إصلاح الدين أم الإصلاح الديني
تبين لنا تداعيات المشهد العربي منذ ست سنوات ماضية أن انهزام وانكسار الإسلاموية السياسية (السنية والشيعية على حد سواء وتوازٍ) هو السبيل الوحيد لانتصار ثورات الربيع العربي على أنظمة القمع والاستبداد والفساد والإجرام في بلداننا. لقد كشف أداء الإسلاموية السياسية في السنوات الأخيرة ومحاولاتها المحمومة والمسعورة أحياناً لامتطاء ثورات الربيع العربي، وتسلقها على أكتاف صانعيها وخزانها الأساس من الشبان والشابات، أبناء وبنات الجيل العربي المعاصر، سعياً للوصول للسلطة، بأن الإسلاموية السياسية تحولت إلى المبرر والضامن الأول لبقاء أنظمة القمع والاستبداد وأنها بأدائها تماهت مع أداء تلك الأنظمة المذكورة حتى كادت تصبح المعادل الموضوعي لها في تدمير ربيع الشعوب العربية وأحلامها. ولنا في سوريا نموذج حَيٌّ عن تلك العداوة وذاك التكافل.
يدفع هذا الواقع وإدراكه العميق اليوم بعض الأصوات الثقافية والفكرية العربية على امتداد الساحات العامة للدعوة إلى إعادة قراءة المشهد العربي في علاقته الجدلية، أحياناً، والتكافلية، أحياناً أخرى، بالانتماء الديني ودور الديني في الدنيوي وعلاقة الفكر الإيماني بالفكر العالمي والعلمي.
ويمكن للمراقب تقصّي ملامح مثل هكذا إدراك لا في أوساط الشرائح العلمانية واللادينية واليسارية العربية، بل يمكن له أن يجد بضعة ملامح جدية لها في ظهرانين الشرائح المتدينة والإسلاموية واليمينية العربية أيضاً. لا بل ويمكن لهذا المراقب أن يسمع أصواتاً من بين تلك الشرائح الأخيرة تطالب بإعادة إحياء الربيع العربي وتقويم مساراته وبثّ الديمومة في عروقه لا من خلال ثورة على الدين وتمرد على تعاليمه وتهميش كليّ لدوره في المجتمع، بل من خلال الشروع بإصلاح ديني جاد وشامل وتحويل مثل هكذا إصلاح ديني إلى حامل أساسي لعملية الإحياء المذكورة ورافعة قاعدية في عملية التقويم والديمومة المرجوّتين. ويحاجج بعض هؤلاء بأن مثل هكذا إصلاح ديني مارسته دول الغرب الأوروبي في القرن التاسع عشر من خلال الإصلاح البروتستانتي ومارسته أميركا في القرن التاسع عشر من خلال الثورة الروحانية المتمثلة بحركتي “الصحوة العظيمة” اللتين قام بهما إنجيليون ومتدينون تقويون.
مما لا شك فيه بأن الدعوة لإطلاق حملة “إصلاح ديني” دعوة مهمة جداً وبناءة ومثمرة، ومطلوبة. ولكن لا شك أيضاً بأنها ليست بالدعوة الجديدة أو غير المسبوقة في تاريخ العالم العربي المعاصر. فكلنا يذكر طبعاً دعوة “الإصلاح الديني” الشهيرة والمؤثرة التي دعا إليها سيد قطب ومن بعده حسن البنا والتي أدت إلى خلق تيار الإخوان المسلمين في مصر أولاً ومن بعده على امتداد بلدان العالم العربي تقريباً على قاعدة أنَّ جماعة الإخوان ستكون هي الطليعة الأولى في تحرير الشعوب المسلمة العربية وتقويم إعوجاجات المجتمعات التي يعيشون فيها وإنقاذها من غياهب الفقر والجهل والفساد والهزيمة والوهن من خلال “إصلاح ديني” يقدم الإسلام بحدّ ذاته على أنه الحل ومصدر الخلاص والحرية والتفوق والانتفاض والنصر على واقع الوهن والهوان والهزيمة.
