إحكام الكلام
يتوقع أن تسقط الثريا العملاقة في أي لحظة. لا مبرر لذلك وهو يعرف، لكن هدوء المكان وأناقته دعَّما هذه الفكرة التي ينتظر أن تحدث. لا يشغل باله بالكيفية التي سيحدث بها ذلك ولا بأثره على القائمة زمن انتشر فيها من علية القوم. ولا عجب أن يصدر مثل ذلك الخاطر من رجل يتساءل أيضا عن سبب وجوده هو شخصيا بينهم وفي هذا المكان الآن، أو في أي مكان آخر أو في أي وقت آخر. هذا الرجل هو أنا.
والمكان هو قاعة مؤتمرات فاخرة في فندق كونراد على كورنيش النيل بالقاهرة. دعيت لمؤتمر شركة جالاكسو ويلكم للأدوية. كل شيء نظيف ومرتب وفي موضعه. والمحاضر طبيب مرموق شديد النباهة والحضور يتكلم كثيرا وبحماس عن الفيتامينات ومضادات الأكسدة. فقدت اهتمامي بعد دقائق كالعادة. أخرجت قلمي وبدأت أكتب هذا الكلام الذي تقرأه الآن على ظهر الورقة المطبوع عليها جدول المؤتمر. والذي خطر في بالي في بداية المحاضرة هو الذي قلته لك في بداية الكلام. أن تسقط النجفة الكريستالية الضخمة فوقنا جميعا! وكما قرأت لا أعرف لماذا ولا حاولت. وفكرت أنني لو كتبت هذا الآن ستجرني الكتابة للفهم متوقعا أنني لو لم أفهم فسوف تكون بداية لقصة. قصص كثيرة بدأت بمواقف غريبة ولو كانت مجرد خاطرة. أما الذي استقر في وجداني عندما بدأ القلم يجري على الصفحة غير المسطورة هو الكلام عن النفري، الصوتي البغدادي. لماذا؟ لا أعرف ولا حاولت. ولماذا نشغل أنفسنا بالبحث عن الدوافع التي تهاجمنا فجأة. لعلها شديدة الأهمية إن استجبنا لها، وبمحاولة التحليل والتعليل أضعنا الوقت الذي كان يجب أن نستغله في الاندفاع نحو الخاطر للآخر.
في سفر حزقيال جاءت هذه الآية “يا ابن آدم، أنت ساكن في وسط بيت متمرد، الذين لهم أعين لينظروا ولا ينظرون. لهم آذان ليسمعوا ولا يسمعون، لأنهم ببيت متمرد”. والمعنى قد يكون أننا على غير وعي بما يحيط بنا أو ما يحيط بنا على غير وعي بنا. ربما لهذا اخترعنا العملية الإبداعية والفن، هوينا الكتابة وخلق عالم آخر، وهمي أو هو عالم الأفكار الحقيقي. يقول توفيق الحكيم في مقدمة كتابه فن الأدب إن الأدب هو الكاشف الحافظ للقيم الثابتة في الإنسان والأمة، الحامل الناقل لمفاتيح الوعي في شخصية الأمة والإنسان، تلك الشخصية التي تتصل فيها حلقات الماضي والحاضر والمستقبل، والفن هو المطية الحية القوية التي تحمل الأدب خلال الزمان والمكان، بغير فن رسول بغير جواد في رحلة الخلود، والفن بغير أدب مطية سائبة بغير حمل ولا هدف، ولقد كان الهم دائما محاولة الجمع بين الرسول وجواده، فالفن دائما مع الأدب والأدب دائما مع الفن.
لهذا سمى كتابه فن الأدب وقسّمه إلى عدة أبواب بدأها بباب أسماه الأدب ويداه معتبرا الخلق الذي ينتج ويبتكر، ويسراه النقد الذي ينظم ويفسر، ولا يعتبر الخلق أن تخرج من العدم وجودا، إنما الخلق في الفن والأدب، وأي شيء آخر- هو أن تنفخ من روحك في مادة موجودة فعلا كما فعل أعظم الخالقين عندما مد يده إلى الطين، المادة الموجودة قبل آدم، فقال لها (كن) فكان أول البشر. فلا شيء يخرج من لا شيء، وكل شيء يخرج من كل شيء، هذه هي القاعدة الأولى للخلق، والابتكار ليس البحث عن موضوع لم يتطرق إليه غيرك، فلا يوجد شيء كهذا، ولا أن تعثر على فكرة لم تخطر ببال سواك، بل تناول الفكرة المألوفة للناس بأسلوبك فتجعلها مبهرة للعين ومدهشة للعقل، أو أن تعالج الموضوع الذي كاد يبدو مهترئا من البحث بين أصابع السابقين؛ فإذا هو يضيء بين يديك بروح منك!
