إشراقات الوعي النسوي العربي
من أهم عوامل انبثاق الوعي النسوي هو تفكير الذات في حالها والمجتمع من حولها ثم تفاعل هذه الذات بإرادة وتصميم مع قضايا مجتمعها بقصد تغيير بعض أسسه وإرساء أسس جديدة أو تطوير القديم منها. ومثل هذا التفكير الذي نتيجته الوعي يحتاج إلى دينامية عقلية كي يتمكن من تحول الفكر النظري إلى واقع عملي. وليست هذه الدينامية العقلية طاقة جسدية لتكون رهن الرجل بل هي طاقة كامنة وذاتية يمكن لأيّ إنسان أن يمتلكها رجلاً كان أو امرأةً شريطة أن يكون ممتلكاً قدرا ما من حافز يمكنه من إدراك واقعه وفهم نفسه وغيره واستيعاب ما حوله.
الغالب على المجتمعات البشرية أنها ذكورية يهيمن فيها الرجل بشكل أحادي. وأشكال الهيمنة متعددة، منها الهيمنة الفكرية التي فيها يتحدّد فعل التفكير في الرجل بينما يهمّش أيّ فكر للمرأة. وإذا حصل وكان للمرأة تفكيرها الواعي؛ فإن ذلك يقتضي منها اعتمالا ذهنيا ذا مجهود بنائي هو أضعاف ما لدى الرجل من مجهود في تشكيل تفكيره والوعي به، ليس لأن قدرتها العقلية أقل منه أهلية أو استطاعة؛ وإنما هو التكميم والمنع اللذان يحتاجان منها إلى مزيد من الدينامية العقلية كي تتمكن من نفض التهميش عن فكرها. وبعبارة أوجز أن لا مجال لإثبات فكرها نظريا ثم تحويله إلى واقع عملي إلا بكثير من المقارعة والبذل تأثيرا ومناورة وتباريا.
والوعي ركيزة الفكر وعماده وهو الأداة التي بها يتمظهر العقل متحررا من التنويم والتقييد والتثبيط والتحجر والاستعباد والتبعية. ولا فكر من دون وعي كما أن لا وعي بلا فكر. والفكر على أشكال متعددة، منها الفكر العلمي والفكر الجمالي والفكر الأخلاقي والفكر الأيديولوجي والفكر الثوري والفكر الواقعي.. الخ. وجميعها يغلب عليها الطابع الذكوري وتتراءى فيها صورة الرجل مفكرا حتى وإن كانت المرأة هي المفكرة، باستثناء الفكر النسوي الذي يغلب عليه الطابع الأنثوي وفيه تكون صورة المرأة هي المفكرة وإن كان الرجل هو الفاعل المفكر فيه.
ومهما يكن من تنوع الفكر والوعي به؛ فإنه يظل في العموم واحدا بوصفه الفاعلية الذهنية التي ينجزها العقل والحالة الفيزيولوجية النفسية التي تنطوي على قصدية ذاتية ومنهجية تلقائية تتيح للمتحلي بها رجلا كان أو امرأة أن يكون موصوفا بأنه مفكر وأنها مفكرة. فإذا خصصنا الفكر بالوعي النسوي فمعنى ذلك أننا نغلِّب عنصرا ليست له الغلبة ونمركزه على حساب عنصر ينبغي أن تكون له الأولوية وأعني به الرجل. وعلى الرغم من أن التكافؤ العقلي بين المرأة والرجل في عمليتي التفكير والوعي تؤكدها الدراسات الفسيولوجية؛ فإن جدلية المركز/الهامش تظل هي الفاعلة وما يثقلها من تأثيرات نفسية مستحكمة. ويترتب على ذلك أن يتكبد الفكر النسوي مشقة الحضور بموازاة الفكر الذكوري أوّلا ثم توكيد حقيقة وعي المرأة بفكرها أمام الرجل آخرا.
وإذا كان متاحا لنا أن نفترض أن في اللوغوس الغربي فكرا نسويا ووعيا بهذا الفكر أيضا فهل يمكننا أن نفترض أن في المنظومة الفحولية العربية فكرا نسويا نستدل عليه بوعي نسوي أيضا؟ وما بواكير هذا الفكر ومحطاته؟ وكيف كانت بوادر هذا الوعي بالفكر النسوي أهي جندرية خالصة أم هي قومية أم إنسانية؟ وما مكونات الوعي بالفكر النسوي أو مقوّماته؟ وما الإمكانيات والمقتضيات التي استوجبت من النسوية العربية امتلاك الفكر الواعي؟ أهي إمكانيات فردية أم جماعية أم الاثنتان معا؟ وهل يمكن نمذجة الفكر النسوي العربي؟ وما أشكال هذه النمذجة إن وجدت؟
لا شك أن الحديث عن تأسيس فكر نسوي يخترق ترسانة الفكر الذكوري أو يقف في مصافه يظل أمرا محتمل التحقق، ما لم يكن هذا التأسيس مبنيا بناء واعيا على التأمل الدقيق والعميق في أحوال المرأة مع النظر الموضوعي للنسوية وهي تواجه التحديات محاولة اجتياز القلاع متحصنة بالتروس. وبالشكل الذي يجعل لهذا الفكر موقعه الدينامي المهم والفاعل في الحياة كما له هويته التي بها يؤكد مشروعية ما يسعى إلى تحقيقه وقوة ما يخطط له ويبني عليه، فارضا أنظمته ومحددا قوانينه ومركِّزا تجاربه بمحصلات واقعية دقيقة وأكيدة.
