إشراقاتٌ من سِفْرِ الصداقة
أذكر جيدا لحظة تقديم الأستاذ حسن بحراوي لكتابه الأول “بنية الشكل الروائي” في تطوان سنة 1991، كنت في سنتي النهائية للتخرج من كلية الآداب، منهمكا في قراءة كل ما يصدر من روايات ونقد روائي وأبحاث جديدة في حقل السرديات، بالموازاة مع إعدادي لبحث التخرج عن كتاب إريك أويرباخ “محاكاة: تمثيل الواقع في الأدب الغربي”، مثلت لحظة التقديم مناسبة ثانية للقائي بالكاتب بعد لحظة عابرة تعود لبداية الثمانينات في بيت أختي وزوجها السابق في الرباط، تحدثنا قليلا عن البحث وإريك أويرباخ ومآله الغريب، وعن كتاب “بنية الشكل الروائي”، وحين قدمت له نسختي للتوقيع سطر الجملة التالية “إلى الأستاذ الناقد شرف الدين ماجدولين مع مودتي وتقديري”؛ فاجأتني العبارة، فهو أول إهداء لي بصفة كنت لا أزعمها، يبدو أنه كان يتوسم سجايا وصفات في شخصي، تقت إليها، مع أني كنت أدرك جيدا حينئذ أن تحققها محفوف بالمصاعب؛ لم يكن النشر متيسرا ولا متاحا، لا في شكل كتب ولا حتى مقالات، كنا نبعث بالمقال النقدي عبر البريد إلى محرر العلم الثقافي أو الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد الاشتراكي، وننتظر لأسابيع أن يظهر، وقد يطويه النسيان.
بدت الحجب عديدة ومتراصفة ولا يكفي لتخطيها الموهبة أو القيمة، الانحياز لعقيدة وحساسية وأشخاص بدت شرطا لازما، في النهاية كنت متصالحا مع انحيازات لم أبدل فيها تبديلا، وربما وجودي في يفاعة محظوظة ضمن دائرة أسماء قريبة، ممتدة من سعيد يقطين إلى عبدالحميد عقار ومحمد الأشعري وحسن بحراوي ومحمد برادة وآخرين هو ما جعل الوجود في مدار انتماء لافظ للكتاب الجدد يمضي دون محن.
كان حسن بحراوي، ناتئا في هذه الدائرة الضيقة والقاعدية بقدرته على حجب المسافات، ونبوغه في إلهام مستمعيه بإمكانية الوجود في المعابر دوما: المعبر بين الأدب واليومي، بين الفصاحة والرطانات الدارجة، بين الرواية والحكي الشعبي، بين المفردات والصور، وبين وقار المعرفة وبساطة الحكمة الفطرية، لهذا كانت دلالات “الجسور” أول درس يمكن تعلمه من اللقاء معه، فليس مهمّا أن تكون مختصا عارفا ولكن الأساس أن تمتلك القدرة على بناء المعابر بين المعارف، وحين أترجم هذا المعنى إلى لغة التعيين، قد يكون حسن بحراوي من بين المؤسسين الأوائل للدراسات “البينية” داخل الجامعة المغربية، وفي المشهد النقدي المغربي، بصرف النظر عن مداخل النظر المفهومي لهذا الاختصاص الطارئ.
هي إذن بنية مجردة لمعنى المقارنة حين نزيح عنها المضامين، لكن مفردة “الشكل” تضحى أساسية أيضا في المدار الإنساني والمعرفي لهذا الناقد الذي أضحى روائيا وشاعرا وكاتبا متعدد المواهب، وعندما سألقي أول درس جامعي لي بعد سنوات من الكتابة النقدية في الصحافة، كان رهاني الأول هو كيف أحوّل شكل المحاضرة إلى لحظة لا تخلو من تشويق، تشد المستمع وتفيده وتلقنه المعارف في قالب لا يخلو من سردية أخاذة، على النحو الذي نجح فيه كاتبنا بشكل فريد، إذ كان في كل محاضراته يقول التاريخ والتحليل والتأويل والمعارف عبر منظومة حكايات تؤول إلى توليفة بنائية مشوقة، وشكل لا يترك للمستمع والمشاهد فرصة تغيير الرأي، والانصراف.
وربما من يعيد اليوم قراءة مؤلفات حسن بحراوي من “بنية الشكل الروائي” إلى “المسرح المغربي: بحث في الأصول السوسيوثقافية” إلى “فن العيطة في المغرب”، إلى “عبدالصمد الكنفاوي: سيرة إنسان ومسار فنان” إلى “حلقة رواة طنجة” إلى “أبراج بابل” إلى “مأوى الغريب” إلى “مدارات المستحيل”… وغيرها من المؤلفات النقدية، سيكتشف أن الراوي كان دوما هو القاعدة. هل هو مجرد تخلص من عبء حكايات تثقل الكاهل؟ محتمل، وربما هو أيضا سعي إلى ترجمة الأفكار والمواقف والمعارف والأقوال إلى استرسال خبري. لقد مثل حالة نقدية فريدة، شديدة الجاذبية والإمتاع في القول الذي يتطلع المستمع إليه أو قارئه إلى ما بعده من حلقات وأنوية إشكالية، ولهذا حين كتبت أطروحتي عن ألف ليلة وليلة عدت لعدد غير يسير من كتاباته الشارحة والمؤولة للاختيار الشكلي.
