إن صحت تسميته وجودًا..
البحر والحزن، لقد تم استهلاك هذه العلاقة بالأدب حتى صارت كليشيها، قال إسماعيل لنفسه وسرعان ما أجابته: لكن الكليشيه لم يصبح كليشيهًا إلا لتشبع الواقع منه، إنه حقيقي وشعري أكثر من كل الاستعارات التي نحاول أن نستحدثها. رمى بصخرة ملساء على الماء، قفزت قفزة واحدة وغرقت في الثانية، تلاشت في السواد، سواد امتزاج الليل والحزن في الماء. حتى هذا الفعل يعتبر كليشيهًا، قال لنفسه مرة أخرى.
تريثت نفسه هذه المرة قليلًا حتى وجدت التبرير المناسب، ثم ردت: الناس تأخذ الأمور على ظاهرها ولا تفكر ولو قليلًا في ما وراء هذا الظاهر، هل من الصدفة أن يتفق البشر في كافة أرجاء الأرض على هذا السلوك ويمارسوه كأي فعل غريزي؟ أن تقذف صخرة في البحر حين تحزن كأن تشرب الماء حين تعطش. أظن الموضوع يحمل عمقًا وجوديًا؛ إنها محاولة الإنسان لإعادة خلق الوحدة الأولى للكون، يقذف اليابسة على الماء، يلم شتات كل هذا التبعثر. كفى إنك تفلسف كل شيء، قالت له نفسه. “إنك تفلسف كل شيء” إنها التهمة نفسها التي اتهمه بها صديقه محمود في لقائهما الأخير والذي كان خاتمة صداقة استمرت أربعة عشر عامًا. ها هي التهمة ترسبت في وجدانه وتعيد بصق نفسها في وجهه كلما حاول أن يستخدم عقله.
أنهى محمود سندويشة البرغر وبدأ بأكل البطاطس المغلية في المقهى الذي كان سقفه عبارة عن مظلة من الكيربي الأبيض وحيطانه من النايلون شبه الشفاف الذي لا يحجب الخارج ولا يتيح رؤيته. بامتعاض نظر إليه إسماعيل وزم شفتيه قاصدًا أن يظهر رفضه لهذا السلوك. توقف محمود عن الأكل وترك البطاطا معلقة بين فمه والطاولة: شفيك؟
- ما تعرف تاكل! في إنسان عاقل ياكل البرغر بروحه، ولما يخلص يبدا ياكل البطاط؟
- ما أعتقد الموضوع له علاقة بالعقل.
- الفكرة من ربط البطاط مع البرغر في وجبة وحدة هي الموازنة بين البروتينات والكاربوهيدرات. البرغر بروحه ما يشبّع، ومن غير الصحي الإكثار من اللحم، فكان البطاط هو الحل اللذيذ لهذي المعضلة. لقمة برغر ولقمة بطاط.. وتكون اللقمة الأخيرة برغر، لأن من البديهي ترك الأفضل إلى النهاية.
- أولًا أعتقد إن الخبز اللي مع البرغر كفيل بتحقيق الموازنة الي حضرتك طرحتها كنظرية علمية. ثانيًا الموضوع ذوق يا أخي، بس إنت تحب تفلسف كل شي.
أكمل محمود تناول وجبته، غاص إسماعيل في هاتفه متنقلًا بين فيسبوك وتويتر وسنابشات وانستغرام كممارسة روتينية يجب القيام بها كل نصف ساعة. كرة زجاجية من الصمت والتوتر حجبتهما عن كل الضوضاء المحيطة بهما في المقهى: ولعة يا معلم. أربعة سوريين يلعبون الورق ويستخدمون مصطلحات لا يفهمها الكويتيون؛ ديناري وبستوني وكبي وطرنيب وجدال مستمر بصخب كواحد من مشاهد صراعات مسلسل باب الحارة.
