اعترافات أنسي الحاج

الجمعة 2019/02/01
اعتراف نادر (غرافيك الجديد)

أنسي الحاج شاعر مؤسس وصاحب تجربة فاتحة في الكتابة الشعرية العربية الحديثة. فهو منذ أن أصدر ديوانه الأول “لن” في سنة 1961 بعد عام واحد من صدور الديوان الأول لمحمد الماغوط “حزن في ضوء القمر” كرس اسمه في طليعة كتاب القصيدة الجديدة، وتحول إلى الشاعر الأكثر راديكالية وطليعية في العربية. وبالتالي بات لاحقا، مع أواخر السبعينات خصوصا، الأكثر إغراء بالنسبة إلى شعراء قصيدة النثر العرب الذين أخذوا يفتشون عن أسلاف متمردين في اللغة وعلى اللغة، وصولا إلى؛ نص مضاد” على حد تعبير بعض النقد.

تجربة أنسي الحاج لم تطلع من فراغ جمالي فقد سبقتها نصوص وأسماء عدة نشرت نتاجها الأول ما بين 1948 و1958 مهدت لها في سياق ما اصطلح على تسميته يومها بالنثر الشعري أو الشعر المنثور، أو قصائد النثر: ثريا ملحس “النشيد التائه” – 1948، “قربان” – 1952 (الأردن)، توفيق صايغ “ثلاثون قصيدة” – 1954 (سوريا)، سليمان عواد “أغاني بوهيمية” – 1956 (سوريا)، محمد الماغوط “حزن في ضوء القمر” 1960، فؤاد سليمان وإلياس زخريا (لبنان)، فضلا عما شكله نثر جبران، الريحاني، ويوسف غصوب وغيرهم من مقدمات أبكر.

هذه الشهادة مع أنسي الحاج ثمرة حوار مع الشاعر بحضور ومشاركة  الشاعر أمجد ناصر، سنة 1988 خلال زيارة لأنسي الحاج إلى لندن أثناء التحضير لإصدار مجلة “الناقد” التي كنا رياض الريس وأنسي وكاتب هذه السطور قد اجتمعنا في منزل رياض في منطقة باترسي لمناقشة البيان التأسيسي لمجلة “الناقد” المزمعة الصدور. في تلك الآونة كان اهتمامنا – أمجد وأنا، ومعنا كل من صلاح فائق وسركون بولص منصبا على البحث في جذور قصيدة النثر ومصادرها الجمالية والفكرية، وكنا على اتصال متقطع مع شعراء آخرين كعباس بيضون وبسام حجار وعبده وازن في بيروت للأسباب نفسها.

يومها كان انشغالنا كبيرا بمراكمة ما أسميناه في ذلك الوقت بـ”وثائق شعرية” فكانت أولى تلك الوثائق ندوة حول قصيدة النثر انعقدت في بيتي في 90 شكسبير أفينيو، بمنطقة هايز غرب لندن، وأدارها أمجد ناصر وشارك فيها صلاح فائق، وسركون بولص وأنا، وقد نشرها أمجد يومها في جزأين في مجلة “الأفق” الفلسطينية التي كانت تصدر من قبرص وكان يحرر رقاتها الثقافية. وقد شكل نشر تلك الندوة، وكانت الاولى من نوعها، دعوة لإحياء نقاش مأمول حول “قصيدة النثر”.

شهادة أنسي الحاج هذه هي بمثابة اعترافات لم تنشر في تلك الأيام لكونها ضاعت بين أوراقي فترة طويلة من الزمن إلى أن عثرت عليها سنة 2001، وعمدت إلى تحريرها ونشرها، وكان أنسي لا يزال على قيد الحياة.

تكشف الشهادة عن فهم أنسي الحاج للشعر وطبيعة عمله على نصه، فضلا عن أنها تكشف عن بعض مصادره ومراجعه بكثير من الجرأة والحرية في التصريح نادراً ما نجد لها مثيلا في اعترافات الشعراء.

نوري الجراح

الوزن وموسيقى قصيدة النثر

بدأت في كتابة هذا الشكل الشعري قبل أن نطلق عليه تسمية “قصيدة النثر”، وكنت أنشر مثل هذه القصائد في المجلات الأدبية في منتصف الخمسينات قبل أن تصدر مجلة “شعر” بسنتين أو ثلاث سنوات. كنت أعبر عن نفسي بصورة تلقائية من خلال هذا الشكل الشعري وأنا لا أزال على مقاعد الدرس، فقد كنت أرتاح فيه وأجد نفسي من خلاله. وخلافا لما قد يظنه بعض النقاد، ففي نفسي إيقاعات عديدة تتناوب بين الشكل الغامض والشكل الأكثر وضوحا. وهذه الإيقاعات لم أكن أجد لها موقعا يتناسب، حقيقة، مع نفسيتي وتفكيري في الإيقاعات العربية التقليدية. وهنا علي أن أوضح أن هذا الاستنتاج لم يأت من خلال تجربتي وممارستي للإيقاعات التقليدية، وإنما جاء من خلال دراستي أولا وقراءتي للشعر العربي.

أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع، بل وأكثر من ذلك يمكنني القول إن قصائدي تتوافر على الوزن. ليس كما في قصيدة “الذئب” التي قصدها السؤال، بل إنني أتحدث عن أوزان غير تقليدية كما هو الحال مع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهذه يمكن أن نسميها “أوزان شخصية” غير أنها تبقى أوزانا في النهاية.