وقبل أي بحث عن تأسيس عربي لفكر نسوي علينا بدءا الوقوف عند النسوية العربية نفسها وتأمل كيفية تشكلها في خضم بعض البوادر الفردية التي عملت في الميدان النسوي بشكل تلقائي. وقد بدأ هذا التشكل في مصر من خلال نساء عربيات متعلمات كان نضالهن أول الأمر اجتماعيا يتعلق بالتعليم والعمل ثم توسع إلى السياسة والانضمام للأحزاب وتبنّي المواقف الوطنية داخل مجتمع ذكوري ذي سياقات راسخة ومتجذّرة. ولم يكن يسيرا بالطبع خلخلة ثوابت هذا المجتمع دفعة واحدة؛ بيد أن كفاح المرأة في مصر استمر بعد الحرب العالمية الأولى ليمتد إلى بلدان عربية أخرى كسوريا والعراق ولبنان وفلسطين وغيرها.
وصار فضاء النسوية العربية فضاء عاما بعد أن اجتمعت فيه الحياة الاجتماعية بالحياة السياسية والعلمية بالثقافية والمحلية بالدولية كما تنوعت فعاليات هذا الفضاء فمن معترك التعليم والعمل والاحتجاج والتظاهر والتحزّب وتشكيل الكيانات النسوية المستقلة كاتحادات وجمعيات إلى معترك الكتابة والتأليف المتخصص في المرأة وتعليمها وعملها وبتصورات ورؤى هي بمثابة عتبة دخول جريء للنسوية العربية مع النسوية العالمية.
وقد رافقت بعض مظاهر النسوية العربية صور داعمة لرجال امتلكوا التفكير الواعي بالمرأة ونصرتها، واعين بأهميتها ومكانتها في المجتمع وبروح تنويرية وإصلاحية ومن هؤلاء الرجال الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ومرقص فهمي ومعروف الرصافي والزهاوي وحسين الرحال ومصطفى علي إلى جانب سياسيين وصحافيين ومحامين ومثقفين ساندوا تحرير المرأة العربية أما في شكل كتب أو خطب أو مقالات أو قصص أو المطالبة بتشريعات وقرارات تخص المرأة وتصبّ في صالحها ومنها ما تبنت تطبيقه بعض المؤسسات النسوية أيضا. وهكذا بزغ التفكير النسوي العربي وصار الوعي به مسلكا مهما لارتياد مزيد من مظاهر التقدم الفعلية وبخطوات عملية وواقعية وفي مختلف مجالات الحياة العربية.
وإذا أردنا تتبع مراحل هذا التأسيس للتفكير النسوي فسنجدها مبثوثة كشذرات بين مراحل تشكل الوعي النسوي العربي والذي مثلته نسوة عربيات وصفن بأنهن رائدات النهضة النسوية العربية الحديثة. وقد توزع وعيهن النسوي ما بين العمل الذهني المتمثل في الكتابة في التاريخ والأدب شعرا وقصصا ومذكرات ومقالات صحفية ومصنفات تأليفية وبين العمل الميداني السياسي والنضال الجماهيري التطوعي والخيري وما شاكله، ويمكن تقسيم مراحل هذا الوعي النسوي إلى الآتي:
• مرحلة التفكير الأدبي وتمتد على طول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وفيها كان بزوغ الوعي النسوي لا يتعدى كتابة الشعر والقصص والمقالات وبإرادة فردية وإصرار ذاتي على امتلاك الهوية النسوية. وقد مثلت هذه المرحلة عائشة التيمورية (1840 ـ 1902) الأديبة والكاتبة التي دعت إلى تعليم المرأة وملك حفني ناصف الكاتبة المصرية الملقبة بباحثة البادية (1886 ـ 1919) وهي التي ناهضت ثقافة الحريم وأطلقت على الحريم وصف كهف العزلة ولها كتاب “مرآة التأمل في الأمور” (1890) وتسميها النسوة المصريات بالأم المؤسسة للنسوية (ينظر: رائدات الحركة النسوية المصرية والإسلام والوطن، د. مارجو بدران، المشروع القومي للترجمة، ، القاهرة، 2000). وزينب فواز (1860 ـ 1914) الكاتبة والمؤرخة الشامية صاحبة “الرسائل الزينية” (1897). ولبيبة هاشم الصحافية والأديبة اللبنانية التي أصدرت مجلة فتاة الشرق (1906 ـ 1939) ولهذا لقبت بفتاة الشرق وتعد أول من طالبت بإنشاء جمعية نسوية وألقت محاضرات توعية بالقسم النسوي للجامعة الأهلية (1911 ـ 1912) ولها قصص قصيرة وروايات منها قصص “جزاء الخيانة” (1903) ورواية “قلب الرجل” (1904). وهذا ما يؤكد ريادتها للرواية العربية وليس كما ينسب بعضهم هذه الريادة إلى محمد حسين هيكل في روايته “زينب”.
