ابن خلدون ومكيافلي
هل يمكن مقارنة ابن خلدون الفيلسوف وعالم الاجتماع العربي وصاحب المقدمة الشهيرة بمكيافلي ابن فلورنسا وصاحب كتاب الأمير؟
هذا السؤال ليس جديدا، فقد خطر ببال المستشرقين وبحاثة التاريخ الأوروبيين الذين درسوا المقدمة وتبحّروا في تحليلات ابن خلدون وقراءته لتاريخ الأقوام والعمران وعلاقات المجتمع. والأبرز بين هؤلاء كان المستشرق الإيطالي استيفانو كلوزيو الذي وضع أواخر القرن الماضي دراسة مقارنة بين شخصيتي ابن خلدون ومكيافلي تحت عنوان مقدمة لدراسة ابن خلدون ساق فيها أوجه الشبه والاختلاف بين الفيلسوفين، متوصلا إلى اعتبار الأول رائدا لعلم جديد كان له قصب السبق في ارتياده ووضع أسسه، والمقصود به علم النقد التاريخي. ويأتي في ذلك قبل قرون من ظهور كل من مكيافلي ومونتسكيو وفيكو وثلاثتهم فلاسفة أوروبيون اشتغلوا في التاريخ ونقده وفي السياسة وعلومها، فأسسوا مذاهب، وكانوا رؤساء مدارس في هذه الميادين.
كشف المستشرق كلوزيو برجاحة فكر ووعي منفتح عن أبرز النقاط الخطرة التي يتميز بها فكر ابن خلدون ممهدا الطريق لظهور نمط جديد من التعامل مع الفكر الخلدوني بكسر قاعدة التجاهل بصدد ثقافة أهل الشرق، ويتعالى على روح التعصب التي سادت أغلب الدراسات حول المساهمات الرفيعة للشرقيين في الفكر الإنساني، وذلك من خلال رموز فكرية وعلامات أساسية في ثقافتهم. فنحن نجد في دراسة هذا المستشرق تقديرا قلّ نظيره للفكر الخلدوني وتفضيلا له على كل من جاء بعده من مفكرين أوروبيين في الميدان نفسه. فابن خلدون من وجهة نظر كلوزيو فيلسوف مؤسس وصاحب علم لا بدّ أن يرتبط ظهوره في دنيا الدراسات التاريخية باسمه، إنصافا للتاريخ والحقيقة معا.
أول ظهور لدراسة استيفانو كلوزيو مقدمة لدراسة ابن خلدون في العربية كان 5 أيار (مايو) من العام 1925 على صفحات أسبوعية “الميزان” الثقافية الجامعة التي أسسها في دمشق الناقد والمترجم الفلسطيني أحمد شاكر الكرمي الأخ الأكبر للشاعر عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، والابن البكر للشيخ سعيد الكرمي رئيس المجمع العلمي في دمشق، ومن ثم وزير المعارف في أول حكومة عربية في الأردن.
وكان أحمد شاكر قد ارتبط بصداقات أدبية واسعة مع النخبة المثقفة العربية واستقطب إلى مشروعه الصحافي الطموح أبرز الأقلام المفكرة والمبدعة ومن هؤلاء الأديب اللبناني عمر فاخوري مترجم هذه الدراسة التي ننشرها هنا لتكون في متناول القارئ العربي والباحث المتتبع للفكر الخلدوني.
وإذا كان الباحثون العرب والأجانب قد درسوا هذا المفكر الإسلامي خلال القرن العشرين، ولا سيما في النصف الثاني منه، الأمر الذي أدى إلى وضعه في المكانة التي يستحقها، وذهب بعضهم أبعد كثيرا في نبش فكره، وتظهير مفهومه للتاريخ، إلا أن ذلك لا يفقد هذه الدراسة أهميتها الريادية ورجاحة فكر صاحبها، فضلا عن كونها وثيقة مهمة للباحثين العرب المعنيين بابن خلدون.
قلم التحرير