إذن، الدعوة لإنقاذ العالم العربي من انحطاطه وإحياء روح الثورة والانتفاض على الانحطاط فيه من خلال “إصلاح ديني” ليست بالفكرة الجديدة على الساحة العربية المعاصرة. إلا أن ما يجب أن نلتفت إليه ونفككه بتأنٍ قبل أن نتبنى تلك الدعوة أو نرفضها هو ما يلي: ما هو المقصود بـ”الإصلاح الديني” في خطاب من يدعو إليه؛ وهل ما يحتاجه العالم العربي هو “إصلاح بدلالة وواسطة الدين” أم أنه يحتاج في الواقع “إصلاحا للدين بحد ذاته”؟ هناك في الحقيقة فرق بنيوي مفاهيمي ومنهجي لا مفر من لحظه بين الحديث عن إصلاح ديني بمعنى إجراء إصلاح ما بدلالة الفكر الديني وبالاعتماد عليه ومن خلال جعله المرجع والمقياس والتوجه الفكري والاستراتيجي المسيطر على عملية الإصلاح وآلياته ومنطلقاته وأهدافه ونفاذاته العملياتية، من جهة، وما بين إجراء إصلاح ديني بمعنى القيام بعملية تعريض الفكر والخطاب الدينيين بحد ذاتهما إلى عملية تفكيك وتمحيص وتقييم وتصحيح وتقويم وتجديد وربما نقض وفق آليات ومنطلقات ومنهجيات تفكير وتحليل وتقييم وتفعيل وعمل من خارج دائرة الدين والمخيال الديني بحد ذاته، أو ربما من داخل دائرة الإرث الديني نفسه، ولكن من خلال مقارنة ومواجهة مدارس دينية مختلفة ببعضها البعض وجعلها تتحدى بعضها البعض وتفككك ذاتها بذاتها وتعيد بناء ذاتها بذاتها، من جهة أخرى.
تبين لنا تداعيات المشهد العربي منذ ست سنوات ماضية أن انهزام وانكسار الإسلاموية السياسية (السنية والشيعية على حد سواء وتوازٍ) هو السبيل الوحيد لانتصار ثورات الربيع العربي على أنظمة القمع والاستبداد والفساد والإجرام في بلداننا
هناك فرق إذن بين “إصلاح ديني”، من جهة، وبين “إصلاح الدين”، من جهة أخرى. وهذا الفرق نلحظه في الحقيقة حين نقرأ وندرس تاريخ الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر في أوروبا. فالإصلاح البروتستانتي بدأ كإصلاح للدين في بداياته، إلا أنه وقع في بعض مراحل تطوره التاريخي في فخ محاولة إصلاح المجتمع بواسطة الدين وبدلالة التديُّن.
بدأ الإصلاح البروتستانتي مع خطاب مارتن لوثر الإصلاحي في ألمانيا، والذي انطلق من قلب مدرسة اللاهوت وصفوف التعليم اللاهوتي المعرفي والكهنوتي الصرف. اكتشف مارتن لوثر أن هناك سوء فهم وتفسير وتوظيف للتعليم اللاهوتي المسيحي الكتابي والآبائي العقائدي في أوساط الكنيسة وفي ظهرانين لاهوتييها ومعلميها تقصى لوثر معالمه والبرهان على وجوده من خلال مراقبته النقدية لممارسات الإكليروس في قلب الكنيسة.
لا مكان هنا للاستطراد أو الإسهاب أكثر في تاريخ تجربة الإصلاح الديني في أوروبا عصر النهضة البروتستانتية، وأنا لست أبداً بمعرض إطلاق حكم قيمة سلبي أو إيجابي على تجربة الإصلاح الكالفيني في مدينة جنيف. هي تجربة تعلم منها البروتستانت المُصـلَح ومازال الكثير الكثير من الدروس والعِبَر اللاهوتية والمجتمعية والتاريخية. المهم هنا أنني ألفت انتباه من يقولون بأنَّ أوروبا اختبرت إصلاحاً دينياً في تاريخها في القرن السادس عشر وأن ما اختبرته أوروبا يصلح لنختبره نحن أيضاً في العالم العربي، ألفت انتباههم إلى حقيقة أن ما اختبرته أوروبا متمثلاً بالفكر المذكور في الأعلى كان أمرين “إصلاح للدين المسيحي بحد ذاته” و”إصلاح باسم الدين المسيحي وبدلالته”. هاتان التجربتان متمايزتان بالطبيعة والتوجهات والمفهوم ولا يجب الخلط بينهما أبداً ولا التعامل معهما على أنهما ظاهرة واحدة. خلقَ إصلاح الدين في أوروبا حالة عميقة وفاعلة وعظيمة من التطور والتقدم والتحرر مهدت السبيل وفتحته كاملاً لمرحلة عصر الأنوار والحداثة في القرنين اللاحقين وأوصلت المجتمعات الغربية عموماً إلى ما وصلت إليه اليوم. في المقابل، سببَّ الإصلاح باسم الدين وبفرضه كمرجع تقريري في حياة الناس مشاكل وعثرات وتحديات سلبية في المجتمع الأوروبي في القرن السادس عشر (قاد في النهاية، ومع خلق الكنيسة الكاثوليكية إصلاحاً مضاداً باسم الدين وبواسطة سلطته إلى حرب الثلاثين عاما وإلى مذابح دينية بشعة) واجهها الشارع العام الغربي بثورات وانتفاضات شعبية وعلمية وسياسية ومعرفية وتعلم منها الكثير. وأهم ما تعلمه هو عدم الخلط بين “إصلاح الدين” وبين “الإصلاح باسم الدين”. يوجد اليوم إصلاح ديني مستمر وحي وديناميكي ومتعدد الأوجه في قلب الوجود الديني الغربي المسيحي واليهودي وضمن معاهد التعليم اللاهوتي ودور العبادة والمؤسسات الكنسية والمجمعية الصرفة. ولكن هذا الإصلاح لا علاقة له بأيّ مظهر من مظاهر الإصلاح باسم الدين. تعلم الغرب أن يفرِّق بين الاثنين وأن يفصل بينهما بشكل واعٍ وعميق وبنَّاء.