صوت يوسف سيف يتسلل من ثمانية تلفزيونات تاركًا التعليق على المباراة ومنشغلًا بالتغزل بجمال مشجعة إيطالية. عجوز بشارب مصبوغ ودشداشة غير مكوية يوبخ عامل المقهى: الدنيا تحترق حروب وذبح وانتوا مشغلين مباراة.. حطوا لنا أخبار يا أخي خنشوف العالم شيصير فيه. أربعة شباب يجلسون على نفس الطاولة ويحدثون بعضهم البعض من خلال سماعات الهاتف في حوار استراتيجي لكسب المعركة الحربية الناشبة في هواتفهم في لعبة “PUBG”: طلقات شباب أحتاج طلقات، قواد في سنايبر فوق المبنى ديروا بالكم، شباب نحتاج سيارة شباب يا شباب بسرعة نروح الزون. ومحمود وإسماعيل منفصلان عن كل هذا الوجود الذي حولهما إن صحت تسميته وجودًا. وضع إسماعيل هاتفه على المقعد بجانبه وأوصله بالشاحن. أشعل سيجارة ونظر إلى محمود الذي كان يعبث بإصبع رجله وعيناه لا تنظران إلى شيء. سحب سحبتين متتاليتين من دخان السيجارة وقال بصعوبة لمحمود:
- شفيك؟
- شفيني؟
- ما أدري، إنت قولي..
- ما فيني شي.
مسك محمود هاتفه معلنًا عدم رغبته في الاستمرار في النقاش. أشعل سيجارة. أنهى إسماعيل سيجارته وأشعل ثانية. أنهاها وأشعل ثالثة. سحب بشدة كمن يريد ملء كل الفراغات داخله وأعاد سؤاله هذه المرة بانكسار:
- خلصني شفيك.
- شقيتني! شفيك وشفيك.. شفيني؟
- شصاير؟ شفيك متغير؟ أتصل عليك ما ترد. أكلمك واتساب ترد علي بقدر السؤال. مو ملاحظ التوتر الي بسوالفنا؟ صاير ما تتقبل شي وعلى أقل مزح تتنرفز وتحول الموضوع جد.
نظر محمود في عيني إسماعيل ثانيتين، أشاح بوجهه مسافة قليلة متحاشيًا تلاقي العينين. أشعل سيجارة وقال وهو ينظر إلى دخانها:
- تعبت يا أخي. أربع وعشرين ساعة متشائم، حزين، كآبة ونكد. أربعتعش سنة أحاول أسحبك من حفرتك وتحاول تسحبني معاك الحفرة. عندي حياتي، عندي أحلامي، عندي مشاريعي.. أحتاج أنطلق وإنت مثل الثقل متعلق برجلي وتسحبني لي تحت. ما أعتقد إن صداقة مثل هالنوع ممكن تستمر. هذه علاقة مو صحية.
تسللت دمعة من عين إسماعيل وهو يعلم تمامًا أن في مثل هذه المواقف لا يجب أن تتسلل دمعة. قبل أن يأتي إلى المقهى كان قد تهيأ تمامًا لخوض هذا الحوار ووضع خطة لكل السيناريوهات المحتملة. لم يكن أبدًا يحسب حساب هذه الإجابة الصريحة والسريعة كلطمة. استسلم لضعفه وتيقن أن لا موضع له غيره، قال متماهيًا مع هذه الحقيقة:
- انزين كان المفروض تقعد معاي تكلمني.
- ما أظن في جدوى من الكلام.
أكملا جلستهما في المقهى. ساعتان من الصمت والتدخين. وضع إسماعيل عشرة دنانير على الطاولة ورحل. قذف صخرة أخرى في البحر وقال لنفسه: رغم كل قراءاتي للروايات والكتب الفكرية، رغم كم المسلسلات والأفلام التي شاهدتها، رغم كل الوعي الذي أمتلكه، لم أتصور يومًا أن صداقة بهذه المتانة من الممكن أن تنتهي بسبب تعليق على وجبة برغر. أتخيل حياتي لو كانت فيلمًا.. كم هو مذهل انعطاف الأحداث فيها، إنها أبعد ما تكون عن الكليشيه.