استلهام‭ ‬التراث‭ ‬الفرجوي

الجمعة 2016/07/01
لوحة: رزان صباغ

تشهد‭ ‬كل‭ ‬الأقلام،‭ ‬الوطنية‭ ‬والعربية،‭ ‬على‭ ‬علوّ‭ ‬كعب‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬المسرحي‭ ‬العريق‭ ‬وتشيد‭ ‬بالتجربة‭ ‬العريضة‭ ‬التي‭ ‬خاضها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ترسيخ‭ ‬هوية‭ ‬مسرح‭ ‬عربي‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أصالته‭ ‬المفتقدة‭ ‬وربطه‭ ‬بتطورات‭ ‬المسرح‭ ‬العالمي‭. ‬وكانت‭ ‬ظروف‭ ‬سعيدة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬قادت‭ ‬هذا‭ ‬الفنان‭ ‬الرائد‭ ‬إلى‭ ‬المشاركة‭ ‬وهو‭ ‬يافع‭ ‬في‭ ‬التدريب‭ ‬المسرحي‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬أقامته‭ ‬مصالح‭ ‬الشبيبة‭ ‬والرياضة‭ ‬في‭ ‬غابة‭ ‬المعمورة‭ ‬خلال‭ ‬سنة‮ ‬1954‮ ‬تحت‭ ‬إدارة‭ ‬الفنيّ‭ ‬الفرنسي‭ ‬أندري‭ ‬فوازان‭.‬

وقد‭ ‬تميزت‭ ‬مشاركته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التدريب‭ ‬بالألمعية‭ ‬والنجابة‭ ‬التي‭ ‬أثارت‭ ‬انتباه‭ ‬القيّمين‭ ‬على‭ ‬التدريب‭ ‬ونالت‭ ‬إعجاب‭ ‬زملائه‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬عبد‭ ‬الصمد‭ ‬الكنفاوي‭ ‬والطاهر‭ ‬واعزيز‭ ‬وأحمد‭ ‬الطيب‭ ‬العلج‭. ‬وقد‭ ‬بلغ‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمواهبه‭ ‬أن‭ ‬عيّنه‭ ‬المخرج‭ ‬فوازان‭ ‬مساعدا‭ ‬له‭ ‬وأوكل‭ ‬إليه‭ ‬الإشراف‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬الورشات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقام‭ ‬على‭ ‬هامش‭ ‬هذا‭ ‬التدريب‭ ‬وما‭ ‬تلاه‭.‬

بإيعاز من والده الفقيه الصديقي صاحب كتاب «إيقاظ السريرة في تاريخ الصويرة»، سوف يسافر الطيب الشاب أواسط الخمسينات إلى فرنسا وفي نيّته أن يباشر دراسات في الهندسة المعمارية كان ذكاؤه وثقافته يؤهلانه لخوضها بكل نجاح أسوة بالشبيبة المغربية المتفوقة، ولكن ميوله الفنية والمسرحية تحديدا كانت أقوى وأشد تأثيرا من نصيحة الوالد بحيث جنحت به بعيدا عن الدراسة العلمية وجعلته يتوغّل عميقا في المجال المسرحي حيث اتجه إلى متابعة دروس في المسرح في مدينة رين تحت إشراف الأستاذ هوبير جنيو الذي مكّنه بعد ذلك من الانتظام في أهم فرقة مسرحية في ذلك الوقت وهي المسرح الوطني الشعبي الذي أسّسه وأداره باقتداره المعروف المسرحي الفرنسي جان فيلار.

وكان هذا الأخير قد اشتهر، إلى جانب إخراجاته اللامعة، بولعه الخاص باستمداد عناصر الإبداع الدرامي من أشكال الفرجات الشعبية ذات الملامح الدرامية بهذا القدر أو ذاك، وبميله الطليعي إلى استغلال النزوع الفطري للممارسة الاحتفالية لدى الإنسان في بناء عروض مسرحية لا تستلبها الأوفاق الكلاسيكية أو تحدّ من انطلاقها التعليمات الأكاديمية. وهو الأمر الذي سيؤثر في هذا المتدرب الشاب ويحفزه على مزيد من التطلع إلى اقتراح فرجات أصيلة لا تعاني من الاغتراب الفني أو الترهل المدرسي. وقد زاد جان فيلار على ذلك بأن نصحه، وهو يغادر فرنسا إلى المغرب، تلك النصيحة التي جعلها الصديقي خريطة طريق على مدى حياته الفني قاطبة، وهي دعوته إلى نسيان كل ما تعلّمه من نصوص وجماليات غربية والاحتفاظ منها فقط بالمعرفة التقنية.