• مرحلة التفكير السياسي وتنحصر في العقدين الأوليين من القرن العشرين، وفيها كان بزوغ التفكير السياسي والوطني مقترنا بالوعي النسوي إلى جانب بقاء النزعة الأدبية والثقافية لكن بإرادة أكثر تنويرا ووعيا وبفكر تحرري إصلاحي طغت عليه الروح الجماعية النسوية، سعيا نحو تغيير واقع المرأة. وقد مثلت هذه المرحلة روز اليوسف صاحبة مجلة روز اليوسف وهدى شعراوي (1879 ـ 1947) التي امتلكت وعيا نسويا متقدما بقضية المرأة وهند نوفل التي أسست جريدة الفتاة، ومي زيادة (1886 ـ 1941) الأديبة والكاتبة الشامية التي كان لها فكرها المتقدم في الدفاع عن حقوق المرأة والمطالبة بالمساواة، ونبوية موسى الشاعرة والناشطة التي نادت بتحرير المرأة ولها كتاب “المرأة والعمل” (1939) ودونت سيرتها في كتاب بعنوان “تاريخي بقلمي”، وبولينا حسون الفلسطينية التي انتقلت إلى العراق وأصدرت عام 1923 مجلة “ليلى” وترأست تحريرها وفيها نشرت عشرات المقالات المنادية بتحرير المرأة العراقية منتقدة التزمت الذكوري كما ساهمت مع سيدات عراقيات في تأسيس نادي النهضة النسائية عام 1923.
• مرحلة التفكير المؤسساتي وابتدأت قبيل العقد الثالث من القرن العشرين واستمرت إلى اليوم، وفيها ارتهن الوعي النسوي بالتفكير القصدي العمومي انتقالا من المستويات الذاتية وغير الرسمية إلى مستويات علمية ورسمية عليا كتحصيل الشهادات الجامعية واحتلال مواقع حزبية رفيعة في مؤسسات وجمعيات نسوية وغير نسوية. وفي مقدمة المؤسسات النسوية الاتحاد النسائي العربي. ومن النسوة اللائي مثلن هذه المرحلة في مصر أمينة السعيد الناشطة المصرية في حقوق المرأة، وعائشة عبدالرحمن المفكرة والكاتبة المصرية التي اشتغلت في الصحافة وأول امرأة حاضرت في الأزهر، وصبيحة الشيخ داود (1912 ـ 1975) المحامية والكاتبة العراقية وأول امرأة دخلت كلية الحقوق في العراق عام 1936، وأمينة الرحال أول عراقية أسفرت ودخلت أحد الاحزاب اليسارية حتى وصلت إلى قيادته العليا. وسنتخذ من كتاب صبيحة الشيخ داود “أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق” عينة تمثيلية بها ندلل على التفكير النسوي الواعي والذي به غدت صبيحة رائدة من رائدات النهضة النسوية العربية.
صبيحة الشيخ داود
والوعي بالتفكير النسوي
بدأت بوادر الوعي النسوي تتضح عند صبيحة الشيخ داود من خلال تجاربها التي اشتبكت فيها مع مجتمعها الذكوري المتزمت متحملة منذ صغرها أعباء الريادة في تجديد هذا المجتمع. وقد فتح نجاحها في جميع تجاربها الطريق من بعدها لبنات جنسها لأن يواجهن الجهل والتخلف ويقاومن التبعية والاستعمار. ومن تلك التجارب تجربة اقتحام عالم التعليم العالي وتجربة مناهضة الحجاب المغالى فيه وتجربة العمل في المحاماة وتجربة الانتماء السياسي للأحزاب وغيرها.
وما كان لصبيحة الشيخ داود أن تكون مثالا لانبثاق التفكير النسوي الذي يعي نسوية المرأة وبصورة عمومية لولا تحلّيها بالشجاعة الأدبية في مواجهة العقلية الذكورية العتيدة، واثقة من إمكانياتها وهي تتصدى مع نسوة أخريات للجهل وأمراضه، منتزعة الحقوق وخارجة على ما هو نمطي في التعامل مع المرأة وعقلها.
وعمومية التفكير تعني أن المواجهة النسوية لم تكن ذات رؤى فكرية متخصصة أو قطعية وإنما هي إشراقات انبثقت عنها تلك المواجهة بطريقة عملية. وهذه العمومية هي السمة التي ميزت التفكير الذي انتهجته صبيحة الشيخ داود مقاومة الاضطهاد الذكوري، متسلحة بالعلم ومتحلية بالوعي مصممة على تغيير ما عشّش في المجتمع العراقي ولعهود طويلة من عادات بالية وتقاليد رجعية جعلت المرأة سلعة ليس لها سوى الخنوع والخضوع والاستعباد والتهميش والاستغلال والتحقير.
وبالوعي أدركت صبيحة الشيخ داود أن تحصيل النتائج المرجوّة لن يكون بالتصادم المباشر مع المجتمع؛ وإنما هو بالتأني الفكري والإرادة والاصطبار في المطالبة بتحرير المرأة ومن دون معاداة أو أنانية أو تعال أو مصلحية، مدركة أن مفتاح هذا التحرر هو في تعليم المرأة الذي به يتحوّل المجتمع الذكوري إلى مجتمع إنساني متضامن تسوده العدالة الاجتماعية.
