إيتيل عدنان: أنا دمشقية يونانية
إيتيل عدنان شاعرة وفنانة تشكيلية من سوريا تكتب بالإنكليزية وتقيم خارج سوريا منذ أكثر من أربعين عاما، وإقامتها بين مدينتين كاليفورنيا وباريس. هي ابنة لأب دمشقي هو آصاف عدنان قدري كان ضابطا في الجيش العثماني وأم يونانية مولودة في أزمير هي روز ليليا لاكورتي. عاشت ردحا من طفولتها في بيروت، وربيت في ظل هيمنة اللغة الفرنسية على العربية في الاستعمال اليومي لعائلات ميسورة. درست الأدب الإنكليزي وهاجرت إلى فرنسا أولا، ثم اتجهت إلى أميركا حيث تخصصت في الفلسفة، وعملت أكاديمية في إحدى الجامعات الأميركية. أطول إقامة لها كانت في أميركا، وهناك أصدرت جل أعمالها الشعرية. الحوار معها جرى في لندن أثناء توقفها في رحلتها السنوية بين كاليفورنيا وباريس. ما سلف كان المقدمة القصيرة التي وضعتها لحواري هذا مع إيتيل عدنان الشخصية الفريدة من نوعها بين مبدعي الشعر والرسم وكنت أجريته معها قبل ربع قرن من اليوم عندما كنت أحرّر مجلة “الكاتبة” في لندن مطالع التسعينات. صداقة شعرية من نوع خاص ربطتني بهذه الشخصية الطفولية إيتيل عدنان بعدما فاجأتني ذات يوم بإنجازها عملاً فنيا كبيرا مستوحا من كتابي “مجاراة الصوت”. عرضته في عدد من متاحف العالم، من نيويورك إلى جنيف، إلى باريس، ، وكانت آخر محطة له في معرض لندني. وبعد العرض أهدتني العمل الذي يشبه الأكورديون. واليوم أعترف بألم أنني فقدت تلك النسخة اليتيمة. ولم أتمكن من أن أكشف الأمر لهذه الفنانة والشاعرة الكبيرة بأن العمل الفني الذي أنجزته وأهدته لذلك الشاب الطائش الذي كنت لم يعد موجوداً. الشعراء كائنات طائشة. لكن هذا الحوار معها كان فوزا بليغاً. فلم يسبق لي أن قرأت أو أنجزت حوارا مع شاعرة أو شاعر يتحدث بالطريقة العميقة والبسيطة بساطة آسرة كتلك التي تتحدث فيها إيتيل عدنان عن الشعر والشاعر والكلمات وعن الفن والفنان والعالم. شيء لا يشبهه إلا العمق الطفولي المذهل في الشعر نفسه. لن أضيف أكثر، ولكن أترك صوت الشاعرة يتكلم.
الجديد: كيف تنظرين إلى الخيط الفلسفي الذي ينظم عملك الشعري “كتاب البحر” الصادر مؤخرا في ترجمة عربية، وهو عمل كتب في فترة مكبرة. هل توافقينني، من الأساس، على وجود مثل هذا الخيط في شعرك عموما؟
إيتيل عدنان: شعري الأول في “كتاب البحر” كتبته قبل دراسة الفلسفة. درست أولاً الأدب ثم تخصصت في الفلسفة. وفي أميركا عملت أستاذة للفلسفة في إحدى الجامعات على مقربة من سان فرانسيسكو. “كتاب البحر” وضعته قبل أن أبلغ العشرين. ولا بد أن يكون اختياري الفلسفة مبنيا على رغبة وأساس طبيعيين، وبالتالي مبكّرين. وهذا الاهتمام ركز اجتهادي في فقه الكون. قبل بضع سنوات كنت مريضة جدا، وخفت أن أموت. والآن أتذكر شفقتي على نفسي من الموت، لأنني كنت أحس وأعتقد بعمق وقوة أن الكون سيخسر بموتي صديقا كبيراً. هذا ما كنت أشعر به. أحب الكون. منذ صغري أحببت الطبيعة، السماء والشمس والقمر والزرقة العميقة. أبي كان ضابطا سوريا من دمشق في الجيش العثماني. درس إلى علومه الحربية اللغة والفلك والجغرافيا، وكان مثقفا مطلعا نال قسطا وافرا من معارف مختلفة. في صغري كان ينبهني إلى ظواهر الطبيعة وموجوداتها. ومازالت صورة إشاراته وملاحظاته المحرضة مطبوعة في ذاكرتي، كأن ينبهني إلى القمر، قائلا: انظري إليه، لا أحد يستطيع الوصول إلى هناك. القمر كان صورة مجسمة للمستحيل. الشيء الآخر الذي أحببته كأكثر ما أحببت كان البحر.