إن أغلب موضوعات الأدب وآيات الفن منقولة عن السابقين، الكثير من موضوعات شكسبير منقولة من بوكاتشيو، وبعض موليير عن سكارون، ولوب دي فوجا، وجوته في فاوست عن مارلو، ومآسي راسين عن مآسي ايروبيدس وايروبيد وسوفوكليس وإشيل عن هوميروس، وموضوعات الشعر تنتقل من شاعر إلى آخر وتلبس في كل زمان حلة جديدة وصياغة مختلفة، والفن ليس في الهيكل وإنما في الثوب الذي يلبسه الفنان للهيكل القديم، الكسوة المتجددة لكعبة لا تتغير. إن شخصية أندروماك جاءت في الكثير من المذاهب والأذهان عن راسين أعظم بكثير من روكامبول في رواية “بونسون دي تيراي” المفتعلة التي اخترعها من رأسه اختراعاً ونسج أحداثها من مخيلته. لقد قال شيسترتون مقدما أحد كتب ويكنز، إنه ما من علامة أفصح في الدلالة على انعدام الابتكار عند بعض الشعراء، من نزوعهم إلى البحث عن الموضوعات الغريبة. إن أرفع مراتب الابتكار قد تعني شاعر يتغنى في (الربيع)، فغناؤه يقطر دائما جدة ونضارة، شأنه شأن الربيع ذاته، ذلك الجديد النضر دائما، مهما تتعاقب عليه القرون والحقب.
وقال كونديرا في تصوره لمشروعه الروائي: لقد انتهى البحث عن الأنا دوما وسينتهي دوما إلى عدم إشباع غريب ولا أقول إلى فشل. لأن الرواية لا تستطيع اختراق حدود أو مكانتها الخاصة بها. كما أن إضاءة هذه الحدود تعتبر أصلا اكتشافا كبيرا واستثمارا إدراكيا هائلا سوى أن كبار الروائيين، بعد أن وضعوا القناع الذي يقتضيه سير الحياة الداخلية للأنا بالتفصيل بدأوا البحث بوعي أو بغير وعي، عن توجه جديد، وإذا كنت أخدع نفسي في ما رواه في الرواية السيكولوجية فلا يعني هذا أنني أريد حرمان شخصياتي من الحياة الداخلية. لقد حكى نجيب محفوظ كيف أن الرواية تختلف تماما عن المسرح حيث يستطيع الجمهور أن يصحح لك الأخطاء، وعن السيناريو في السينما حيث يقترح المخرج بداية مختلفة. في الرواية أنت مع فقط، في روايتي يختفي جمهوري بالكامل ولأكبر درجة ممكنة، ولا أعتمد إلا على الشيء الوحيد الذي أثق به وهو إحساسي ليس في غيره.
والحياة هي ملهم الكاتب مع الواقع، يتفاعل مع الناس والبيئة والثقافة في سبعة أجزاء. وضع ميلان كونديرا كتابه (كتاب الضحك والنسيان) تكلم فيه عن علاقة الإنسان بنفسه فقط، وعلاقته بالآخرين عن طريق ذاته، ورأى أن جميع الروايات تعكف في كل زمان على لغز (الأنا) إذ ما أن تبتكر كائنا خياليا، شخصية قصصية، حتى تواجه بشكل أوتوماتيكي السؤال التالي: ما هي الأنا؟ وبم يمكن إدراك الأنا؟ إنه مبدأ أشد المعجبين بدستوفسكي فيقول عنه إنه يبدع في شخصياته عوالم عقلية غنية، وأصلية بشكل خارق، يحلو لنا أن يبحث في شخصياته من أفكاره.