وما كان لوعيها في التفكير بنسويتها أن يتعزز كتوجهات ويتحقق كتطلعات لولا تأثرها العميق بروح التنوير والوطنية التي سادت في أسرتها فكان والدها سياسيا وأحد زعماء الحركة الوطنية معروفا زمن الاحتلال البريطاني وكذلك أخوها من الكتاب المناوئين للانتداب، فضلا عن عمومية روحها النسوية الوثابة التي بها كشفت عن طاقات مادية وإمكانيات فكرية، استثمرتها في كسب رهانات كثيرة هي بمثابة إشراقات شقت من خلالها للنسويات من بعدها أول الطريق، فسرن فيه قاطعات المحطات ومتجاوزات المنعرجات والمنعطفات من أجل تحقيق أهدافهن. ومن الإشراقات التي تكشف لنا عما تمتعت به صبيحة الشيخ داود من تفكير نسوي واعٍ ما يأتي:
• إشراقة مهرجان عكاظ الأدبي الذي فيه ظهرت صبيحة الشيخ داود صبية تمثل دور الخنساء وتخطب وتنشد الشعر من فوق ظهر الناقة فنالت إعجاب الملك فيصل وحاشيته لكن المحافظين انتقدوها وعائلتها وعدّوا فعلها فضيحة سميت بفضيحة عكاظ.
• إشراقة تعليمها الذي اجتازت مرحلته الابتدائية بتفوق منتقلة إلى دار المعلمات ثم إلى التعليم العالي لتكون أول فتاة عراقية تدخل كلية الحقوق وقد ساعدها في ذلك دعم والديها لها أولا وإصرارها ثانيا على مواجهة الأعراف البالية. وهو ما شجع عشرات الفتيات بعدها على دخول الجامعة بحماسة ظاهرة وإقبال كبير كما أثار تفوقها على الطلاب الذكور مسائل تتعلق بالمرأة وحقوقها وضرورة تحريرها. ويصف منير القاضي ـ عميد كلية الحقوق آنذاك ورئيس المجمع العلمي العراقي ـ تجربة صبيحة وجرأتها في خرق التقاليد قائلا “حدست أنها ستكون القدوة الصالحة لأخواتها الفتيات الصالحات وقد صدق حدسي كما أني حزرت أن تقوم بخدمات صالحة في المجتمع النسوي في العراق وأنها ستنشر مؤلفات وأبحاثا علمية فكان ما حزرت” (أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق، صبيحة الشيخ داود، مطابع الرابطة، بغداد، ط1، 1958، ص 12).
• إشراقة التأليف المتخصص في النسوية المتمثل في كتابها “أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق” الذي وظفت فيه وعيها فكانت الناقدة والمفكرة والأديبة والمؤرخة والسياسية والمحامية والمرأة الجديدة التي اقتحمت الصعاب وفتحت كوى في جدار الجهل والتخلف بسلسلة محاضرات وخطب إصلاحية كانت تلقيها في المحافل النسوية وغير النسوية، وأهمها محاضرتها التي ألقتها عام 1956 في دار المعلمين العالية وكانت بعنوان “ملامح من النهضة النسوية” وصدمها في حينها أن الجيل الجديد لا يعرف أيّ شيء عن التطورات التي حققتها المرأة في العراق وجهود هذه المرأة ووعيها وتاريخها الحافل بالنهوض. فكان ذلك أهم تحريض وضع وعي صبيحة على محك جديد هو محك التأليف للنسوية من خلال التفكير في واقع المرأة العراقية وقضاياها وتسجيل أهم محطاته التاريخية.
وبسبب قلة المصادر التاريخية والسياسية المتعلقة بالمرأة العراقية، اعتمدت صبيحة الشيخ داود في الأغلب على ذاكرتها وما فيها من وقائع ومشاهدات نقلتها لنا بعين المؤرخة الموثقة وكتبتها بنفس سردي مشوق وجميل، سائرة وفق خطة ممنهجة وبأساس موضوعي يقدم الأهم ثم المهم. فابتدأت بالثورة العراقية الكبرى ثورة العشرين ومن بعدها انتقلت إلى التعليم النسوي ثم تبعتها موضوعات أخرى تتعلق بالحجاب والسياسة والعمل في المدينة والريف وغيرها.
وقد وصفت المؤلفة كتابها بأنه الأول من نوعه، قائلة “إنني لا أمنّ به على أحد فهو واجب عليّ باعتباري أول عراقية تبحث مرحلة من أهم مراحل الحياة الفكرية والاجتماعية إن لم تكن انقلابا عاما.. التي نرى فروعها اليوم يانعة مزدهرة ولكن جذورها مبعثرة في حكم الضياع”. (المصدر السابق، ص ص 18ـ19).
رهانات التفكير النسوي الواعي
لم يكن السبق الذي حققته صبيحة الشيخ داود بهذه الإشراقات الثلاث على مستوى الوعي العمومي بالفكر النسوي سبقا عراقيا وحسب؛ إنما هو سبق عربي، لارتهانه بما يأتي:
أولا: أن صبيحة الشيخ داود لم تتعامل من منطلق عفوي مع الفعل النسوي الذي يخص المرأة وكفاحها كما لم تتعامل مع هذا الفعل بحسب مقتضيات الظرف وطارئية الظواهر لتكون أفعالها موصوفة بالطفرة المفاجئة والأحكام المبتسرة؛ بل هي أفعال مقصودة وجهود واعية وأحكام منظمة وممارسات مبنية على توجهات عملية وبتجارب ملموسة وواقعية على صعد الحياة الشخصية والعائلية والوطنية والقومية.