الجديد: أيّ بحر؟
إيتيل عدنان: بحر بيروت. كنت أسبح في سن الرابعة، وكنت، مذ ذاك، أشعر وأحس أنني أسبح في وجود مطلق. وأنا، أيضا، من برج الحوت. قبل عشر سنوات كتبت في شعري ما معناه “ما أحببت الرجل لأنني أحببت البحر أكثر من حبّي للمخلوقات الأخرى”. وكما ترى فإن الإنسان يكتب ثم يدرك لاحقا الدلالة الخاصة لما كتب. ولكن هذه حقيقة شعرية وليست حقيقة إنسانية. نحن نحتاج لأن نفرّق بين ما هو حقائق شعرية وما هو حقائق إنسانية لئلا يبطل التمييز بين الواقع والفن.
على قدر حبي للبحر كنت مهجوسة بالرغبة في الوصول إلى الماء، وكنت أتابعه وأوخذ إليه من وراء الأبنية عبر الشوارع التي تحجبه وتلك التي تفضي إليه. ولم تكن عيناي فقط تتوقان إلى البحر، وإنما جسدي كله بكامل كيانه كان يستشعره وينجذب إليه. منير العكش، لو كنت تعرفه، قال لي، بعد قراءة “كتاب البحر” إن في هذا الشعر نظرة إلى البحر لا تماثلها إلا نظرة الإغريق إليه، شعره يعكس في القارئ إحساسا بحركة البدء، ويجسد شيئا من صور الخلق في الكون، عندما كان الوجود ما يزال سديما. وفي نظري هو كتاب يجسد زواج الشمس والبحر.
شعري لا يخرج من تاريخ الشعر، وإنما من خبرة الكائن الفطرية، ومن تفكره في الوجود بصفاء. لذلك أحس عندما أكتب أن الدنيا تتحول إلى وجود جديد. أكتب بلا ذاكرة أدبية. وهذا النمط من العلاقة مع الكتابة بدأ مع كتابي الشعري الأول، ورافقني خلال أعمالي اللاحقة. إنه ينطبق على كل ما كتبت.
الشعر والحقيقة
الجديد: هل يقدم الشعر، في رأيك، حقائق عن الوجود؟ هل مطلوب من الشعر أن يقدم أيّ حقائق؟ وإذا كانت الحقائق الاجتماعية في جلّ ما نستعرضه عبر التاريخ هي حقائق مضادة للإنسان وملوثة لوجوده، إن لم نقل مدمرة، خصوصا عندما تصدر عن خلل في الميزان الإنساني لصالح القوة المتسلطة والأنانية والشرسة، عند ذاك ما هي حقائق الشاعر وحقائق الشعر؟
إيتيل عدنان: إذا كان هناك شيء اسمه الحقيقة فهي موجودة أصلا وأساسا في الفن. الشخص يستطيع أن يكذب، لكن الشعر لا يكذب. الشعر يخرج من الأعماق، ممّا قبل الفكر. في أوقات، على المرء أن يكتب حتى يعرف بم يفكر، بالكتابة يجد الكائن حقيقة ذاته، ومن حقيقة الذات يمكنه العثور على حقيقة أكبر. ولكن إذا لم يبدأ المرء من الذات، فهو لن يصل إلى أيّ حقيقة.
