استبعاد المثقفين التوانسة من الجدل السياسي
بدأ واضحا أن أغلب من اكتسحوا المشهد السياسي والإعلامي عقب السقوط المدوي للنظام يظهرون نفورا من المثقفين. لذا لم يتردّدوا في إعلان الحرب عليهم. فقد قامت الفرق السلفية بالهجوم على معارض للرسم، وعلى حفلات فنية، وعلى ندوات فكرية لتعتدي بالعنف الشديد على المشرفين عليها، أو المشاركين فيها. وفي بن قردان، على الحدود مع ليبيا، رفض قائد «إمارة» سلفية التحدث إلى المخرجة السينمائية سلمى بكار ناعتا إيّاها بنعوت قبيحة. ووصف حمادي الجبالي، وهو أحد أركان حركة النهضة الإسلامية، النخبة المثقفة بـ»المصيبة». وتهجم المنصف بن سالم، الذي كان وزيرا للتعليم العالي في حكومة «الترويكا» التي كانت تقودها حركة النهضة بشدة على جماعة «تحت السور»، وهي جماعة كان لها الفضل في بعث أول حركة أدبية حداثية كان لها دور أساسي في تطوير الثقافة التونسية في أغلب مجالاتها، خصوصا في الشعر وفي القصة، واصفا رموزها من أمثال علي الدوعاجي، ومحمد العريبي ب»الكحوليين الفاسقين». وفي مدينة الحامة، مسقط رأسه، قام مجهولون بمحاولة تخريب لتمثال المفكر الإصلاحي الطاهر الحداد الذي كان أول من أطلق في الثلاثينات من القرن الماضي دعوة لتحرير المرأة التونسية من القيود ومن التقاليد البالية. وعندما كان رئيسا مؤقتا، قام محمد المنصف المرزوقي بإصدار كتاب «أسود» يحاكم فيه أعدادا كبيرة من المثقفين والفنانين والمفكرين بدعوى أنهم كانوا من المتعاونين مع النظام المنهار. ولكي تثبت نفورها من المثقفين قامت حكومة الترويكا بتحريض من حركة النهضة بتخفيض ميزانية وزارة الثقافة لفائدة وزارة الشؤون الدينية. ولم تكن الحركات اليسارية مختلفة عن الحركات الأصولية والسلفية في رؤيتها للثقافة والمثقفين. وربما يعود ذلك إلى تشبثها بما سمّي في الثلاثينات من القرن الماضي بـ»الواقعية الاشتراكية». تلك الواقعية الجافة والسطحيّة التي تقسّم العالم إلى أبيض وأسود، والثقافة إلى ثقافة «في خدمة الشعب»، وثقافة «معادية له ولمصالحه». كما على المثقف أن يكون «ملتزما بقضايا الشعب». ومثل هذه النظرة إلى «الالتزام» تخرج من عالم المثقفين كلّ من يتمرّد على هذه القاعدة الضيقة التي اعتمادا عليها أعدم ستالين الكثير من الشعراء والكتاب والمفكرين، أو أرسلهم إلى محتشدات سيبيريا. وهذا ما فعله أيضا الزعيم الصيني ماو تسي تونغ خلال «الثورة الثقافية» سيئة الذكر. لذلك وجد المثقفون التونسيون المستقلون أنفسهم بعد سقوط نظام بن علي بين نارين: نار الأصوليين والسلفيين من جانب، ونار الدوغمائيين اليساريين من جانب آخر.
وعلى مدى السنوات الست الماضية، ظلّ المثقفون المستقلون يعانون من التهميش ومن الإقصاء. كما ظلوا مبعدين عن المشاركة في الجدل الدائر حول مختلف القضايا المتصلة بحاضر البلاد ومستقبلها. ولا يزال هذا الاستبعاد قائم الذات في هذه الفترة العصيبة التي تشهد فيها تونس اضطرابات وانتفاضات عشوائية خطيرة ونزعات قبلية وعشائرية قد تعصف باستقرار البلاد وأمنها. ويبدو هذا واضحا جليّا من خلال إحجام القنوات والإذاعات عن دعوتهم إلى برامجها، مفضلة عليهم مُروّجي الخطابات الشعبوية والديماغوجية التي ترضي أحزابا ومنظمات معروفة بشططها وتطرفها ونزعاتها الهدامة ورغبتها في أن تظلّ البلاد على كفّ عفريت! لذلك لم يعد من الغريب في شيء أن ترى نفس الوجوه في هذا البرنامج أو ذاك، وفي اليوم ذاته. فلكأن هذه الوجوه هي الوحيدة القادرة على المشاركة في الجدل السياسي. ولكأنها الوحيدة التي بإمكانها أن تفحص واقع البلاد في الحاضر وفي المستقبل. ويعلم المشرفون على القنوات التلفزيونية وعلى المحطات الإذاعية أن التونسيين ملوا هذه الوجوه، وهذه الأفواه الواسعة التي تعذبها على مدار الساعة بخطب مسمومة، منتفخة بالأحقاد، وبالديماغوجية القاتلة، وبالأيديولوجيات الهدامة المحرضة على إشعال الفتن وعلى المزيد من الخراب. مع ذلك، هي تواصل تأثيث برامجها بنفس هذه الوجوه! وهذا دليل على أن هدفها من كلّ هذا هو إرضاء أحزاب ومنظمات تسعى إلى»صوملة» البلاد، وإلى تحطيم الدولة المركزية. وقد تعالت بين وقت وآ خر أصوات مثقفين مستقلين تدعو إلى التهدئة وإلى حوار بناء ومفيد لإنقاذ البلاد من المخاطر الجسيمة التي تتهددها، إلاّ أن هذه الأصوات بقيت منحصرة في دوائر ضيقة بسبب انعدام الوسائل التي تسمح لها ببلوغ الجمهور العريض. فإذا ما نجح واحد من هذه الأصوات في اختراق الحصار، فإنه سرعان ما يتمّ إسكاته والتعتيم عليه. وما دام المثقفون المستقلون محكوما عليهم بالصمت وبالاكتفاء بالتفرج على ما يحدث في البلاد من أحداث خطيرة ومن مآس ومن هزّات ومن عواصف عاتية، فإن «ثورة الحرية والكرامة» سوف تظل بلا مدلول، وبلا مفعول، شأنها في ذلك شأن كلّ الثورات التي أطاحت بأنظمة فاسدة لتأتي بأنظمة أكثر منها فسادا واستبدادا.