ثانيا: منهجية النظر إلى العوامل التي ساهمت في النهضة النسوية في العراق، وحصرت صبيحة الشيخ داود تلك العوامل في اثنين هما: ثورة العشرين وحركة التعليم النسوي.
فأما منهجية النظر إلى الثورة فيتمثل في تتبع صبيحة لدور هذه الثورة في النهضة النسوية، ممّا جسدته المرأة العراقية بمواقف وطنية صادقة وشجاعة، كان لها أثرها المهم في تعميق مشاركة المرأة الرجل في الحياة. وقد أرّخت لنا صبيحة بعض تلك المواقف التي غابت عن أذهان من أرّخ لهذه الثورة. ومن تلك المواقف موقف امرأة من عشيرة بني عارض وهي تقدم زوجها وولديها فداء للثورة العراقية وموقف امرأة أخرى من بني حجيم كانت تنشد الشعر وتقاوم المحتل البريطاني، وثبتت صبيحة بعضا من ذلك الشعر.
ولم تقتصر شرارة الثورة على دور العشائر المنتفضة ضد الاحتلال البريطاني في الفرات الأوسط فقط بل امتدت إلى مدن العراق ومنها بغداد التي شهدت أدوارا ومواقف قامت بها نسوة بغداديات ناهضن المحتل وناصرن ثوار العشرين. من ذلك جمعهن التبرعات التي كان لها أثر مهم في استمرار الثورة وكذلك خروجهن في احتجاج نسوي هو الأول من نوعه عام 1920 سائرات وراء مشيعي جثمان عبدالكريم النجار المعروف بالأخرس المناضل الذي دهسته إحدى عجلات المحتل البريطاني في بغداد. ونقلت عن والدتها كيف أنها ومعها سيدات عراقيات قمن بكتابة مذكرة احتجاج تطالب بلا ممالأة أو جبن السلطات البريطانية الإعلان عن مكان اعتقال أزواجهن وسلمنها إلى المس بيل. وبالفعل أذعنت سلطات الاحتلال لهذا الاحتجاج النسوي بعد أيام كاشفة عن مكان الاعتقال.
وهذه البواكير في النضال النسوي ونشاط المرأة السياسي هي تفاصيل من صفحات لم يتعمق مؤرخو هذه الثورة للأسف في التنقيب في تفاصيلها. والسبب نظرتهم الذكورية في التعامل مع المرأة مهمشين الفعل النسوي وغير مهتمين بالأدوار النضالية والبطولية التي مارستها المرأة العراقية في هذه الثورة المهمة في تاريخ الحركة الوطنية العراقية.
وأما منهجية النظر في التعليم النسوي فتتضح في المحطات التي اختارتها صبيحة من تاريخ التعليم العام في العراق وفيها تمكنت المرأة من تهشيم معاقل الجهل والتحجر فابتدأت من عام 1917 الذي فيه دخلت بعض الإناث التعليم ثم انتقلت إلى الشرارة التي أشعلها دخولها كلية الحقوق واصفة هذا الدخول بإصبع الديناميت، وتضيف قائلة “ولست أزعم أن إعلان هذه الخطوة كان محفوفا باليسر والسهولة.. لأن على الفتاة أن تتدرع بعدد الشجاعة والجرأة” (المصدر السابق، ص66)؛ بيد أن مقاومة الجهل بالإصرار على التعلم رافقته معركة الحجاب التي هي أشد ضراوة من معركة التعليم كما تقول صبيحة “لا أعلم أن قضية هزت دنيا العراقيين وشغلت أذهانهم كالخطوة التي أقدمت عليها المرأة في السفور” (المصدر السابق، ص97)، وأرّخت صبيحة أول محاولة لسفور المرأة المسلمة في العراق كانت قد وقعت بعد ثلاث عشرة سنة من تأسيس الحكم الوطني أي في سنة 1933 قامت بها بشكل عرضي ماجدة الحيدري عقيلة رؤوف الجادرجي التي نذرت إن نجحت عمليتها الجراحية وتعافت فستكون سافرة (المصدر السابق، ص107)، بمعنى أنها لم تكن قاصدة تحديث المجتمع.
ثالثا: عمومية تفكيرها في معركة التعليم النسوي جعلتها تذكر إلى جانب تجاربها الشخصية تجارب لرجال ونساء وصفتهم بالمفكرين وهم يناصرون تعليم المرأة بالإفتاء والخطب والأشعار والمقالات.
ومن هؤلاء العلامة ميرزا حسين النائيني الذي أفتى أن الإسلام لا يتسامح في إهمال القادرين من المسلمين على تعليم المرأة وعلى تحديدها تحديدا يخرج على تعاليم الإسلام وأن الإسلام كان يعني ما يقول حين قال “العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، والمؤسف أن العلامة وبسبب ضغط المجتمع النجفي المحافظ لم يترجم إفتاؤه ترجمة عملية (المصدر السابق، ص128). ثم ذكرت معروف الرصافي الذي كان “يؤمن بأن المستقبل الحر للشعب لن يتحقق دون مساهمة المرأة، وأنه لن يستقيم بغير تحرر المرأة من ربقة العقليات المتزمتة التي لا تروقها صفة من صفات التطور والكمال” (المصدر السابق، ص130). وكذلك جميل صدقي الزهاوي الشاعر المتحرر الذي كثيرا ما اتهم بالافتراء والتضليل وسمته صبيحة “نصير المرأة العربية”. وساطع الحصري شيخ المربين الذي ساهم في فتح بعض مدارس الإناث في بغداد ومنها دار المعلمات وتراه صبيحة مثل جمال الدين الأفغاني في العمل على إصلاح واقع المرأة وتثقيفها بالتعليم.