ولو نحن رجعنا إلى الأوزان العربية التقليدية لوجدنا أنها وضعت استنادا إلى قصائد كانت موجودة قبل الوصول إلى تقنين الأوزان المعروفة، فكان لكل شاعر عربي إيقاعاته الخاصة التي يكتب قصيدته على أساس منها.

إذن أستطيع القول إن قصائدي تنطوي على أوزان وليس على إيقاعات فحسب، فالإيقاع موجود في أي كلام نثري مثل الخطب والمقالات وما شابه ذلك، إنه إيقاع الدورة الدموية لصاحبها. وهنا أسارع إلى التنبيه إلى أن هذه الأوزان التي أتحدث عنها ليست أوزانا صالحة للقياس عليها أو لاعتمادها وتقنينها. إنني أبالغ قليلا في القول لأؤكد أن كتابتي لهذا النوع من الشعر لم تكن خارج الإيقاع الموسيقي تماما، ولا هي عزوف نهائي عن الموسيقى، ولا هي ثورة تجهز على الموسيقى، وإنما هي موسيقى أخرى أسميناها في ذلك الوقت الموسيقى الداخلية. ربما كان ينبغي أن نستدرك في تسميتها ما تتوافر عليه من الموسيقى الخارجية، أيضا. فالحقيقة أن هناك، إيقاعا خارجيا في هذه القصيدة، قد يكون أحيانا منسرحا كثيرا ويشبه السرد، وأحيانا شديد الانضباط ويشبه نظام البيت، إنما من دون تفعيلة متكررة.

كانت هناك، دائما، بنية إيقاعية لديها هاجس موسيقي يتمثل، على الأقل، في موسيقى الكلمة المفردة، إذا لم يكن يتمثل في موسيقى العبارة، أو البيت. أما شكل هذه الموسيقى وتفاصيلها فلذلك بحث آخر. لكن الثابت أن كتابة “قصيدة النثر” بالنسبة إلي ترمي إلى تقديم إيقاع موسيقي جديد.

عن التأثر بالقصيدة الغربية

ما قيل حول تأثري بالقصيدة الغربية الجديدة والفرنسية تحديدا، وما إذا كنت انطلقت منها لأكتب قصيدة النثر، أقول إن هذا الكلام ليس له أي نصيب من الحقيقة. فحتى تلك الفترة التي نتحدث عنها، الآن، لم أكن قرأت قصيدة نثر أجنبية واحدة، وعندما بدأت كتابة قصيدتي لم تكن مجلة “شعر” قد وجدت بعد، كما لم يكن كتاب سوزان برنار الذي أخذنا أدونيس وأنا منه تسمية “قصيدة النثر” قد صدر بعد أيضا. وقبل كل شيء لم أكن أعرف أن ما أكتبه هو “قصيدة نثر” أصلا!

عندما بدأت أكتب هذا النوع الشعري الذي عرف في ما بعد بقصيدة النثر، كنت لا أزال في المدرسة الثانوية، وكانت التصنيفات الأدبية تنقسم إلى شعر ونثر ونقد وما شابه ذلك، ولم أكن قد اطلعت بعد على التيارات الأدبية الحديثة، إنما كنت قارئا ومعجبا بكتاب لبنانيين كتبوا شيئا من النثر الشعري الذي كان محط إعجابي، خصوصا أولئك الكتاب الذين جمعوا بين الغنائية والتوتر. كنت أبحث عن الكتاب المتوترين لأنني شخص ملول جدا، لا أحب الكتابة المرتخية، ففي حين كان زملائي معجبين بجبران كنت أتجنبه كثيرا في ذلك الوقت، فقد كان جبران يشعرني بالضجر. كنت أميل إلى الكاتب الذي أشعر أن كتابته تنبض بين يدي، الكاتب الذي تشعر أنه يصنعك صنعا! جبران ليس لديه الكثير من هذا، فهو كاتب يخيم عليه السكون.

من الكتاب اللبنانيين الذين تأثرت بهم آنذاك أذكر على سبيل المثال فؤاد سليمان الذي اطلعت على كتاباته بالمصادفة وقد أعجبني نبض كتابته، خصوصا في مقطوعاته السريعة، لأن هاجسي الحقيقي، آنذاك، كان البحث عن الكتابات التي لا ملل فيها، لم أكن أبحث عن الجانب السياسي أو الفكري في هذه الكتابات، ربما لأنني كنت مصابا بلوعة الملل إلى حد بعيد، خصوصا وأن طريقة تدريس الأدب في ذلك الوقت كانت، بدورها، تبعث على الضجر. فالشاعر يجرد من كل إنسانيته ويتحول إلى لفظة أو حادث تاريخي ويخرج بذلك من إطار الشعر ومن إطار اهتماماته كإنسان أيضا.

أنا أحب الإيقاع ولم أكتب قصيدة نثر واحدة إلا وفيها إيقاع، بل وأكثر من ذلك يمكنني القول إن قصائدي تتوافر على الوزن

فؤاد سليمان أثر في كثيرا آنذاك. كان يوقع كتاباته باسم “تموز″ وكان يكتب في شؤون متعددة: في السياسة والمرأة والحب والمودة وبأسلوب غنائي متوتر فيه واقعية وفيه رومانطيقية، فيه لغة حية وجديدة. أحيانا هو لا يتردد في استخدام العامية عندما تكون اللفظة العامية قوية وفي مكانها. فؤاد سليمان شاعر موهوب ومجدد على طريقته دون أن يدعي التجديد، إنه بحق أحد الذين أثروا في وجعلوني أكتب ما كتبت.

