استعادة نظام الأجناس الأدبية
تحدث الألماني إريك كوهلر عن التحولات التي يمكن عن طريقها أن يتأثر نظام الأجناس بالتغيرات الاجتماعية، فنظام الأجناس وفق كوهلر ليس “سلبيا”، بل يستطيع التأقلم مع الأوضاع الجديدة بفضل عمليات انتقاء بعض الخيارات التي يحتوي عليها والتجريب في الخصائص التي تميزه وتفضيلها لمواجهة تلك التغييرات؛ فاستطاع نظام الأجناس على سبيل المثال أن يستبدل التراجيديا بالملحمة لاتفاقها مع إرساء الحكم المطلق وتطلعات نبالة البلاط التي حلت محل نبالة السيف القديمة، ومع سقوط الحكم المطلق ظهرت البرجوازية كقوة ثقافية جديدة مسؤولة عن فكر التنوير، صاحبها صعود الراوية التي حلّت محلّ التراجيديا.
فمن الممكن أن تزداد قدرة بعض الأنواع الأدبية لتتبادل الأدوار مع أنواع أخرى خفتت في وضع اجتماعي بعينه وتتفاعل هي مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة، وقد يتكوّن نوع جديد يتفق شكلا وموضوعا مع تطلّعات جماعة اجتماعية تسعى للتحرر من قيود شكل أدبي، أو يمكن لأشكال هجينة أن تظهر في فترات انتقالية من حياة المجتمعات تسمح بنوع من التوازن النوعي مقابل أنواع أخرى مهددة بالاختفاء.
ولكي يكتسب كل جنس أدبي وظيفة اجتماعية خاصة ويتفاعل مع مصالح جماعية محددة، يجب أن توضع تلك الأجناس الأدبية داخل سياق اتصالي يتسم بالصراعات وبالحوارات الجدلية بين الأيديولوجيات المختلفة؛ فالأجناس الأدبية المختلفة يمكنها التعبير عن رؤيا جماعية للعالم في مواقف تاريخية بعينها، بوصفها شكلا فنيا يجسد معنى اجتماعيا معينا، مما يسمح بحقيقة استنتاج الترابط الوظيفي بين النظام الاجتماعي ونظام الأجناس الأدبية.
وإذا حاولنا استعادة هدف كوهلر الخاص بالترابط الوظيفي بين النظام الاجتماعي والنظام الأدبي أو نظام الأجناس، نجد أن الشعر هو اللغة العليا التي استخدمتها الأجناس الأدبية – المسرح تحديدا – أداة تعبيرية لها، إلى أن هجر المسرح الشعر واتجه إلى النثر في الفترة التي ازدهر فيها التيار الواقعي، وصعدت خلالها الرواية بمساحاتها المرجعية والتوثيقية وإشكاليتها “التيمية”، لكن هذا لم يلغي وجود الشعر الذي تكيف مع تحولات النظم الأجناسية والتغيرات الاجتماعية.
فإذا تمثلنا الشعر العربي، نجد أنه قد طرأت عليه تغيرات شكلية عديدة في العصر الحديث نتيجة لتحولاته الاجتماعية والتاريخية المتلاحقة؛ مع تقويض التيارات الفكرية الخاصة بمرحلة الحداثة، والتمرد على أيديولوجياتها المعتمدة على أحادية النسق وذاتيته، والانتقال إلى تعددية الأنساق وغيريتها؛ ليصبح التجريب في البناء الشكلي للقصيدة والتمرد على قواعد الكتابة التقليدية للشعر الخاضعة للوزن والقافية لخلق الإيقاع الشعري معادلا موضوعيا للتمرد على الأيديولوجيا التي تحكم مصالح مجتمع ما، بحيث تتخلى القصيدة عن تلك القواعد وتخلق لنفسها إيقاعا خاصا يتنصل من كل محاولة تقييد شكلية أو رؤيوية.
فتبادلت قصيدة التفعيلة الدور مع القصيدة العمودية التي خفت وجودها في شرط زماني ومكاني حالي وتفاعلت مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة، واتضحت معالم قصيدة النثر التي ظهرت كشكل هجين ونفت التعارض بين الشعر والنثر لتوجد باعتبارها نصا جامعا – بتعبير جيرار جينيت – له خصائصه النوعية وسماته الشكلية الجديدة.
يبقى أن نشير إلى دور المتلقي في انتقاء جنس أدبي وتفضيله على آخر، وهو ما يتوقف في الأساس على ما يمتلكه من خبرة اطّلاعية وذائقة فنية تؤهله لاستقبال النصوص والوقوف على معاييرها وإجراءاتها النوعية، فإلى جانب نظام الأجناس وعلاقته بنظام المجتمع، يمكننا اقتراح مصطلح إضافي وهو “نظام التلقي” الذي يتأثر بدوره بتحولات النسق الثقافي ويؤثر بالتبعية في ازدياد قوة جنس وتفوّقه على جنس آخر وفق ما يحدده له من قيمة جمالية وقوة أسلوبية تعبيرية، وحسب ما يلبي له من توقعات وما ينهض به من وظائف تخدم تطلّبات النظام الاجتماعي.
ناقدة وأكاديمية من مصر