في العالم العربي، وصلت فكرة الإصلاح الديني، كما ذكرت في الأعلى، إلى شواطئنا، فدعا كثير من الإسلامويين مطلع القرن العشرين من أمثال سيد قطب وحسن البنا وسواهما إلى إصلاح ديني في العالم العربي. الدارس المتمعن في فكر أولئك المفكرين من أمثال سيد قطب وحسن البنا وآخرين من خطهم الفكري يشعر أن ما دعوا إليه (ومازال يتم تبنيه وتسويقه اليوم من قبل الإخوان المسلمين والسلفيين في المشرق العربي ومصر على الأقل) هو إصلاح باسم الدين وبدلالة مرجعيته، وليس في الواقع إصلاح للدين بحد ذاته. شعار “الإسلام هو الحل” يعبِّر بشكل بليغ عن هذا الميل وهذا الخلط للإصلاح باسم الدين بمسألة إصلاح الدين. يصعب على الإسلاموي السياسي الذي يحمل هذا الشعار أن يدرك بسهولة هذا التفريق، فمن يفترض أن ديناً بعينه هو “حلّ” لا يمكن له بديهياً أن يقبل أن ذاك الذي يعتبره “حلاً” لإصلاح خلل ما هو نفسه بحاجة إلى “إصلاح” وكأن به خللا. ولكن، في هذا المنطق المغلق للفكر الإسلاموي السياسي فهم إشكالي لماهية الدين بحد ذاته. فالدين ليس موضوع العبادة في الإيمان. موضوع العبادة في الإيمان هو الله، وما الدين سوى خطاب يشهد عن الله (موضوع العبادة) ويحاول تفسيره للإنسان. أي أن الدين وسيلة للتعبير عن والشهادة على حقيقة أعمق وأسمى وأكثر قاعدية منه. وكل وسيلة ما هي إلا شيء محدود بطبيعته ونسبي بماهيته وخاضع لمشروطات ومحدودية وظرفية التاريخ والسياق والتحدي الوجودي والعقل البشري التي أنتجته. من هنا فإن التعامل مع الدين، أيّ دين كان، على أنه “حل” لأي شيء ما هو إلا سوء فهم لماهية ظاهرة “الدين“. الدين لا يحلّ أيّ شيء؛ الدين يعكس حاجة شيء معين لحل ما. الدين لا يعطي حلولا مطلقة أو ناجزة لمصير الإنسان ومآلاته في الحياة. الدين يعمل كالعدسة التي تدعو الإنسان لتأمل مصيره وفهم مآلات حياته في ضوء علاقة البشري بالمقدس الإلهي. من هنا يمكن القول إن مفهوم “إصلاح ديني” مفهوم متناقض، فالدين نفسه هو أحد الخبرات البشرية التي تحتاج هي نفسها للنظر فيها وتمحيصها إصلاحياً. ولهذا يمكن الحديث منطقياً عن “إصلاح للدين” ولكن لا يوجد شيء فعلي ومقبول منطقياً اسمه “إصلاح باسم الدين”.
في سياق التاريخ العربي المعاصر، استمرت فكرة “الإسلام هو الحل” هي الفكرة الناظمة لمفهوم “الإصلاح الديني” في أوساط الإسلاموية السياسية في العالم العربي. وقد تمت محاولات لتطبيقها في بلدان ما بعد الربيع العربي كمصر وتونس وليبيا وهناك محاولات لفرضها في المغرب واليمن وسوريا والأردن، ولكن هناك تطبيق فعلي لها في دول الخليج وإيران وتركيا. من يراقب تلك النماذج يلحظ برأيي أن لا أحد منها يمثل نموذجاً ناجحاً فعلاً في تمثيل الأحلام والطموحات والمبادئ والدعوات التي قامت ثورات الربيع العربي على أساسها والتي نادى بها وحلم بتحقيقها جيل الشباب والشابات العرب الذين قاموا بتلك الثورات.