حتى العام 1954 لم أكن أقصد أن أكتب شعرا، لكني كتبت بعض المقالات على الطريقة التي ذكرتها ونشرتها. وبعد ذلك اطلعت على كتابات كاتب آخر اسمه إلياس خليل زخريا وهو شاعر وكاتب مغمور ومظلوم، وكتاباته النثرية، هي شعر، فعلا، رغم أنه كان يرى في كتاباته تلك كتابات نثرية فحسب. تقرأ إلياس خليل زخريا فتخال نفسك في كاتدرائية فخمة وشديدة الجمال، كان البعض يشبهه بأمين نخلة ولكنه في رأيي مختلف عنه.

باختصار ومن دون الخوض كثيرا في التفاصيل إن جذوري الشعرية والأدبية هي جذور عربية ليست لها علاقة إطلاقا بالقصيدة الأجنبية.

جذوري عربية شكلا ولغة، وتأثري إنما تم على أيدي أولئك الذين أشرت إليهم وخصوصا عبر لغتهم الحسية. فأنا لا أحب اللغة التجريدية كما أنني أفضل الرسم الحسي على التجريدي. كل هذه الأمور لم يتناولها أحد في إطار الكتابات التي تناولت تجربتي. وعندما أقرأ ما يكتب عني لا أجد إلا الشتائم أو الإسقاطات والاتهامات التي تعكس رغبات كاتبيها. لم يدخل أحد إلى تجربتي ذاتها.

يتهمونني بالتأثر بالغرب رغم أن التأثر بالشعر الأجنبي ليس تهمة فالشعر موجود لكي يؤثر ولكي يؤخذ، لكن الحقيقة تقتضي أن أقول إن مصادري الأولى كلها عربية، ولا أقول ذلك بفخر ولا بخجل، ولكن لإقرار واقع فقط. وهذه ليست المرة الأولى التي أعترف فيها بفضل من ذكرتهم علي، فالذي قرأ مقدمة ديوان “لن” سيقف على اسم فؤاد سليمان وإلياس خليل زخريا كمصدرين من مصادري الشعرية.

العلاقة بالشعر الفرنسي

إطلاعي على القصيدة الفرنسية الحديثة جاء بعد أن نشرت في مجلة “شعر” وليس قبل ذلك. لكن الذين كتبوا عني لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث، فمرة يقولون إنني تأثرت بكتاب سوزان برنار (قبل أن يصدر كتابها) ومرة أخرى يقولون إنني متأثر بأنطونان أرتو رغم أنني لم أتأثر بكلمة واحدة من شعر أرتو. أظن أن ذلك جاء على لسان سركون بولص في ندوة لمناقشته “قصيدة النثر” وقد عتبت على سركون لأنه شاعر ومثقف وكان عليه أن يمحص ما يقول، إلا إذا كان هو نفسه لم يقرأ أرتو أصلا. ليست لي أي علاقة بشعر أرتو كما أنه ليس لأحد في العالم علاقة بشعر أرتو، فهو تجربة محض شخصية ولا يستطيع أحد أن يدخل في تجربة أرتو إلا أرتو، فهذا الشاعر لغته في إطار اللغة الفرنسية نفسها هي غير قابلة للتقليد والتكرار. إنه شاعر كتب بلغة خاصة جدا عن تجربة خاصة جدا، وهو مغلق إلى درجة أن كثيرا من كتاباته لا يفهم.

طبعا لو هناك نقد حقيقي لما كان من المقبول قول ذلك، فالدراسة النقدية العلمية تثبت بما لا يدع مجالا للشك انتقاء علاقة لشعري بشعر أرتو، اللهم إلا أنني كتبت ذات مرة دراسة عنه ونشرتها في “شعر”. طبعا هذا لا يعني أنني لست معجبا بشعره، بل إنني ترجمت بعض قصائده ونشرتها في مجلة “شعر” وجاء ذلك من باب الإعجاب بصدقه الكبير، وأنا معجب بكل الصادقين بصرف النظر عن درجة التقائي بهم أو اختلافي عنهم.

التأثر بأندريه بروتون

هناك اعتقاد آخر يقول بتأثري بأندريه بروتون الذي ترجمت له قصائد ونشرتها في “شعر” وكتبت عنه مقالا عندما توفي. وإذا كان لا بد من البحث عن تأثري بالشعر الأجنبي فلربما كان بروتون أكثر الشعراء الأجانب تأثيرا في، ولكن ليس إلى درجة التمثل أو الطغيان.

أعتقد أن شعري هو شعر شخصي جدا. احتار البعض في نسبته إلى مصادر خارجية في حين أن لا لزوم لذلك. طبيعي أن أتأثر بكل قصيدة جميلة أقرأها ولا بد أن تترك أثرا منها في أعماقي. أنا شخص معرض للتأثر بكل جميل أقرأه ولأي كائن كان.

من الجدير ملاحظة أننا نتحدث عن أمور تبدو معيبة في نظر الآخرين. فمن يستطيع أن يدخل على إيف بونفوا ويسأله: هل أنت متأثر بفلان من الشعراء؟ من المؤكد أنه سينظر إليه بدهشة لفرط غرابة السؤال، فهو حتما متأثر بفلان وفلان وهذا الأمر ليس محل تساؤل أو نقاش هناك. أما عندنا فسيكون رد الشاعر:

أنا لم أتأثر بأي كان، أنا طلعت لوحدي، وأنا وأنا!