ثم كانت الرواية، التي لا تحكي فقط تاريخا عن تشكلها في ذاكرة لا تتجاوز القرن ونصف القرن في السياق العربي، وإنما أيضا رصيد مجتمع ثقافي وصلات إنسانية متحققة أو متخيلة، كان حسن بحراوي يختصر المسار من نجيب محفوظ إلى نبيل سليمان إلى واسيني الأعرج إلى هاني الراهب إلى خناثة بنونة ومحمد عزيز الحبابي إلى عبدالكريم غلاب والميلودي شغموم ومحمد الأشعري في مسار يتجاوز النصوص، إلى مابينها، ومابعدها، وما يتخللها من صداقات شخصية جمعته بأصحابها أو بتفاصيل متونهم، وعندما قدم مقتربه النقدي في كتاب “بنية الشكل الروائي” كانت هوامش الكتاب تكاد تتجاوزه، في رسم معالم سردية مضافة.
بيد أن انعطافة كبرى ستتحقق مع كتابه “حلقة رواة طنجة” في رسم مدارات تولّهه بالمرويات وأشكال الحكي، يستنطق تجارب حريفة تغري بمد الجسور بين الرطانات والمعارف والانحيازات الاجتماعية، ولقد خصصت فصلا من كتابي “ترويض الحكاية” لهذا العمل الذي مثل لي استرسالا في إعادة إنتاج المحكيات الكلاسيكية بمنطق معاصر يحاور أسئلة ما بعد الاستعمار والرواية العربية والأدب الشعبي ويتمثل الملفوظات الدارجة قبل أن يكون لدينا ما سمي بسرديات الوسائط الاجتماعية. ولهذا حين انعقدت ندوة اتحاد كتاب المغرب عن “الأدب والهامشي”، كان دوره ملحوظا في رسم ملامحها واختيار مباحثها. شاركتُ في الندوة بدراسة عن “الهامشى والآخر والسرد الهزلي” وكان حسن بحراوي مستمعا لكل العروض، بل مناقشا لها ولمرجعياتها، بمنطق الناقد والباحث المتطلع إلى مراكمة المعارف الرافدة للحكاية المتأصلة بداخله.
وفي سنة 2008 في دورة من عيد الكتاب بتطوان، طلبت من صاحبنا أن يقدم كتابي “الصورة السردية في الرواية والقصة والسينما” لم يتردد في أخذ الأمر كالتزام نقدي وإنساني، إذ ليس مهما صيغة التلخيص والتحليل والتعقيب بصدد كتاب نقدي، الأهم هو الاسترسال عبره في قول ما يتوق إلى أن يكتبه الكاتب وما ينتظر منه، وأيضا ما يسعده كباحث وناقد من عمل كتبه صديق، غمرني في تقديمه بصفات ومزاعم طوقتني، ولا زلت أرى أن ما قد يطوقك به ناقد صديق في بدايتك من ثقة، هو الدعامة الأساسية لاستئناف الإنجاز.
ستنتظم لقاءاتنا عبر شتى مدن المغرب في ندوات ولقاءات تكريمية وقراءات في إصدارات جديدة، وكانت رحلة وحيدة جمعتنا خارج المغرب، مع كل من الصديقين سعيد يقطين وسعيد بنكراد إلى كردستان العراق، في هذه الرحلة تجلت موهبة الكاتب المولع بالهوامش سواء في اختياره الحديث عن الثقافة الأمازيغية وأشكال إبداعها في الندوة الرسمية، أو في جمعه لعدد كبير من منشورات الكتّاب الكرد، وخوضه في حوارات مع من أنس إليه منهم، وفي سعيه لفهم عدد كبير من التفاصيل المتعلقة باللغة والعمارة والتشكيل والأزياء والطعام، كان حسن بحراوي في حاجة إلى شراء أشياء صغيرة على وجه الاستعجال؛ “مقص”، و”لصاق سائل”، و”قفل” من النوع الخاص بالحقائب. وكم سأل صاحبنا من باعة قبل أن يعثر على أغراضه، كنا نكتشف مدينة السليمانية عبر “القفل” و”اللصاق” و”المقص”،… قبل أن نذهب لزيارة ضريح الشاعر الكردي “شيركوبيكس”.
تباعدت بيننا السبل بعد عودتنا من الرحلة، وانخرط كل منا في همومه وانشغالاته لكن خيطا سريا رفيعا من الصداقة الأصيلة كَمنَ دوما في العمق هو الذي يجعل كل مكالمة تجري بيننا كأنها تستأنف حديثا لم ينقطع يوما.