في عالم يخيّر الإنسان ما بين “الله” و”التديـُّن”، لا يمكن لأيّ ربيع عربي أن ينمو ويزدهر لأن ما يدعو إليه لن يهدد فقط المؤسسة الدكتاتورية والفاسدة، بل وسيهدد أيضاً المؤسسة الدينية التي ترهن وجودها برمته بمرجعية خطابها الديني وليس بخدمتها للإنسان
أحد الأسباب لهذا الفشل في النمذجة برأيي يكمن في أن تلك السياقات العربية تخلط بشكل مدمر ويحمل عناصر تفككه وفشله الذاتي في داخله ما بين “إصلاح الدين” و”الإصلاح باسم الدين”. ينطلق من يدفعون باتجاه الخيار الثاني من فرضية تقول إن على الدين أن يكون ذا سلطة كي يتواجد في المجتمع ويلعب دوراً في حياة الناس. ولكن هل يحتاج الدين حقاً لسلطة، وهل عليه الدخول في لعبة السلطة، كي يكون له دور في حياة الناس في المجتمع؟ لماذا الإصرار على قرن مسألة “الدور” بشرط “السلطة”؟ هل لأن الدين يقف عاجزاً ومتعرياً تماماً أمام العالم حين لا يتمتع بسلطة، وهل هذا الخوف من فقدان الدور بسبب عدم امتلاك سلطة دلالة غير مباشرة على محدودية الدين وبعده عن المطلقية والعصمة في طبيعته وعدم قدرته على ترك تأثير في حياة الناس إلا حين يتم فرضه عليهم بدلالة مرجعية وسلطة؟ باعتقادي أن إصرار الإسلاموية السياسية على مسخ “الإصلاح الديني” إلى مجرد مشروع إصلاح باسم الدين وبدلالة سلطته، وخوف المؤسسات الدينية المتمسكة بهذا التوجه من إصلاح الدين من داخله، ما هو إلا دعوة حتمية لأيّ مراقب، بل وتشجيع له أو لها، لطرح تلك التساؤلات ووضعها على طاولة البحث.
في عالمنا العربي حيث يعبد الناس أديانهم أكثر بكثير مما يعبدون الله ويتعبدون لتديُّنهم أكثر من تعبّدهم للرحمن الرحيم، وحيث الدين يمثل “مالك الحقيقة” عوضاً عن أن يكون “الشاهد عن حقيقة ما”، وحيث الدين “طوق نجاة” وليس “مساحة حرية”، وحيث التديُّن مقياسه الخضوع وليس العلاقة، آخر ما نحتاجه هو “إصلاح باسم الدين وبدلالته”، فالدين بحد ذاته هو أحد العوامل المهددة لحياة المؤمنين بالله والمتمسكين بالتديـُّن، إذ تراه يخيّرهم ما بين التحول لأتباع يتم تعريفهم بدلالة طاعتهم العمياء لخطاب ديني مسيَّس وما بين العيش كأفراد يتم تعريفهم بدلالة أخلاقهم وإنسانيتهم الملتصقة بعلاقة مع المقدس.
في عالم يخيّر الإنسان ما بين “الله” و”التديـُّن”، لا يمكن لأيّ ربيع عربي أن ينمو ويزدهر لأن ما يدعو إليه لن يهدد فقط المؤسسة الدكتاتورية والفاسدة، بل وسيهدد أيضاً المؤسسة الدينية التي ترهن وجودها برمته بمرجعية خطابها الديني وليس بخدمتها للإنسان في ساحات العالم العربي العامة. نحتاج بشكل ملموس إلى إصلاح للدين، إلى إصلاح ديني يبدأ بتصحيح الدين نفسه وبتعريض الدين بحد ذاته للتقييم والدراسة والنقد والتفكيك من داخله. طالما نقول إن “الدين هو الحل” لن ينجح الإسلام السياسي في العالم العربي لأنه يمسخ الدين إلى ما ليس هو وما ليس بدوره. وطالما نصرُّ على ألاّ نصلح الدين بل أن نفرض الدين كحل إصلاحي، لن ينجو الربيع العربي من المستنقع الذي غرق فيه حين ركب عليه الإسلامويون وقدموه لقمة سائغة لأنظمة القمع والطغيان والفساد والأبويات العربية وجعلوه حجة لعودتها إلى الساحة في المشهد العربي (ما حصل في مصر وما يحصل في سوريا نماذج ساطعة عن هذا). فلنصلح الدين من داخله وعندها فلنأمل بأن ينعكس هذا إصلاحاً على الحياة والتاريخ وسيرورة الإنسان في العالم العربي.