التماس مع مجلة “شعر”

حدث ذلك عندما جاءني يوسف الخال وطلب مني المساهمة في المجلة وكنت آنذاك أعمل محررا في جريدة “النهار”. أظن ذلك حدث في عام 1956. قال لي الخال نريد أن نصدر مجلة للشعر. قلت له وما شأني في ذلك؟ فحتى ذلك الوقت لم أكن أظن نفسي شاعرا، وما كنت أظن أن ما أكتبه هو شعر، خصوصا في ظل الشعر السائد آنذاك.

فالنصوص التي كنت أكتبها وأنشر بعضها لم تكن لها هوية واضحة بل يمكن وصفها بأنها نصوص لقيطة غير معترف بها وغير مصنفة في إطار الأنواع الأدبية السائدة. ولا أخفيك أنني لم أسر كثيرا بتصنيف هذه القصيدة في ما بعد، ولكني مشيت في هذا الموضوع على أمل أن هذا التصنيف (أقصد مصطلح “قصيدة النثر”) ليس نهائيا. ويمكن أن أحيل القارئ إلى مقدمة ديواني الأول “لن” حيث أوضحت أن هذا الإطار ليس نهائيا.

قال لي الخال نريد أن نصدر مجلة للشعر. قلت له وما شأني في ذلك؟ فحتى ذلك الوقت لم أكن أظن نفسي شاعرا

ولا شيء نهائيا في الشعر. غريزتي قالت لي ذلك، وربما يعود الأمر أيضا إلى طبيعتي المتفلتة من القيود. أما تسمية “قصيدة النثر” فقد أطلقناها أدونيس وأنا على هذا النوع الشعري وذلك في محاولة لإعطائها نوعا من الوجود الشعري، نوعا من الهوية وكي نضع حدا للتسميات الأخرى مثل: “شعر منثور”، و”نثر شعري” وما شابه ذلك.

وهنا يخطر لي أن أؤكد أن “قصيدة النثر” ليست مدرسة شعرية وليست تيارا، إنها نوع أدبي كان إلى وقت ما في الأدب الفرنسي هجينا مثلما كان إلى وقت في الأدب العربي هجينا، وأطلق عليها الفرنسيون في القرن التاسع عشر بواسطة بودلير اسم “قصيدة النثر”، وتكررت التسمية، ومنذ ذلك الوقت لم يختلفوا عليها.

ما قبل تسمية القصيدة

ولكن قبل أن يطلق بودلير هذه التسمية كانت هناك قصائد نثر فرنسية منذ القرن الثامن عشر، لكنها لم تكن مصنفة، وكانوا يعتبرون أنها كتابات يغلب عليها الطابع الشعري. إذن التسمية، هي اشتقاق، أو استنباط لفظي، نظري لأمر واقع موجود. وكنت قد قلت إن هناك بعض الكتاب كتبوا هذا النوع الشعري بالعربية قبل أن يسمى، مثلما حصل في اللغة الفرنسية، وأنا من هؤلاء، فقد بدأت بكتابة قصيدة النثر قبل أن نتوصل، في ما بعد، إلى إطلاق هذا الاسم عليها، ونشرت فعلا عددا من هذه القصائد.

وهذا الأمر يشير إلى العفوية التي تعاملت بها مع قصيدتي، فلم أنتظر حتى يتم تصنيف هذا النوع من الكتابة الشعرية لأبدأ بالكتابة. ولعل عدد القصائد التي نشرتها قبل أن نطلق اسم “قصيدة النثر” أن يكون في حجم مجموعة شعرية وكنت قد نشرت الكثير من هذه القصائد في مجلة “المجلة” الأدبية التي كانت تصدر في بيروت آنذاك. حدث هذا في العام 1956 قبل أن أتعرف إلى يوسف الخال وأدونيس، وقبل صدور مجلة “شعر”.

بعد هذا الاستطراد أعود إلى مجلة “شعر” فقد جاء يوسف الخال الذي يتمتع بحدس وذائقة حديثين، وكان قادما للتو من أميركا ومطلعا هناك على التيارات والمدارس الشعرية والأدبية الجديدة، وقال لي إنه يخطط لإصدار مجلة شعرية، وذكر بعض الأسماء التي ستشارك في إصدار هذه المجلة ومن بينها أدونيس. وكان هؤلاء من الشعراء المكرسين ويكتبون شعرا موزونا، فاستغربت اقتراحه مشاركتي في مجلة شعرية. فحتى ذلك الوقت لم أكن كما قلت أعتبر نفسي شاعرا. صحيح أنني كنت أكتب ما أصبح في ما بعد يعرف بـ”قصيدة النثر” غير أن ذلك لا يعني أن يقترح علي يوسف الخال أن أنضم إلى شعراء كبار! كنت، آنذاك، صحافيا وأنشر بين الحين والآخر قصصا قصيرة وأبحاثا في الموسيقى… أما كتاباتي الشعرية، فقد كنت أخجل من نشرها لأنني اعتبرتها من الأمور الحميمة والخاصة، أو ما يشبه الاعترافات (لا أزال احتفظ بعدد من الدفاتر غير المنشورة التي تضم كتابات تلك المرحلة)، فقلت ليوسف الخال ليس عندي ما يفيدك. فقال لي كيف ذلك فأنا قرأت لك شعرا منشورا في “الأديب” و”الحكمة” و”المجلة”، هذا ما أريده منك. فهذا شعر.