شعري لا يخرج من تاريخ الشعر، وإنما من خبرة الكائن الفطرية، ومن تفكره في الوجود
الجديد: ولكن هل يمكن تعيين وتسمية حقائق الشعر؟
إيتيل عدنان: هي الشعر نفسه. الشعر ليس ترجمة لأيّ حقائق مفترضة. ويجوز أن تكون هناك حقائق بلا أيّ فائدة. وإذا حاول المرء مع الشعر بحثا وتفسيرا لكل شيء إذ ذاك سوف تتبدد الحقيقة. فالشعر كالموسيقى. الموسيقى لا يمكن ترجمتها في كلمات. كذلك الشعر فالشعر لا يترجم.
الجديد: الشعر يكتب بالكلمات. والكلمات لها دلالات تاريخية واجتماعية وإنسانية مختلفة. وهذه لا يستطيع الشاعر تجنبها، أو تجاهلها. كيف إذن تصير كلمات سابقة على الشاعر كلماته وحده؟
إيتيل عدنان: هنا المشكلة الجوهرية في الكتابة. فالشعر موجود بين الكلمات كأدوات استعمال للجميع، والكلمات كأدوات خاصة.
الجديد: أين تكمن، إذن، الحياة الخاصة للكلمات؟
إيتيل عدنان: الكلمات شيء مثل الأرض التي نمشي عليها حفاة. وقصائدنا هي آثار خطواتنا على تلك الأرض.
قوة الشعر
الجديد: هل الشعر قوة؟
إيتيل عدنان: نعم، قوة.
الجديد: كيف؟
إيتيل عدنان: في التاريخ، نعرف أن الشعر طالما أخاف السلطة منه. لذلك دأبت السلطة على محاولة شراء الشعراء. خطورة الشعر أنه يخرج من روح ويصل إلى روح. لذلك فإن السلطة الطاغية تخاف سلطة الشعر، لأنها غير مرئية. وكل ما هو غير مرئي يبعث على الخوف. الشعر له مفعول المنوم المغناطيسي، والسلطة خير من يدرك ذلك. هناك أناس يغيرهم الشعر دون أن ينتبهوا. إنه في ظني عمل مباشر. ترى رجلا جبارا يسمع الشعر فيذوب لشيء فيه ليس يدركه.
الجديد: هل إنه لو أدرك لكفَّ عن أن يكون جبارا؟
إيتيل عدنان: ربما. ففي كل إنسان، مهما كان سيئا أو شريرا هناك نقطة بعيدة متوارية تمثل إنسانه البريء. إلى تلك النقطة في نفس الكائن يذهب الشعر، ويصل. وهناك يفكك ويهدم الجدران في الكائنات.
الجديد: لكن الشعر، كما يخيل إليّ أحيانا، يصدر من منطقة الخلل، من انكسار، أو من لحظة ضعف قوية. إذن كيف يقيض للشعر أن يكون قويا؟
إيتيل عدنان: الشعر يملك قوة الحقيقة، وليس هناك شيء ثوري أكثر من الحقيقة. الحقيقة تخيف الناس. وحقيقة الضعف تخيف أكثر من أيّ حقيقة بشرية أخرى. لذلك فإن حقيقة الضعف بالغة القوة. الناس غالباً ما يخافون الوقوف أمام المرآة. وإذا تكلم امرؤ على ضعفه، فهو في اعتباري شخص أقوى من شخص آخر يستعرض قوّته، ويباهي بها، أو يدعيها. إنه شخص لديه قوة أن يرى الدنيا كما هي في جوهرها العميق. وفعل كهذا يحتاج إلى قوة عقلية وروحية كبيرة حتى يسمو في الضعف. أصعب شيء أن تسمّى الأشياء بأسمائها مهما كانت هذه الأشياء بسيطة أو عظيمة. الشعر يسمّي. الشعر يمنح الاسم.