كما أن قصص بوكاشيو المسلية تؤدي إلى قناعة واحدة هي أن الإنسان يخرج من رحم الحياة اليومية المتكرر الذي تتشابه فيه الأشياء جميعها بواسطة الفعل وبالفعل إنما يتميز الإنسان عن الآخرين ويصيرون فردا، فكما قال دانتي الليجيري: يقوم القصد الأول للفاعل في كل فعل يمارسه على كشف صورته الخاصة به، ففي قصة ‘ديدرو’ يغوى البطل خطيبته صديقه ويدوخ من النشوة، وبسبب ذلك يضربه أبوه، فتمر كتيبة جنود، يلتحق بها السائدة ثم يكون رؤيته وشخصيته المتفردة، وعندما يكتب المؤلف يأخذ هذه العناصر ويعيد تكوينها لتعطي المعنى المراد، معنى ما، أي معنى، إنه ليس آلة تصوير فوتوغرافي ولا ماكينة نسخ أوراق. ذهب فلان وجاء علان وحدث كيت وكيت والدكان صاحبه كذا..
هذا محل علم ودراسة وبحث اجتماعي أما كتابة الرواية فالأمر فيها يختلف تماما الكاتب لا يدخل بيت الفسق ليتبرك بوصف النسوة العاريات ولا يقدم تقريرا لبوليس الآداب، لكنه ينقل إليك شعورا مفهوما بالرثاء أو بالضياع أو بالتقزز أو الحميمية، إنه لا يدخل ليشير إلى الرجل أو المرأة أو الكأس، بل ليعينك على التعبير عن شيء بداخلك. عندما يرتعش بدنك من هول المشهد الجديد أو تسمع كلاما ترفض منطقه، فهو يثير فيك شحنة مطلوب التعبير عنها. لقد قرأ الجميع حكاية سفاح الإسكندرية محمود أمين سليمان، لكن لا أحد يذكره الآن ولا يعرف من هو، مجرد مجرم آخر.
أما نجيب محفوظ فقد جن به فكتب اللص والكلاب، لكن ليس سعيد مهران في الرواية هو نفسه سفاح الإسكندرية وإنما ترجمة فنية له من وجهة نظر مؤلف معين. كان من الجائز أن يأخذ كاتب آخر حكاية محمود أمين سليمان ويحولها إلى قضية محكمة أو لغز بوليسي أو رواية مغامرات ممتعة، لكن بالنسبة لنجيب محفوظ، اجتازها لسبب آخر. ليعبر عن ذاته. الفرق بين اللص والكلاب وحكاية سفاح الإسكندرية التي قرأها في الصحف هو الفرق بين الفن والواقع. الأصل الواقعي موجود، وهو الأساس الذي يثير الكوامن، ولكن مهما بدا من وجود الأصل ودقته، ومهما بدا من اعتماد الكاتب على الواقع، فروايته عمل ذاتي، يعتمد على المؤلف وهذا هو أصل كل عمل أدبي أو فني.
والكاتب يستطيع أن يخلق بداخلك استجابة تفسيرية ترى بها المشهد كأنه سينمائي، بل ومعه ماضي الشخصيات وأفكارها. تأمل هذه الفقرة الكاشفة لهوية أبطال الرواية المغمورة (باب المحيط) للكاتب صلاح عبداللطيف: (أكان نوري ناجي الذي لا يشبه مجيد في أي شيء، هو أحد أبطال الروايات التي قرأها مجيد، وتعاطف معها لأنها وضعت الحياة في المكان الأول قبل التفكير. أهو ذلك السبب أم أن مجيد قد ضاق ذرعا بكل من يمثل له الماضي بأنامله القاسية التي تحاول أن تطبق على رقبته بين فترة وأخرى. كل ما في الأمر أن نوري من الصعب أن يصمد أمام نكتة أكثر الناس عبوسا، كان يدحرج النكات الواحدة بعد الأخرى، مثلما يدحرج دنانيره على طاولات القمار كل ليلة. وسيان ربح أم خسر، فقد عجز مجيد أن يراه مرة حانقا أو حزينا. كان نوري يرخي على وجهة التهريجي ضحكة تكاد تخنقه لعمقها في حنجرته، مكرراً وهو يشير إلى الدنانير: من أخذ معه هذه الأوراق إلى القبر؟”. وهكذا تنكمش الفروق الصغيرة بين بطل من ورق ورجل من لحم ودم وتصبح الشخصية قريبة منك، تسمع أنفاسها وتشعر بدقات قلبها وتتعاطف مع خواطرها الداخلية وتعترض أو تتفق مع سلوكياتها.