طبعا جبرا إبراهيم جبرا كان يكتب شعرا مماثلا وعنده كتابات سابقة على مجلة “شعر”، كذلك الأمر بالنسبة إلى توفيق صايغ، وهو، في رأيي، شاعر مهم جدا، وكان من بين الذين قرأت لهم في بدايات اهتمامي بالشعر. وكنت قد اطلعت على مجموعة شعرية له بعنوان “ثلاثون قصيدة” وكان يطلق على هذه القصائد “قصائد نثر” وأظن أن ديوان توفيق صايغ صدر في عام 1955 أو 1956. (صدر عام 953) لم أعد أذكر بالضبط. وقياسا عليه فهو شاعر عميق ومجدد وجريء وفضلا عن ذلك فهو مثقف كبير.

قياسا على كل تلك التجارب، اعتبر يوسف الخال أن هذا النوع الأدبي هو شعر. وقد قلت للخال إنني سأنتظر صدور العدد الأول من مجلته حتى أرى أين يمكنني وضع نفسي فيها، وعرضت عليه أن أكتب للمجلة نقدا، فأبدى حماسه لذلك. وبصراحة فقد تهيبت أن أطرح ما أكتبه على أنه شعر. وتساءلت، فعلا، عن مدى علاقتي بالشعر؟ وكنت في ذلك الوقت أطلع على القصائد الحديثة المنشورة في مجلة “الآداب” التي لعبت دورا فعالا في الوسط الأدبي. وكان عدد كبير من الشعراء العرب ينشرون قصائدهم في “الآداب” وكنت معنيا بالبعد العربي الأدبي، إلى جانب اهتمامي بالكتابة اللبنانية إلى درجة الاعتقاد بوجود مدرسة لبنانية في الكتابة.

وعلى صفحات “الآداب” كان يجتمع العديد من الشعراء العراقيين الحديثين أمثال السياب والحيدري والبياتي ونازك الملائكة، ومن سوريا نزار قباني وغيرهم من الشعراء فقد كانت “الآداب” منبرا أدبيا مهما في ذلك الوقت.

لن وأخواته

Thumbnail

صدرت مجلة “شعر” وظللت متهيبا من النشر الشعري فيها، فكتبت نقدا أدبيا على مدار عددين أو ثلاثة أعداد، وبعد ذلك بدأت بنشر الشعر. وسمعت في خيالي لغطا قويا حول قصائدي، كنت أتخيل أن الآخرين يضحكون مني، ولم أضم هذه القصائد التي نشرتها لأول مرة في مجلة “شعر” إلى ديواني الأول “لن”. وظللت لمدة من الوقت مصابا بصدمة لأنني سمعت آراء ساخرة مما كتبت. كانوا يقولون ماذا يقصد بثدييها وحليبها، في حين أن الشعراء الآخرين كانوا أشبه بفلاسفة يتحدثون عن قضايا كبيرة لم أكن أفهمها. وكانوا رصينين، فيما كنت مراهقا كتابيا.

كثر اللغط حولي الأمر الذي لم يشجعني على المضي. في ذلك الوقت كنت أكتب زوايا صحافية بأسماء مستعارة في جريدة “النهار”، وكنت أمر بتجربة عاطفية معينة. كتبت مجموعة كتابات حب، أعدت النظر فيها أثناء كتابتي الثانية لها. وهذه شكلت معظم القسم الثاني من ديوان “لن” الذي هو “الحب والذئب” وهي أشياء بسيطة لأنها كتابات حب. لم أكتب هذه النصوص لأصرع الأدب العربي أو لأدمر التراث أو لأخرب اللغة، بل كتبتها لأعبر عن حب، وبكل بساطة، لتنشر في جريدة يومية، أي أنها كانت بعيدة كل البعد عن القصد الأدبي!

وليس ذلك فحسب، بل إن هذه القصائد قد نشرت باسم امرأة (ليلى) فلم تكن لدى جريدة “النهار” آنذاك محررة لشؤون المرأة فكنت أحرر هذه الصفحة من جملة أشياء أخرى، وكان ينبغي لهذه الزاوية، الصغيرة الموجهة للمرأة أن تكتبها امرأة! هذه اعترافات تبدو مذلة، لكنها هي الحقيقة.

نشر بعض قصائد الجزء الأول من “لن” في مجلة “شعر” وهنا علي أن أقول إنني لم أنو أن أصدم الذوق السائد أبدا، ولا أن أغيره. قصدي أن أقول إن ما كتبته كان عفويا. ولم ينطلق من موقف عقائدي مسبق، ولم أكن أعرف أن الأمور ستتغير كثيرا، ولم أفكر قط في أن هذه الكتابات ستحدث كل ما أحدثته من دوي.

فضل مجلة "شعر"

ويقينا أقول، الآن، إنه لولا صدور كتابي الأول عن دار مجلة “شعر” وقد كنت أحد أركان هذه المجلة لما أخذ “لن” كل هذا الدوي.