الكلمات والألوان
الجديد: كشاعرة تكتب وتشكّل بالكلمات، وفنانة ترسم وتلوّن، أيهما الأكثر تمثيلا للروح الفني لديك والأكثر قربا من نفسك وأقدر على التعبير عن هذه النفس بالأقل من الحواجز، الشعر أم التشكيل؟
إيتيل عدنان: لا أعرف، حقيقة. أنا أكتب قبل أن أرسم. والكتابة والرسم بداهة إذ يصدران عن روح واحدة إنما يعبران بوسائل مختلفة عن هذه الروح. لا أعتقد أن أحدا يمكنه الكشف عن كامل العلاقات بين الفنين. نحن نقوم بعمل أشياء كثيرة لا ندركها. نحن، مثلا نمشي، ولا نعرف ميكانيكا المشي في جسمنا. حتى الأخصائي لا يعرف على نحو نهائي. هناك سر دائما. حقيقة نحن لا نعرف. نحس ذلك في جسدنا. كيف مثلا يبدأ طفل صغير، فجأة، في المشي. في الكون أسرار كثيرة، ونحن لا نعرف إلا القليل القليل من الحقائق.
الجديد: هل يعني ذلك أن النقاد، مثلا هم مجرد قراء قد يصدرون أحيانا عن وهم أو قصور، وبالتالي ليس علينا أن نأخذ قراءاتهم على أنها صائبة باستمرار؟
إيتيل عدنان: تماماً. ولو نحن عدنا إلى الذات الفنية المنتجة لنوعين من الفن، فإن ما ينتج عنها شيء تصعب المفاضلة ما بينه. لأننا بصدد متع مختلفة. الكتابة مثلا صعبة للجسم، لأن الذي يكتب يجلس غالبا في وضعية قد لا تكون مريحة للجسم، بينما الفن التشكيلي كالرياضة، معه يدخل الجسم في عمله أكثر مما يدخل في الكتابة، وبالتالي تحقق الفنان في عمله يكون أكبر. ومن الطبيعي أن تكون العلاقات بين الكلمات والرسم متغيرة من فنان إلى آخر. مثلا بول كلي ودولاكروا كتبا، ولكن كتابتهما كانت إما عبارة عن يوميات، أو نظرات فلسفية. أيضا فإن فان غوغ في رسائله كان كاتبا عظيما ولم يبرع فقط في الفن، وعلى الرغم من أنه يتساوى مع كلي في قدرته الفنية وتأملاته الفلسفية، إلا أنه كان مختلفا عنه كثيرا في فنه، فقد سعى فان غوغ وراء حقيقة مزدوجة أن لا يرسم وكفى، وإنما أن يرسم ليكون نقيا وميتافيزيقيا في لوحته وكتابته سواء بسواء. بينما نجد أن بول كلي يصب مشاعره وتأملاته وأفكاره كلها في لوحته. إنه يفكر في الرسم، يستعمل الخطوط والألوان ككلمات توصل معنى فلسفيا، بخلاف فان غوغ الذي يرسم ليصبح أنقى.
الجديد: وماذا عنك بين الكلمات والألوان، أيّ فلسفة تناسبك لرسم العلاقة بينهما؟
إيتيل عدنان: في البداية لم يكن في وسعي التوصل إلى خلاصات فكرية بصدد ذلك، لكنني لاحظت لاحقا أن هناك وجهين يتبادلان الظهور في شخصيتي ويعبّران عن نفسيهما في كتابتي، الأول مأساوي، والثاني فلسفي. بينما يأخذني حب السعادة والرغبة في نيلها إلى الرسم. أنا أسعد عندما أرسم. الرسم هو الشيء الذي يسعدني.
الجديد: ألهذا السبب نحن لا نجد مثيلا لرسمك إلا لدى الأطفال؟
إيتيل عدنان: ربما، أعتقد ذلك. علما أن هذا يمكن أن يوهم بأن رسومي سهلة. بينما هي أقرب إلى الفطرة، والبساطة العميقة التي تصدر عن تمثل للطبيعة الأولى.