ومن الصحافيين الذين ذكرتهم صبيحة وكانوا مناصرين لتعليم المرأة وسفورها والمطالبة بحقوقها السياسية جعفر الخليلي ورفائيل بطي وفاضل قاسم راجي الذي ساهم في تطوير الصحافة النسوية من خلال مجلتين هما “المرأة الحديثة” و”فتاة العراق” وتولى رئاسة تحريرهما.
رابعا: ما أرّخته صبيحة الشيخ داود عن تأسيس النوادي والجمعيات والاتحادات النسوية، والتي أعطتها اهتماما كبيرا في كتابها موضع الرصد، وعيا منها بأن مثل هذا التأسيس هو الذي يمكن المرأة من نيل حقوقها. وقدمت مسردا تاريخيا مفصلا بالمراحل التي مر بها هذا التأسيس بدءا بتأسيس نادي النهضة النسائية عام 1923 وفيه تأثرت المرأة العراقية بكفاح المرأة في تركيا وسوريا ومصر التي فيها نزلت المرأة المصرية إلى الشارع عام 1919 معبرة عن وطنيتها، مناوئة المحتل الأجنبي وهو ما فعلته البغداديات بعد عام تقريبا كما مر معنا.
وشرحت صبيحة بشيء من التفصيل كيف أن تأسيس الجمعيات والاتحادات ساهم في ضمان أن يكون في الدستور العراقي مواد وفقرات لا تحرم المرأة من حقوقها السياسية والمدنية ومن ثم لم تمانع أحكام القانون الأساس أن تتولى المرأة مقاليد الوزارة أو تظفر بعضوية مجلس الأعيان بيد أن الأهم من ذلك هي المسائل القانونية التي تتعلق بتحسين الأحوال الاجتماعية والمعيشية للمرأة العراقية كإلغاء الوقف الذري وسن قانون إجراء فحص على طالبي الزواج والحصول على شهادة طبية قبل الزواج ورفع مستوى الممرضات إلى مرتبة الموظفات في الدولة وما شاكل ذلك.
وأول جمعية سياسية اهتمت بمطالب المرأة أعلاه وعملت على دعمها وتأييدها كانت “جمعية الإصلاح الشعبي” عام 1936 ثم تأسس “الاتحاد النسائي العراقي” عام 1945 وكانت له أهداف سياسية ونشاطات ثقافية وفكرية وفنية. وأهم ما حققه الاتحاد هو المطالبة “إلغاء البغاء العام الذي كان يعتبر وصمة في جبين المجتمع الإنساني وهدم محلته” (المصدر السابق، ص176). وتتبعت صبيحة أيضا حضور المرأة العراقية في مناهج الأحزاب فوجدتها في حزب الاتحاد الدستوري وحزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الأمة الاشتراكي. ولم تجد هذا الحضور عند أحزاب أخرى كحزب الجبهة الشعبية وحزب الأحرار وحزب الإصلاح وحزب الاتحاد الوطني.
وعلى الرغم من أن الحزب الشيوعي العراقي كان في مقدمة الأحزاب التي أولت قضايا المرأة اهتماما مركزيا؛ فإن صبيحة الشيخ داود تناست ذكره كأول حزب أنشأ كيانا فرعيا خاصا بالنسوية هو “رابطة المرأة العراقية” التي ترأست إدارتها لسنوات طويلة الدكتورة نزيهة الدليمي وكان عدد النسوة المنتميات إليها أكثر من أربعين ألف امرأة.
ويبدو أن تأسيس الجمعيات والاتحادات والروابط كان قد أتاح للمرأة العراقية حضورا مهما في المؤتمرات النسوية الدولية وغدا ممكنا أمامها “أن تعمل لنفسها ولجنسها ولبلادها ما يمكنها عمله” (المصدر السابق، ص124). والمخيب للآمال أن هذا الاهتمام النسوي على الصعيد الدولي صار يطغى عليه الطابع السياسي على حساب الاهتمام بالواقع المحلي للمرأة العراقية حتى ما عاد لكثير من هذه التشكيلات النسوية أن تقدم جديدا على الصعيد المحلي لا في العقود التي أرّخت فيها صبيحة الشيخ داود للنهضة النسوية في هذا الكتاب ولا في العقود التي تلت كتابها باستثناء بعض المحطات التي حفلت بتقدم طفيف نوعا ما.
ولا شك أن هذا الطابع السياسي في التفاعل مع هذه المؤتمرات النسوية الدولية برز مع تمثيل السيدات اللائي هن في الغالب زوجات وزراء وأعيان ووجهاء. وكانت صبيحة في بعض الأحيان جزءا من هذا التمثيل السياسي موجّهة جهودها في مناصرة المرأة العراقية وجهة سياسية تفيد فيها من عملها الحقوقي مطالبة بمسائل مجتمعية تتعلق بمساواة المرأة مع الرجل في التوظيف والإعانة والانتخاب، والنص على “تعيين المرأة في الوظائف التي يشغلها الرجل المتساوي معها في الشهادات والمؤهلات” (المصدر السابق، ص156. وهو أحد قرارات المؤتمر النسائي العربي الأول الذي ترأسته هدى شعراوي).