حدث ذلك فقط، بفضل مجلة “شعر” بحكم المناخ الذي خلفته وبحكم علاقاتها العربية. فهذا الكتاب المتمرد، الشرس، المشاغب، المجنون لو صدر عن شخص مفرد، دون أي رابط بجماعة أدبية معينة لكان ظل مركونا في الزاوية. هذا هو فضل مجلة “شعر” علي وعلى جميع من عمل فيها، وهو أمر ينبغي الاعتراف به. كما أن هذا من فضل سعة علاقات مجلة “شعر” مع القارئ العربي الذي خاطبته بهاجس الحداثة، فكل ما صدر عنها مر في هذه القناة، ربما لولا مجلة “شعر” لكانوا اعتبروني شاعرا وجدانيا!

أريد، مما تقدم، أن أوضح مدى أهمية الجماعة نفسها، أهمية التيار الشعري والنقدي، فكم من شاعر مهم ظهر في السنوات الأخيرة ولم يجد، للأسف، حركة تحتضنه وتجعل في صوته أصواتا متعددة الأصداء، وتحمله على ظهر موجة تاريخية. فالحركات الأدبية دائما تتلخص في شخص أو شخصين، لكن لولا هذه الحركة لما ظهر هذا الشاعر أو برز.

كتاب خطير

من جهة ثانية أعترف، هنا، أنني أثناء عملي على كتاب “لن” لم يفارقني الشعور بأنني إنما أقدم على أمر خطير. كان لدي وعي تام بهذا الأمر. ليس على مستوى الشكل الفني الذي عملت عليه، فهذا كان آخر همومي، ولكن على مستوى المضمون. وحتى مقدمة “لن” لم أكتبها إلا بعد أن أنجزت العمل على الديوان، وكنت مقتنعا بأنها المقدمة الأولى والأخيرة التي سأكتبها. فأنا لا أحب النظريات ولا التنظير. وهذا ليس من طبيعتي ولا من طبيعة عملي. لكن الخطورة التي أحسست بها انطلقت من مكان آخر. هو إحساسي بأنني أقدم على كتابة عمل لم يكتب سابقا.

وحتى الآن بعد مرور كل هذه السنوات على صدور الديوان لم يكتب أي ناقد عن محتوى هذا الكتاب رغم إجماع العديد على أهميته. لم يتحدث أحد حول طبيعة هذه “الأهمية” ولماذا هو مهم: التجربة الشعرية، التجربة العاطفية، التجربة الجنسية، العقل الباطن، الهواجس، الأحلام، الرؤى، البعد الميتافيزيقي، السخرية السوداء التي اكتشفوها الآن، كل هذه أمور لم يتناولها أحد.

وأرجو هنا ألا يفهم أن كتابي انطوى على كل شيء، بل ربما يكون العكس. ولكن لا أحد كتب حتى عن هذا الأمر. الذي كتب هو أن أنسي الحاج يكتب نثرا لأنه لا يعرف أن يكتب شعرا موزونا! ولكن ألا تنطوي كتاباتي على أمور أخرى؟ فليعتبروها رسائل غرام، أو مقالات صحافية، أو أي شيء آخر ولكن على ماذا تنطوي هذه الكتابات؟ ما الذي يريد أن يقوله كاتبها؟

لولا صدور كتابي الأول عن دار مجلة “شعر” وقد كنت أحد أركان هذه المجلة لما أخذ “لن” كل هذا الدوي

للأسف لا يوجد بحث حول التجربة الإنسانية عندنا، هناك وقوف على العتبات والأبواب فقط. وأنت لا تملك أن تقول لمن يقف أمام الباب إلا تفضل ادخل واشرب قهوة عندنا.

وإذ أتذكر الآن فترة كتاباتي الأولى أتذكر أن كثيرين غيري كتبوا نصوصا مماثلة لما نطلق عليه الآن قصيدة نثر ويحضرني الآن اسم أحد أولئك وهو نقولا قربان الذي لا يكبرني إلا بقليل، فقد كان قربان من بين عديدين كتبوا مثل هذه النصوص ولم يفكروا إلى أي نوع أدبي تنتمي كتاباتهم. وقد يتساءل المرء: لماذا تركزت الضجة على ما كتبه أنسي الحاج، رغم أن كثيرين كتبوا إلى هذا الحد أو ذاك مثل ما كتبت؟ الجواب، في رأيي، بسيط وهو ومن أولئك الأشخاص الذين كتبوا نصوصهم وتجنبوا الصراع على التسمية، بينما صارعت أنا ليس من أجل اعتباره شعرا، بل وقصيدة أيضا.

كان الأدب العربي، آنذاك، يشهد فصلا حادا بين النثر والشعر، فالنثر نثر والشعر شعر. وكان هذا هو التحدي.

مع احتدام الصراع أراد البعض أن يتوصل معي إلى حلول وسطى (هي أشبه ما تكون بالصدقة من جانبهم) ظنوا أنها ربما أرضتني فقالوا: لماذا لا تسمي هذه النصوص فكرا؟ أو أن هذه النصوص جميلة، فلماذا لا تسميها وجدانيات؟

إذن المعركة دارت حول: هل هذا الشيء شعر أو لا شعر، قصيدة أو لا قصيدة. ثم لا ننسى أن نوعية، الكتابة قد أثارتهم أيضا لما تضمنته من وحشية وشراسة وضرب في المقدسات.

ليس الشكل وحده هو ما أثار حفيظة أولئك الأشخاص، بل المضمون أيضا، كما أزعجهم الغموض الذي تنطوي عليه هذه النصوص. في ما بعد تساهلوا معنا في موضوع الشعر، ولكنهم ظلوا ينكرون أن تكون هذه النصوص قصائد.

