جبال ووديان، وتراث وطني للشعب الأردني سواء كان من أصول أردنية أو فلسطينية، وتجلت كل هذه البيئة بما فيها من زخم ثقافي في  لوحاتي خلال هذه المحطة.

تأتي بعد ذلك محطة العودة إلى مصر نهاية الثمانينات وبداية التسعينات ثم سفري إلى ألمانيا لأول مرة بمنحة من معهد جوته الألماني بالإسكندرية، وكانت هذه المنحة بمدينة مورناو جنوب ألمانيا حيث تم اختيار هذه المدينة من قبل مدير معهد جوته الدكتور شميت بما لديه من معرفة بالفنانين التشكيليين والجاليريهات هناك، وكانت هناك المحطة الهامة والمفاجأة حيث وجدت احتفاء وتقديرا كبيرين لما أقدمه من لوحات، وهو ما لم يكن متوقعا بالنسبة إلي، مما رسخ ثقتي بما أقدمه في لوحاتي من تجربة صادقة وفريدة، حيث تمت إقامة ثلاثة معارض منفردة لي في ثلاث مدن ألمانية مختلفة لقيت نجاحا كبيرا، وطلب مني الإقامة الدائمة في ألمانيا، حيث توقع لي أن أكون من أشهر فناني أوروبا في المستقبل القريب، واحتفظ أحد الفنانين التشكيليين الألمان بلوحاتي وعرضها في معرض مشترك معه في مدن ألمانية مختلفة.

أكدت لي هذه المحطة ثقتي في تجربتي وأنه يمكن تطويرها لتشكل إضافة ولو بسيطة للحركة التشكيلية، وكانت دافعا قويا للاستمرار والمزيد من التجريب واكتساب الخبرات. لذا كان قراري التفرغ التام لممارسة الفن التشكيلي بعد أن تعاقدت مع جاليري “آرت سمارت” بالقاهرة والذي كان له دور كبير في تسويق لوحاتي داخل مصر، وانتشارها وتقديمها من خلال الموقع الإلكتروني للجاليري ومعارض جماعية بالفنادق الكبرى في القاهرة والملتقيات الهامة داخل القاهرة، وكذلك إقامة معارض منفردة لأعمالي في الجاليري الخاص بـ”آرت سمارت” بعد النجاح الكبير الذي تحقق في تسويق اللوحات في الفترة السابقة لإنشاء الجاليري الحالي.

وضع مؤقت!

Thumbnail

الجديد: كيف ترى المشهد التشكيلي في مصر الآن؟ وما أبرز ملامحه خاصة في الإسكندرية؟

إبراهيم الطنبولي: للأسف الشديد نتيجة ما تمر به المنطقة العربية وخاصة مصر من ظهور الإرهاب، والحالة الاقتصادية، وما تتحمله الدولة من أعباء، كل ذلك كان له الأثر السلبي في الاهتمام بالثقافة والفنون، وتم إيقاف الكثير من الفعاليات الثقافية الهامة في مجال الفن التشكيلي، مثل إلغاء بينالي الإسكندرية الدولي الذي كان ثاني أهم بينالي في العالم بعد بينالي فينسيا، وكذلك بينالي القاهرة، وبينالي الجرافيك والخزف. وأيضا البطء الشديد أو شبه التوقف عن ترميم وإعادة افتتاح المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية، وعدم إضافة أي متاحف جديدة أو استكمال متحف الموزاييك بالإسكندرية. ومع ذلك هناك دائما آفاق جديدة تجدد الأمل في المستقبل الثقافي لمصر، حيث أن مصر تملك مواهب فنية كثيرة وفنانين موهوبين في كل مجالات الفن التشكيلي، ويمثلون مصر في الخارج بمجهوداتهم الذاتية أفضل تمثيل، ويحصدون الجوائز الدولية لبراعتهم. كما يقوم الفنانون، دون دعم من وزارة الثقافة، بتنظيم الملتقيات والبيناليات الدولية والمحلية وإقامة ورش العمل المحلية والدولية.

يعاني الفنان التشكيلي من ارتفاع أسعار الخامات والمستلزمات الضرورية للأعمال الفنية وعدم توفرها كما كانت من قبل، وكذلك يعاني من عدم توفر الأماكن المخصصة للفنانين لممارسة الفن، ومن إغلاق عدد كبير من قصور الثقافة التي كانت منتشرة في أحياء ومدن المحافظات المختلفة. إنني أعتقد وأتمنى أن يكون ما يحدث من معاناة في الوقت الراهن وضعا مؤقتا سيتغير في المستقبل القريب.

غياب الناقد الفني

الجديد: هل ترى أن هناك حركة نقدية جادة وأمينة تتابع الحراك التشكيلي في مصر؟

إبراهيم الطنبولي: الحركة النقدية في مصر تفتقد إلى الكثير من مقوّماتها الأساسية خاصة التواصل مع الضلعين الآخرين للمثلث اللوحة والمتلقي، وقوة تأثيرها وتفاعلها، لذا فإن الناقد في مصر ليس له قاعدة جماهيرية بسبب عدم تواجد آلية إعلامية للتواصل مع المتلقي. الحركة التشكيلية في مصر خارج دائرة الاهتمام الإعلامي، فالإعلام ليس لديه الكوادر المؤهلة والمثقفة في مجال الفن التشكيلي وخاصة في الإعلام المرئي، أما الإعلام المقروء مثل الصحف والمجلات والكتب فأعتقد أنه يعاني من مشاكل كثيرة تؤثر على استمراره وخاصة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وبعد الجماهير عن متابعته. ومن ناحية أخرى فإن مؤسسات الطباعة والنشر الخاصة بالكتب المتخصصة في مجال الفن التشكيلي تحجم عن طباعتها ونشرها، وذلك لارتفاع تكلفة طباعتها ومن ثم ارتفاع أسعار بيعها وانخفاض الطلب عليها في ظل ارتفاع أسعارها وبالتالي هي غير مجدية اقتصاديا، كما أن المؤسسات والشركات الخاصة ورجال الأعمال لا يقبلون على دعم هذه الكتب لانخفاض جماهيرية الفن التشكيلي ويقومون فقط بدعم الأنشطة الأكثر جماهيرية. بسبب هذا وأسباب أخرى كثيرة لا أريد التوسع في إيضاحها فإن ضلع الحركة النقدية في مصر يغيب تماما عن التواجد، ويؤثر ذلك كثيرا على الحركة التشكيلية في مصر والتواصل مع المتلقي من خلال دور النقد.

أجري الحوار في القاهرة

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.