شعرية الانكسار
الجديد: ما رأيك بشعرية الانكسار حيث خصال الحزن تولّد التأمل والرومنطيقية في الكتابة؟
إيتيل عدنان: الانكسار موجود في كل كائن. ما من إنسان إلا وفيه شيء ما من الانكسار، ما من حيوان غير منكسر، ما من طبيعة غير منكسرة. حزن الأطفال فيه انكسار، أول فقد يقدم تجربة في الانكسار. أكثر من ذلك، هناك الموت، نحن في حياتنا نموت مرارا. وما من أحد يمكن أن ينأى بنفسه بعيدا عن الموت، وألمه. هكذا هي الحياة. ولربما يكون انكسارا كبيرا لسبب صغير. عندما يضيِّع طفل كرةً تتولد في الطفل دواعي الانكسار.
الجديد: أظن أن ما من أشياء صغيرة في العالم. الأشياء الصغيرة هي أشياء كبيرة ما دام المكون الجوهري للجزء هو نفسه في الكل.
إيتيل عدنان: تماماً. عندي، مثلا، أن من يحب شخصا ولا يتمكن بدوره من نيل حبه يبلغ شيئا من الموت. في عالمنا العربي، مثلا، كل شيء يولِّد الانكسار لأبنائه. كذلك ما من عالم في النهاية من دون انكسار، لأن القوة المسيطرة لا تؤمن بالحق الإنساني، ولا بحاجة الإنسان إلى العدالة والحرية. الانكسار إذن لا يصيب الشاعر المرهف وقصيدته فقط، وإنما يصيب البشر كلهم.
شيء آخر. القوة ليست هي المهمة. وإنما الشرف، مهما كان المرء فقيرا أو سجينا، إذا كانت حريته باقية في أعماقه فهو قوي. القوة هي الشريف والمشرّف في الإنسان. ومهما يفعله جلاد لسجين إذا بقي لدى هذا السجين ما لم يتمكن الجلاد من الوصول إليه في أعماقه، فإن القوة هي هذا الشيء الذي بقي هناك.
الجديد: هل هناك معنى تطلبينه من الشعر؟
إيتيل عدنان: لا، أبدا، إلا بمقدار ما هو معنى يعبر عن وحدة النفس وانسجامها وصفائها وصدقها. بعد ذلك في الشعر لكل طريقته ورؤيته.
الهوية واللغة
الجديد: أنت شاعرة سورية الأصل، وإنجازك الشعري بمجمله موضوع في اللغتين الإنكليزية والفرنسية. على صعيد الهوية أنت في الشعر كائن مهاجر من ذاته اللغوية الأولى إلى ذات أخرى. إلى أيّ مدى خرجت هذه اللغة (الأخرى) على يدك وفي شعرك من كونها (أخرى) ودخلت فيك لتصبح لغتك الفاعلة في الأعمق من نفسك. السؤال هنا حول إشكالية الهوية.
إيتيل عدنان: أنا فعلا أنظر إلى نفسي على أنني شاعرة عربية في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وهذه مشكلة أعيشها، وهي بلا حل. في طفولتي ذهبت إلى مدارس فرنسية في بيروت وكانت الراهبات اللبنانيات ضد اللغة العربية، ويرفضن تعليمها لنا. في البيت أمي يونانية وأبي كان مضطرا إلى استعمال اللغتين التركية والفرنسية في حديثه معها. هكذا لم أسعد بأن أتكلم العربية وأجيدها كتابة.
الجديد: ألم يحاول والدك تلقينك العربية أقله عن طريق المحادثة؟
إيتيل عدنان: للأسف لا. لأن أبي كان ضابطا في الجيش العثماني وأمي أجادت التركية لكونها عاشت في إزمير، محادثاتهما كانت غالبا، وباستمرار بالتركية. أمي من جهتها كانت تخاطبني باليونانية. بعد ذلك، الجو في بيروت كان فرنسيا. العربية التي أتكلمها الآن تعلمتها من الشارع أولا، ومن ثم في بيت أهلي في الشام (تقصد دمشق). لاحقا كان شاقا عليّ أن لا أتمكن أبدا خلال إقامتي في أميركا أن أكتب إليهم بالعربية، وهم لا يجيدون لغات أخرى غير التركية والعربية، وتسبب ذلك في انقطاع صلتي بهم. أعتقد أن الإعراض عن تعليم العربية في بيروت، آنذاك، كان خطأ كبيرا بحق الناشئة. كان عليهم أن يعلّموا الأطفال العربية أولا ومن ثم يتركون لهم اختيار لغة أخرى.