لقد ظنوا أنني أريد أن ألغي الشعر الموزون غير أن العكس هو الصحيح، فأنا أحب أن أقرأ الشعر الموزون، لكنني كنت أريد أن أجعل “قصيدة النثر” صعبة حتى لا تبتذل. ولو كنت أملك قانونا يخولني أن أمنع الآخرين المبتذلين من كتابة “قصيدة النثر” لفعلت.

أنا لست صاحب مدرسة، ولا أشجع أولئك الذين يحاولون أن يقلدوني، ولا أحالف الآخرين لأجعلهم حواريين لي. بل إنني أنفر من أولئك الذين يقلدونني حتى يكفوا عن ذلك. التقليد لا يغير ولا جديد إلا في الأصالة. كان هذا هاجسي. لقد كنت أحاول أن أرسخ وأصعب شروط “قصيدة النثر”. وفي الأخير فإن المهم هو الشعر. ليس مهما في أي شكل تكتب ولكن المهم أن يكون ما تكتبه شعرا.

مقدمة “لن” لم أكتبها إلا بعد أن أنجزت العمل على الديوان، وكنت مقتنعا بأنها المقدمة الأولى والأخيرة التي سأكتبها

لماذا كنت أريد أن تكون قصيدة النثر صعبة؟ ببساطة لأن تلك الأيام شهدت قولا شائعا يرى في القصيدة الجديدة رد فعل على صعوبة الوزن الأمر الذي ألجأهم إلى النثر. وإنها نوع من الاستسهال. وكان جوابنا أن نمعن في تصعيب شروط القصيدة.

مشكلة قصيدتنا أنها تتشابه مع أنواع ليست منها، فهي تشبه إلى حد ما المقال، كما تشبه القصة القصيرة خصوصا تلك التي يكتبها زكريا تامر، وتشابه أحيانا الخاطرة أو الفكرة، وهنا كان علينا أن نبعدها عن هذا الالتباس والإبهام والضياع المحيط بها والذي قد ينعكس على مجمل الإنجاز.

الدليل على ذلك أننا عندما أطلقنا عليها اسم “قصيدة النثر” شبت أكثر، قياسا لما كانت عليه عند الرواد الأوائل الذين كانوا يكتبونها من دون أن يعرفوا أنها قصيدة شعر، كانوا حائرين بين النثر العادي والشعر، وكثيرا ما كانت كتاباتهم تقع في النثر العادي… وذلك لأنهم لم يدركوا أنهم يكتبون قصيدة. القصيدة لها شروط أخرى.

أقصد، هنا، أن قصيدتنا معرضة للسقوط في المزالق التي قد يجر إليها النثر، لأنه ليس هناك من حام لها كالوزن، مثلا، الذي يشكل عمليا حماية خارجية للقصيدة الموزونة.

أنت تريد أن تكتب قصيدة تتوافر لها شروط تميزها عن الأجناس الأدبية الأخرى، وقد وضعنا في مستهل إطلاقنا لتسمية “قصيدة النثر” بعض الشروط العجلى. وربما كانت هذه الشروط ناقصة ولم ترسم هوية واضحة للقصيدة، ولكن مع الاستعانة بسوزان برنار استطعنا أن نقترب، مبدئيا، من الشروط المعقولة للخروج من الفوضى.

النص الشخصي

وأريد أن أقول هنا إنني لا أوافق على مقولة أن “قصيدة النثر” هي نص شخصي وبالتالي من الصعب وضع الضوابط لها. ماذا يعني نص شخصي؟ هناك الكثير من القصائد النثرية ليست نصوصا، بل هي نصوص موضوعية، كأن تكتب قصيدة عن نهر التيمز ففي “ماضي الأيام الآتية” هناك ثلاث قصائد موضوعية. الشخصية هي سمة لشاعر ما، لقصيدة ما، ولكن ليس لقصيدة النثر ككل. وإذ نقول بشخصية “قصيدة النثر” فإننا نضيق حدودها كثيرا.

صحيح أن “قصيدة النثر” هي بطبيعتها متفلتة من القيود وملبية لنداء الحرية، غير أنها اقتربت من تكوين إطار عام لها غير محدد بصورة قطعية كما هي عليه القصيدة الموزونة. لذلك لا ينبغي البحث عن ضوابط دقيقة موازية أو بديلة لضوابط القصيدة الموزونة، لأنها نص آخر ولد ونشأ للخلاص من الضوابط التقليدية.

ويجدر التنبيه إلى أن الخلاص من الضوابط التقليدية لقصيدة الوزن لا يعني القضاء على قصيدة الوزن نفسها. وجل ما تريد “قصيدة النثر” قوله للوزن هو: أسمح لي أن أكون، أن أتعايش معك. أما إذا أولها التطور التاريخي إلى أنها تحاول أن تحل محله فذلك موضوع آخر. غير أنها الآن لا تملك الهاجس الحربي في التحطيم والتخريب وما شابه ذلك من اتهامات نسبت إليها. ثم كيف؟ وما هي الأدوات التي تملكها قصيدة النثر لتحطيم قصيدة الوزن والقضاء عليها؟ هذا كلام غير صحيح ويناقض طبائع الأمور.