وقد قدمت صبيحة الشيخ داود في كتابها عرضا مفصلا للمؤتمرات النسوية التي كان فيها للعراق تمثيل نسوي، ومنها المؤتمر النسائي الشرقي الأول دمشق 1930 ومثلت العراق أمينة الرحال وكانت آنذاك طالبة في دار المعلمات وقدمت ورقة عن تحرير المرأة اقتصاديا. ومن القضايا التي كانت على جدول أعمال هذا المؤتمر قضية المرأة العاملة والأمومة وأحياء اللغة ومنع المسكرات والمقامرة وترويج الصناعات الوطنية ومشكلة الزواج وسن الزواج. ثم المؤتمر النسائي في بغداد 1932 وفيه قدمت روز اليوسف تقريرا عن دور المرأة العراقية في الإقبال على التعليم كما قدمت صبيحة الشيخ داود محاضرة في حقوق المرأة المسلمة، وقد نالت نعيمة نوري السعيد الرئاسة الفخرية فيه. ثم المؤتمر النسائي الشرقي الذي عقد في طهران 1932 ومثلت العراق ثروة أحمد. ثم المؤتمر النسائي العربي الأول في القاهرة 1944 ومثلت العراق نظيمة العسكري وفيه تمت الدعوة إلى إنشاء اتحادات نسائية مماثلة في كل بلد عربي. وهذا المؤتمر في نظر صبيحة الشيخ داود هو الأهم، فقد كان “بمثابة نقطة تحول في حياة المرأة العربية وكان لجهود السيدة هدى شعراوي أثر محمود في لفت الأنظار إلى كفاح المرأة والاعتراف بحقوقها” (المصدر السابق، ص166).
ومن بعده عقد المؤتمر النسائي العربي في بغداد 1952 وافتتحته رئيسة الاتحاد النسائي العراقي آسيا توفيق وهبي ومثلت العراق صبيحة الشيخ داود. ومن المؤتمرات أيضا مؤتمر باريس النسوي عام 1947 والقاهرة 1947 وبيروت 1949 ومثلت العراق صبيحة الشيخ داود ومؤتمر باكستان 1951 ولندن 1953 وكولومبيا 1955. ومن أهم الجمعيات والنوادي النسوية نادي أخوات الحرية 1944 وجمعية مكافحة النازية والفاسشتية 1942 وجمعيات أخرى ذكرتها صبيحة وهي ذات صفة دينية مؤكدة أن عدد هذه الجمعيات النسوية ارتفع خلال الحكم الوطني إلى نحو من أربعين جمعية في بغداد والأقاليم، ثم انحسر نشاط هذه الجمعيات بعد إصدار قانون تأليف الجمعيات 1954 الذي حظر تدامج جمعيتين أو أكثر باستثناء جمعية الاتحاد النسائي برئاسة آسيا توفيق وهبي.
خامسا: تركيزها على مجالات حياتية فيها للمرأة دور واضح كالصحافة التي مارستها نسوة رائدات بعضهن كن رئيسات تحرير. ومن المجلات النسوية مجلة “ليلى” التي وصفتها صبيحة بأنها “أول مجلة نسوية عصرية وقد استطاعت خلال السنوات القليلة التي ظهرت فيها أن تكون لسانا لدعوة وترجمانا لفكرة وقلما صادقا معبرا عن مطالب المرأة مع مراعاة الظروف الاجتماعية الغالبة يومذاك والسيدة بولينا ولدت في فلسطين وانتقلت إلى العراق للعمل مع ابن عمها سليم حسون صاحب جريدة “العالم العربي” أول صحيفة نبهت الأذهان إلى الخطر اليهودي” (المصدر السابق، ص 204).
وقد ركزت صبيحة الشيخ داود على ما كتب على غلاف هذه المجلة وهو “في سبيل نهضة المرة العراقية مجلة نسائية تبحث في كل مفيد وجديد فيما يتعلق بالعلم والفن والأدب والاجتماع وتدبير المنزل”، ولا يخفى ما في تركيزها من دلالة على تمتعها بوعي نسوي فضلا عن وعي بولينا حسون المتقدم في هذا المجال أيضا. وبولينا واحدة من النسوة اللائي حضرن اجتماع أول مجلس تأسيسي عراقي للمرأة وهو نادي النهضة النسائية كما كانت لها مقالات تنتقد ما تتخبط فيه المرأة من الجهل والجمود والخمول. واقتطفت صبيحة جزءا من مقالة لحسون كانت الأخيرة قد نشرتها في العدد الصادر في 15 آذار 1924 من مجلتها “ليلى” تقول فيها “إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بغيرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام ولاسيما أنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة فالحياة وأنتم تعلمون أنها ليست حق الرجال فقط” (المصدر السابق، ص142) وكان لهذا الانتقاد أثره في خلخلة بعض المفاهيم الراكدة حول المرأة ونهضتها في المجتمع العراقي.