وقد كان بودّ الصديقي أن يعمل بهذه النصيحة الذهبية عن طيب خاطر لولا أنه وجد بلاده ولغته وثقافته خلوا من كل تراث مسرحي أو تراكم درامي يستند إليه ويجعل منه نقطة انطلاقه، ولذلك سنجده بعد أن أسس فرقة المسرح العمالي سنة 1957 برعاية المركزية النقابية الاتحاد المغربي للشغل، وحتى قبل ذلك بقليل، يلجأ إلى الاقتباس من الريبرتوار العالمي الذي جعل منه ما يشبه المادة الخام لتجريب طاقته في المعالجة الدرامية وتقريب الذخيرة المسرحية الإنسانية من المشاهد المغربي وخاصة من تلك الفئات العريضة من العمال الذين كانت الفرقة تتوجه إليهم. وفي هذا السياق قدم الصديقي أعمالا درامية لافتة مثل «برلمان النساء» لأرستوفان و»الوارث» لرينيار و»المفتش» لغوغول و»بين يوم وليلة» لتوفيق الحكيم وغيرها من الأعمال الرائدة في تاريخ المسرح الكوني.

غير أن هذه التجربة الاستثنائية لم يقدّر لها أن تستمر لأطول من سنتين بسبب الاحتقان السياسي والحراك الاجتماعي الذي كان يعيشه مغرب ما بعد الاستقلال آنذاك والذي انعكس بقوة على أداء هذه الفرقة مما حمل الصديقي، الذي كان ما يزال شابا تجاوز بالكاد العشرين من عمره، على الانسحاب من هذا المعترك الشائك واختيار العودة إلى فرنسا لاستكمال تكوينه وصقل مواهبه والاحتكاك بالأوساط المسرحية.

وبعد أن عاد إلى المغرب في موسم 1960-1961، وفي أعقاب تجربة قصيرة في المركز المغربي للأبحاث المسرحية، سيتفرغ الصديقي لتأسيس فرقة أخرى سيطلق عليها اسم «المسرح البلدي» لاتخاذها من هذه البناية مقرا لها، ويجترح مجموعة من التجارب الدرامية التي واصل فيها الاعتماد على الاقتباس حيث سيقدم تباعا مسرحيات «قصة الحسناء» عن الكاتب جان كارول، و»مولاة الفندق» عن كارلو كولدوني، و»محجوبة» عن مدرسة النساء لموليير.

في سنة 1965 سيعيّن الصديقي مديرا على هذه المؤسسة المسرحية العتيدة المسماة المسرح البلدي وتصير فرقته اسما على مسمى. وينخرط في تجربة تستمد من التراث المغربي موضوعها وأشكالها في إشارة لامعة إلى ما سيؤول إليه مساره من انكباب على الموروث المحلي واستمداد ما فيه من جمالية خبيئة. وسوف يقدم خلال هذه المرحلة العمل الرائد «سلطان الطلبة» الذي ألّفه رفيقه عبدالصمد الكنفاوي اعتمادا على الفرجة الطلابية الشهيرة التي تعتبر من صميم التقاليد الكرنفالية المغربية، ومسرحية «سيدي ياسين في الطريق» التي تشخص الصراع التقليدي بين نشدان الحداثة والانشداد إلى التقاليد البالية ممثلة هنا في تقديس الأولياء. ومسرحية «مدينة النحاس» التي استلهمها أخوه السعيد الصديقي من إحدى الحكايات الفانطستيكية لألف ليلة ولية.

وكان قبل ذلك بقليل قد أتيح له أن يسير بالمسرح المغربي نحو انعطافة انقلابية بكل المقاييس والتي تمثلت في خوض تجربة مسرح اللامعقول الذي كان يشكّل حقبتئذ قطبا جاذبا لكل المسرحيين الطليعيين في العالم. وستثمر هذه الانعطافة مجموعة من العروض التي رسخت في ذاكرة المشاهدة المغربية مثل «مومو بوخرصة» التي اقتبسها عن «أميديه أو كيف التخلص منه» لأوجين يونسكو، و»في انتظار مبروك» عن «في انتظار غودو» لصاموئيل بيكيت.وقد نجح هذا الفنان في الارتحال بمسرح العبث إلى بيئتنا ومناخنا بكامل خوائه ومرارته، وقد تمّ له ذلك بالمحافظة له على فلسفته العامة التي تقوم على الضحك المأساوي والتجريد والتهويم الميتافيزيقي، وزاد على ذلك بأن شحنه بجو ساحر من السخرية والأداء اللّعبي، فبدا وكأن الصديقي يقدم قراءة جديدة تقوّي من طابع اللامنطق واللايقين وتشدّد على مبدأ التناقض الذي يسود في هذا اللون الدرامي حريف النكهة.