أتى الإلهام نيتشه في نزهة عند بحيرة سويسرية، فكتب ما وصفه بأنه (من مسافة بعيدة يعتبر الأكثر جدية والأكثر مرحا مما أبدعت، ثم إنه في متناول الجميع). وهي خطوة جريئة في كتاب صغير صفحاته لا تتجاوز المئة صفحة واسمه (هكذا تكلم زرادشت) اعتبره كتاب القراءة للجميع. كتاب الكل واللاأحد. أو هو الإنجيل الخامس أو شيء آخر لا يوحد له اسم بعد. يستكمل فيه كل نشيد من إنشاد زرادشت الفارسي الأسطوري الذي ألف (الغاثا) وعاش ومات قبل يسوع المسيح. إنما فلسفة شعرية أو قصيدة فلسفية طويلة يقلب في الكتاب كل قيمة وينتظر من زرادشت الاعتراف بخطأ ابتكاره للأخلاق. لم يكن نيتشه يعرف أن زرادشت معناها (حادي الإبل) بالرغم من أنه يعرف أن العقل كان في بادئ الأمر جملا، وهو حيوان قوي صبور جميل ينتصب في الصحراء رمزا للعقل الديني التقليدي. هذا هو التحول الأول للعقل: الجمال والرسوخ. التحول الثاني: يصير العقل أسدا، يبتلع حرية الآخر ويتوحش فيفرض إرادته على كل من كان.
إن تفكيك مركزية الكيان الأيديولوجي لفظا، والذي يجد تعبيره في نص روائي مثلا، يفترض وجود فئة أجناس اجتماعية مختلفة الطباع، وأنماط تعبيرية تشترك في ما بينها بعلاقة توتر وتبادل حي مع فئات وأنماط أخرى. فإذا افترضنا أن المجتمع مُغلق على نفسه، أو كانت هناك شريحة معينة، مهما بلغت من مرونة في الاستيعاب، ومهما كانت ليونتها وعصارة أفكارها مستساغة؛ لها نواتها الداخلية الوحيدة والصلبة كما في قلب ثمرة خوخ ناضجة، فإن عليها أن تتفكك وأن تودع توازنها الداخلي، أن تتخلى عن اكتفائها الذاتي، لتصبح بيئة ومصدرا اجتماعيا خصبا لصالح العمل الفني أو النص.
لقنت الأسلبات للنثر التشخيص الأدبي للغات من خلال التهجين القصدي الموجه نحو النص بشكل خاص والفن عموما كإحدى الطرائق الأساسية لبناء صورة اللغة وتشكيل تيارها من نبع شكلاني وحتى مصب تعبيري، ويجب أن ندقق بأنه في حالة التهجين فإن اللغة تترصع بها الأنساق اللسانية في دقائقها وفي مجملها، وقلما طبقت طريقة التهجين؛ وهو مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد بالإضافة إلى التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية، وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ميدان هذا الملفوظ، وهو ما يعتبر فنا أدبيا واقتصاديا، أو بالأحرى، نسق من طرائف أدبية، لكن التهجين الأيديولوجي اللاواعي، واللاإرادي، هو صيغة هامة للوجود التاريخي، ولصيرورة اللغات، بل تلاحظ أيضا إضافة مجموعة من الوحدات السردية للإشارات اللغوية تدور في النص وتأكد أنها من بؤرة لها أدواتها التعبيرية الفارقة باختيارها ومعانيها وانعكاسها في مرايا دائرية تجعل القارئ أو المتلقي يشعر باحتدامها-وإن خفتت- مفسرا رسالتها، وهي تهبط به إلى قاع المراد أو تتصاعد معه بمحمولاتها باتساع الدوائر الأكبر لوحدات السرد فيلتقي الموقف في حاضر زاويته الرؤية وماضي بؤرة الوعي.