الجديد: ما اسم عائلة والدك؟
إيتيل عدنان: قدري. ولكن في الشرق عادة التكني باسم الجد. اسم والدي كان آصاف، وجدّي كان اسمه عدنان. اغترابي في فرنسا أولا ومن ثم في أميركا بعد إقامتي في بيروت، وعملي كأستاذة في جامعة أميركية لأكثر من ثلاثين عاما، جعلني أركز بشكل نهائي على استيعاب اللغة الإنكليزية وإجادتها على نحو يمكنني من التعبير عن نفسي شعريا وأدبيا بمستوى يرضيني، لم يكن في وسعي تحقيقه بالعربية. والآن لا أظن أن لديّ مشكلة مع اللغة. إنما لديّ حزن كبير لكوني لا أجيد العربية التي أحبها وأقدرها كلغة هائلة.
على أنني في النهاية أعتقد أن الأصل هو ما تفضله أنت كشخص مفرد. في كل الحضارات هناك من كتب بلغات أخرى. في أيام الحضارة العربية العظيمة كان هناك من العرب من يكتب بالفارسية والتركية وحتى اليونانية، وهناك فرس وأتراك كتبوا بالعربية أو كتبوا باللغتين. اللغة بالغة الأهمية بالنسبة إلى الهوية، لكن الأمانة في التعبير عن أعماق الكائن بواسطة أيّ لغة هي المدخل الحقيقي إلى الهوية.
خطورة الشعر أنه يخرج من روح ويصل إلى روح. لذلك فإن السلطة الطاغية تخاف سلطة الشعر، لأنها غير مرئية
الهوية ليست دائما شيئا أصليا مصدره الخارج، إنها ذلك الشيء العميق فينا بالمولد والاكتساب أيضا. هناك من هم مزدوجو الهوية. هذه بحد ذاتها هوية. الهوية ليست شيئا فرديا بالتأكيد. ولكن أنت إذا كان لديك أربعة أولاد فأنت تملك بالضرورة طاقة على منح كل منهم على اختلافه حبك.
ليس هناك حضارة عرقية صافية. الحضارة العربية عظمتها أنها قامت على مزيج من حضارات. وكل حضارة مهمة هي كذلك. عبر هذا المنظور أرى فكرة الهوية. نعم، الهوية يمكن أن تكتسب بالاختيار. ومفهوم الهوية يختلف من زمن إلى زمن، ومن حضارة إلى حضارة ومن شخص إلى شخص.
الجديد: وماذا عن اكتسابها بالقسر؟ الكولونيالية الأوروبية انتهكت شعوبا وثقافاتها وحاولت أن تقمع خياراتها الخاصة في لحظات مفصلية من تاريخ تطورها عن طريق إكسابها ثقافة أخرى ولغات أخرى؟
إيتيل عدنان: هذا صحيح، وأنا أرى أنه جريمة اغتصاب جماعية لوجود هذه الشعوب وثقافاتها وخياراتها في وجودها. لذلك قلت إنني أعاني من ازدواجية الانتماء.
حب الجَمال
الجديد: ما اسم أمك؟
إيتيل عدنان: روز ليليا لاكورتي.
الجديد: مالأثر الذي تركته فيك هذه الأم؟
إيتيل عدنان: أمي لم تتعلم كفاية. توقفت عن الذهاب إلى المدرسة في سن الثانية عشرة. لكنها كانت نزّاعة إلى حب الجمال بهوس. في أوقات المطبخ كنت أراها وأسمعها وقد فرغت من تنظيف طنجرة الطبخ تقول: أصبحت تلمع كالقمر. كانت تحب الجمال في كل شيء، وتراه في كل شيء. منها تعلمت حب الجمال بدءا من الأشياء البسيطة والعادية. كانت سفرة طعامها ملونة دائما. مفرش المائدة كان مطرزا كغطاء السرير المطرز. كانت تنسج الستائر بالكوشيه وتسعد كثيرا بما تقوم به. لم تكن بورجوازية النزعة، لم أر امرأة مثلها مولعة بأشغال اليد. والدها كان نجارا.