لوحة: بهرام حاجو

وكما لو أنه كان يرغب في الالتفاف على الدائرة من جديد، ستعقب هذه التجربة غير المسبوقة في التعاطي مع المسرح الأوروبي الطليعي التفاتة من الصديقي إلى الموضوعات التاريخية التي تعيد إلى الأذهان جذور المسرح الملحمي باتجاهها إلى تأصيل لحظات من التاريخ الوطني للمغرب والمغاربة. وسوف يدشن هذا المسار الاسترجاعي سنة 1963 بمسرحية «معركة الملوك الثلاثة» التي تسجل لحظة انتصار دولة السعديين على جيوش الغزاة المسيحيين ومَن يؤازرهم. ويتواصل هذا المنحى في مسرح الصديقي بنوع الإلحاح والتصميم عبر مسرحيات «المغرب واحد» سنة 1965، و«المولى إسماعيل» سنة 1968، و»معركة الزلاقة» سنة 1970، و«المولى إدريس» سنة 1974.

وعودة إلى استلهام نصيحة جان فيلار التي تدعوه إلى التعلم من شعبه فنون الأداء والتوقف عن اقتفاء أثر المسارح الأكاديمية سيسعى الصديقي إلى الجمع بين النزعة التسجيلية الوثائقية التي ميّزت مسرحه التاريخي، وتوظيف الأشكال التعبيرية التراثية والتقليدية وخاصة منها فن الحلقة الذي ساعده على خلق مسرح شامل يقطع مع النمط الإيطالي الكلاسيكي للتشخيص ويعانق أسلوبا جديدا يخصّب تجربة التحاور مع التراث يقوّي من فرص التفاعل معه.

وتأخذ الحلقة اسمها من شكلها الهندسي الدائري حيث يتحلّق المتفرجون في صفوف حول صاحب الحلقة الذي يتخذ مكانه في نقطة ما وسطها. ويكون مكان قيامها الاعتيادي في الفضاء المفتوح على الهواء الطلق كالساحات العمومية والأسواق الأسبوعية ومواسم الأولياء.

وقد طارت شهرة بعض هذه الساحات حتى صارت لها سمعة عالمية مثل ساحة جامع الفنا بمراكش التي صنّفتها منظمة اليونسكو تراثا عالميا.

وقد أتيح للحلقة، باعتبارها طقسا احتفاليا وفرجة شعبية، أن تستقطب اهتمام المسرحيين المغاربة من جميع الأطياف لِما كانت توفره لهم من فضاء مشهدي نموذجي وإمكانيات للعرض والتعبير في إطار مسرح دائري يتجاوز بكثير ما يمنحه الشكل الإيطالي المألوف.

وكان الطيب الصديقي، منذ بداية ستينات القرن الماضي، قد استقرّ نظره ثم وعيه على ما يزخر به التراث الفرجوي، وفي مقدمته فن الحلقة، من مظاهر احتفالية وجمالية لا تنتظر سوى مَن يلتقطها ويقوم باستلهامها في الإعداد المسرحي الحديث. ولذلك وجدناه يكثر التردد على ساحة جامع الفنا بمراكش حيث تحتشد أنواع الحلقات ويقف طويلا أمام حلقة الراوي الذي يحتفي بلغة تراثية مرصّعة بفنون السجع ومكتنزة بالقول البلاغي الشعبي. كما يُبدي شغفه بحلقة مروضي القرود ممن يحملون حيواناتهم على أداء حركات وأدوار مثيرة للدهشة ويجعل من هؤلاء القرّادين فنانين فطريين ذوي ملَكات من طراز خاص. وبحلقات أصحاب الألعاب البهلوانية من ممارسي رياضات الهواء الطلق عالية الخطورة ومتناهية البراعة… إلخ.