ومن الصحف النسوية الأخرى التي ذكرتها صبيحة “فتاة العرب” (1937) وهي جريدة أدبية نسائية اجتماعية رأست تحريرها مريم نرمة وصحف “صوت المرأة” و”فتاة الرافدين” ” الرحاب” لأقدس عبد الحميد (1946). وذكرت صبيحة أن أقدس هي الوحيدة التي منحت رخصة من وزارة الداخلية ومن المجلات النسوية “الأم والطفل” و”بنت الرشيد” و”الاتحاد النسائي” و”الهلال الأحمر” ولم تذكر صبيحة الشيخ داود الصحفية المعروفة نعيمة الوكيل رئيسة تحرير “مجلة 14 تموز” ولعل السبب الاختلاف الأيديولوجي.
ووقفت صبيحة الشيخ داود بشيء من التفصيل عند دور المرأة العراقية في التيارات الأدبية والفكرية. وأرجعت سبب قصور دور المرأة في الحياة الأدبية آنذاك إلى تأخر العراقية عن ارتياد مناهل العلم أولا ولأن فراغ الرجل أكثر من فراغ المرأة ثانيا. بيد أنها فيما اختارته من أشعار وما وصفت به شاعرات وقاصات، كشفت لنا عن تمكن نقدي واضح تذوقا وتحليلا. فبينت أن في أوائل الحكم الأهلي ظهر شعر عاطفي نسوي يستنهض الهمم كشعر فيروزة نوما (1924)، وأن قصص ماهرة النقشبندي الموضوعة منها والمترجمة لاقت من النقاد والأدباء اهتماما.. وعددت بعض الأسماء النسوية في كتابة القصة مثل سافرة جميل حافظ وآمال الأوقاتي ونعيمة نديم وأمينة الرحال ثم أفردت مباحث نقدية خاصة لرباب الكاظمي وأم نازك الملائكة ونازك الملائكة التي وصفت شعرها بالتشاؤم وقالت عنها “شاعرة أوسع من الأفق العراقي المحلي وقد استطاعت موهبتها المتألقة أن تشق أمامها آفاقا بعيدة رائعة من الشعر والنثر لا يضاهيها إلا القلة من الفحول الشعراء” (المصدر السابق، ص ص 192 ـ 193). وعدت صدوف العبيدية أو فطينة حسين النائب أبرز شاعرات العراق ولها ديوان “لهيب الروح” (1955)، وأن الأسلوب القصصي يغلب على شعر عاتكة الخزرجي ولها مسرحية “مجنون ليلى” نهجت فيها نهج أحمد شوقي. وأن اليأس والألم يشيع في شعر لميعة عباس عمارة وأن لمقبولة الحلّي موهبة أدبية متفتحة وذكرت أن أميرة نورالدين داود شاعرة ولها كتاب “دروس من شعر إقبال” ورسالتها للماجستير كانت في “الشعر الشعبي العراقي في الفرات الأوسط”.
هذا فضلا عن مضامير حياتية نسوية أخرى وقفت عندها صبيحة الشيخ داود مدللة بها على عهد جديد دخلته المرأة العراقية من ذلك عملها في القبالة والتمريض والإدارات المحلية والمؤسسات الصناعية والتشريع العمالي العراقي ومساواة المرأة بالرجل من حيث الأجور وشمول المرأة بمشروع الضمان الاجتماعي والإعانات. وختمت كتابها بالوقوف عند الواقع النسوي في الريف متعرضة إلى صور قاسية من صور الحط من المرأة واللاعدالة الاجتماعية التي تجعل الرجل يستغلها أبشع استغلال. وقد ساعد عمل صبيحة في محكمة الأحداث على الاطلاع على قصص مأساوية كان مسرحها الريف.
ومما خرجت به صبيحة معالجتها لمسالة المرأة الريفية قولها “الفلاحة العراقية لا تشارك في الإنتاج الاجتماعي كمنتجة ولكن كوسيلة للإنتاج وبذلك فقدت حريتها الشخصية من حيث هي إنسانة كما فقدها مالكها بدوره لأنه يعمل كوسيلة للإنتاج بالنسبة إلى الإقطاعي” (المصدر السابق، ص 225)، وهو ما كانت أمينة الرحال في ورقتها التي قدمتها للمؤتمر الذي مثلت العراق فيه قد أكدت عليه وهو أن المرأة جزء من المشكلة الاقتصادية.
وبهذه الرهانات الخمسة تكون صبيحة الشيخ داود مثالا متقدما على الفكر النسوي الواعي عراقيا وعربيا على الصعيدين الوطني والقومي، مبينة أن أيّ تطور مجتمعي لا يتحقق ما لم يكن مقترنا بتطور المرأة وتقدمها. وحري بمجتمع فيه تشكل المرأة نسبة النصف إن لم تكن أكثر أن تكون لها الأولوية في أيّ استراتيجية مجتمعية وفي أيّ مشروع تنموي وعند كتابة أيّ صفحة من صفحات التاريخ الحديث والمعاصر وعند اتخاذ أيّ قرار أو حكم أو مناسبة أو استفتاء أو انتخاب، وفاء لما قدمته من نضالات وجزاءً على ما عانته من ويلات وما كابدته من ظلم وقهر واضطهاد. فهي التي ربّت وعلّمت وشاركت وتجاوبت وانتفضت واحتجت.
وما قامت به صبيحة الشيخ داود أنها أوفت وأجزت ما كان المؤرخون قد نسوه وأهملوه حول المرأة وكفاحها، ومنهم د. علي الوردي في كتابه ذائع الصيت ذي الأجزاء الستة “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”.