أذكر أنها كانت تذهب إلى الخياطة، وتحب الفساتين الجميلة والبضاعة الحلوة في محلات المدينة، الحرير. رأيت أناسا في أميركا متعلمين كثيرا، وما كانوا يعرفون الفرق بين القطن والحرير، أمي كانت تعيش وتملك أن تعيش حياة الحواس، تلتذ بالفروق بين الأشياء، تلتذ بنظافة البيت، تفرح لأشياء صغيرة بسيطة.
أبي بدوره كان يحب السجاد، يتعامل معه كما نتعامل نحن اليوم مع اللوحات الفنية. أذكر أنه كان يذهب إلى سوق الحميدية في الشام ويزور بائع السجاد كما نذهب نحن في لندن أو سان فرانسيسكو إلى المتحف لتأمل اللوحات. كانت غايته جمالية بحتة. وكما نعتقد نحن أن تيرنر فنان كبير، كان بدوره يعتقد أن السجاد شيء كبير فنيا. العرب، للأسف، أضاعوا شخصيتهم، لم يعد في وسعهم تلمس الميزات الفنية الهائلة الكامنة في موروثهم المستمر الحي. وما دمنا نتكلم على السجاد، يخيل إليّ أن البعض منهم يظن أن السجاد غير مهم لمجرد أنه يمشي عليه. يريدون أن يقلدوا الغرب في كل شيء. الغريب أن الغربي يحترم شغل اليد ويقف مشدوها أمام السجاد كلوحات مذهلة. آباؤنا كانوا ينزعون أحذيتهم ليمشوا على السجاد. أناس العالم العربي اليوم كما اكتشفت، مرارا، لا يحترمون إلا المال.
فخّ اللغة
الجديد: من موقعك الثقافي بين أكثر من لغة كيف ترين الشعرية العربية بين الشعريات الأخرى؟
إيتيل عدنان: أحب الجيل الجديد من الشعراء. جيل مطالع الثمانينات، قرأت لكثيرين وأعتقد أن شعرهم أكثر عصرية وحداثة وجدة وشجاعة من شعر السابقين عليهم. المهم في هذا الشعر هو اختلاف الحساسية. هناك شيء يرجف فيه كما الشجر في الهواء. هناك بحث حقيقي عن الجديد. إنهم لا ينصتون إلى الماضي، إلى المعطى الثقيل القائم وإنما هم ينصتون إلى أنفسهم. لديهم إيقاعات جديدة تماما على الشعر، أعتقد أنها المصدر الثري لهذا الرجف الذي تكلمت عنه. الشعراء الجدد لا يتكلمون عن اللغة، وعبر اللغة كتاريخ موضوع، ولكنهم يستندون إلى تجاربهم الشخصية. لأن الشاعر إذا أعطى ثقته الكاملة إلى اللغة، هناك خوف عليه من أن يكتب بأوتوماتيكية، خصوصا أن اللغة العربية جميلة إلى درجة تمكّن من استخدامها بسلاسة آسرة، وجمال اللغة بهذا المعنى فخ للشاعر. أدونيس يتكلم عن جمال اللغة. وهو مثال في هذا السياق. لكن هذا فخ. لأنك تقول أيّ شيء فيبدو جميلا. على الشاعر أن يخاف من جمال اللغة. أشبّه جمال اللغة بسكة حديد تحمل عربة مندفعة. هذا شيء مخيف. الجميل المعاكس أن أكثر الشعراء الجدد لا يقعون في هذا الفخ. إنهم يبدأون من نفوسهم الجديدة وإلى نفوسهم الجديدة ينتهون.
أجرى الحوار في لندن: نوري الجرّاح