ولن يتأخر الوقت حتى نرى الصديقي أواسط الستينات يوظف بعض أشكال هذه الفرجات الفطرية في مسرحه وذلك دون ثرثرة نظرية زائدة أو ادعاء فج. فعل ذلك في مسرحيتيه الرائدتين «سيدي عبدالرحمن المجذوب» (1968) و«الحراز» (1970) وفي رائعته «مقامات بديع الزمان الهمداني» (1971) حيث يستلهم شكل الحلقة الشعبية ويجعل جمهور «الممثلين» يتحلق حول البطل مستمعا ومعلّقا ومشاركا في التشخيص والمشاهدة تماما كما يحصل مع جمهور المتفرجين الحقيقيين. ثم سيقوم بذلك على نحو تفصيلي ومركزي في بساطاته الأخيرة التي كان الغرض الأساسي من ورائها هو بيان المحتوى الدرامي للفرجات الشعبية. كما سيجعل للقرّادين ومروّضي الحيوانات مكانا متميزا في عرضه الملحمي «المقامات»، وللبهلوانيين والرواة والراقصين مكانة أثيرة بل ومركزية في العديد من عروضه المسرحية خلال السبعينات والثمانينات وما تلاهما حتى أنه يمكن القول بأن الصديقي يعتبر المسرحي العربي الأول في هذا النطاق والأكثر استلهاما للميراث الفرجوي الشعبي وتوظيفا لمظاهره وجمالياته.

ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن هذا الاستخدام التراثي، من طرف الصديقي، لم يكن يقتصر على الجانب الشكلي الخارجي بحصر المعنى وإنما يتجاوزه للنفاذ إلى ما خلف القشرة أو المظهر حيث يعمد إلى استلهام العوالم المضمرة والأبعاد الأخلاقية الكامنة وراءه أملا في تحقيق توظيف عضوي يُغني العمل المسرحي ويغتني به.

وقد ساعده هذا الانفتاح على الأشكال الفرجوية التقليدية المتمثلة في الحلقة الشعبية خاصة على توسيع أفق الممارسة الدرامية العربية التي ظلت مسيّجة بالتقاليد الكلاسيكية الصارمة وأشرَعتها على إمكانات ومنطلقات مبتكرة خوّلتها زرع دينامية جديدة في جسد الإبداع المسرحي العربي وخلّصته من ترهّل الأشكال التعبيرية المسكوكة.

وبهذه الطريقة الصميمية في محاورة التراث المغربي والعربي سوف يتمكّن الصديقي، بطريقة عصامية بالغة المغامرة، من تجسير الهوة التي ظلت تفصل بين الثقافة العربية والفن المسرحي الحديث، وينجح في امتحان المرور فوق صراط التقليد والحداثة. كما سيتاح له في وقت لاحق مواصلة السياحة في المخيلة الشعبية العربية بعرض مسرحيات رائدة من قبيل مسرحية «ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ» 1985 ، ومسرحية «الشامات السبع» 1991.

ولعل هذا الإلحاح على توظيف التراث الفرجوي المغربي والقومي والبحث فيه عن أفق لدراما عربية هو الذي قاده إلى تطوير تجربة أخرى تستلهم شكل التمثيل المغربي الفطري كان قد بدأها في وقت مبكر أواسط الستينات كما رأينا وواصلها بقوة وتصميم من خلال مجموعة من المسرحيات التي أسماها «بْساطات»، أي تمثيليات مسليّة خفيفة، ونالت ترحيبا من قبل الجمهور وعموم المهتمين بالبحث المسرحي. وتقدم مسرحيات «الفيل والسراويل» و»لو كانت فولة» و»جنان الشيبة» و»قفطان الحب» و»السحور عند المسلمين والنصارى واليهود» نماذج ناجحة لها.

وأما بعد، فإنه من الأمور اللافتة للانتباه في المسار المسرحي للطيب الصديقي هو أنه، بعد أن تلقى العلم المسرحي من منابعه الكلاسيكية وتفنّن في تجريب سائر ألوانه وأشكاله، سوف يزهد في مصاحبته ويوليّ وجهه شطر الأشكال الماقبل مسرحية أي تلك التعبيرات الفطرية التي شاهدها وهو طفل ويافع في ساحات مدينته الصويرة وفي مواسم أوليائها. وبهذا عبَر هذا الفنان المتميز منطقة التطور المعكوس: من الشكل الكلاسيكي للمسرح الموروث عن الغرب إلى مظاهر الفرجة الفطرية المترسخة في الوجدان الشعبي والعربي.

فهل كان ذلك انتصارا منه للفطري والمعيش على النظامي المقنن؟ أو تشبّثا بالتلقائي والأصيل على حساب النخبوي والمستنسخ؟ أم إلغاء للقطائع القائمة بين عالمين متنابذين وتحديا لشرط تاريخي حان الوقت لتجاوزه؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.