إذن نحن نبحث عن معالم واضحة لهذه القصيدة، وقد يحتاج الأمر إلى جيل آخر أو جيلين للوصول إلى ذلك. فحتى الآن ليس هناك تراث كاف لقصيدة النثر لاستخلاص سماتها العامة، وهذه مهمة الدارسين والباحثين وليس الشعراء.

المسألة تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى تراكم ثقافي أيضا. فنحن إلى هذه اللحظة لا نزال ندور في إطار الجدل حول “قصيدة النثر”.

الكتابة بين الشراسة والغنائية

هل حدث تحول في كتابتي من الشراسة في “لن” إلى الغنائية في “ماذا فعلت بالذهب ماذا صنعت بالوردة”؟ أنا لا أرى تغيرا جذريا في كتاباتي.

“لن” أحدث صدمة كبيرة لأنه كان أول كتاب لي، وكان يحمل الشحنة الأولى والأقوى من العالم الداخلي. لأنه ربما كشف، وللمرة الأولى، عن لغة صادمة. ثم “الرأس المقطوع″ الذي لم يختلف كثيرا عن “لن” و”ماضي الأيام الآتية”، وخصوصا قصيدة “العاصفة” فهي من أجواء “لن”.

التغير الذي يتحدث عنه السؤال ربما حدث بدءا من بعض قصائد “ماضي الأيام الآتية” تم في “الذهب والوردة”. وإذا كان هناك من تغير فمرد ذلك إلى أمرين: علاقتي بالمرأة التي انتقلت من المنولوج إلى الحوار. أي محاولة إيجاد الشخص الآخر. (قبل ذلك كان الشخص الآخر هو اختراع خيالي، ثم أصبح له وجود). فمن قبل كانت المرأة، أو الوسيط، لتخفيف وطأة العالم الخارجي والكوابيس الداخلية. لم أكن قد تمكنت من إقامة علاقة ناجحة بيني وبين الوسيط الذي هو المرأة، في ما بعد اقتحمني هذا الوسيط مثل قطعة ضوء وقفت بيني وبين شلال من الظلام. بالضبط هذا هو الفارق الذي يلاحظ في الكتابة والتعبير. وليس استراحة للمحارب كما قالت خالدة سعيد. الحب يغير، وأنا في البدء وفي الختام شاعر حب.

والحب عندي واسع جدا فهو الموت. هذا هو عالمي الداخلي الذي أتحدى أي ناقد أن يتجرأ على كشفه. وهذا هو ما جئت به وهذه هي الثورة الحقيقية في شعري، وليس الشكل.

فبعد ثلاثين سنة من كتابتي للشعر لا يتحدث الذين يتناولون شعري إلا عن مقدمة “لن”. أنا أكتب هذا النوع من الشعر لكي أخفي بعض الشيء ما لم يمكنني قوله بطريقة مباشرة بالعربية. فقصيدة النثر كانت بالإضافة إلى كل ما ذكرته سابقا هي جواز مرور بسلام للتعبير عن أشياء ليس فيها من السلام أي شيء.

لا أشجع أولئك الذين يحاولون أن يقلدوني، ولا أحالف الآخرين لأجعلهم حواريين لي. بل إنني أنفر من أولئك الذين يقلدونني

وإذا أردت أن أشبه الفارق بين أعمالي الأولى وأعمالي اللاحقة فإنني أشبه ذلك بحصان كان يعدو بجنون وفجأة عندما وصل إلى مطرح معين سطع عليه ضوء فعوض أن يأخذ بالشتيمة شرع بالتسبيح. لقد حدث الانتقال من اللعنة إلى التسبيح. ومن حقي أن أصدم أولئك الذين أعجبوا بـ”لن” بقدرتي على التغير فهذا وذاك هو أنا. أنا شخص متغير على طريق الحرية.

والآن إذا أعجبوا بـ”الرسولة” سأغير طريقي ليس عمدا وتقصدا ولكن لأن طبيعتي هي هكذا. فعلا كنت أهرب من الأسر أيا كان هذا الأسر، حتى لو كان أسر “الحب” وفي إحدى قصائدي أقول “الحرية الأجمل من الحب”.

فعلا كنت أظن أن لا أجمل من الحب حتى اكتشفت أن الحرية هي الأجمل. وهكذا فأنا أهرب من أي أسر كان، وخصوصا أسر الإعجاب بعمل سبق وكتبته. وأبعد من ذلك أقول لك إذا اكتشفت أنني لا أستطيع أن أتغير وبقيت أسير ما كتبت سأفضل الاعتزال على الاستمرار في أسر إعجاب الماضي.

اللغة في “لن” كانت مشحونة بالضغط.. فوجد هذا الضغط متنفسا له، ذهب الزبد وبقيت اللغة الجوهرية.. ما عادت لغتي مشحونة بأشياء خارجية. “لن” هو كوابيس الطفولة والمراهقة. انتهيت من ذلك فشفت لغتي وتصفت.

Thumbnail

عندما كتبت “لن” كتبته وكأنه كتابي الأول والأخير. هو كتاب مخيف فأنا لا أقرأه الآن. الباحث عن الوحشية لن ترضيه كتاباتي الأخيرة. لقد خرجت في مراحلي اللاحقة من أجواء “لن” النفسية، وأشدد هنا على النفسية وليس اللغوية، وأصبحت متشبثا بالأيروتيزم، وبالحب، بخشبة الخلاص الوجدوية والميتافزيقية.

ليس الشعر مسألة لغة فحسب. اللغة تأتي تاليا، تأتي لبوسا للداخل. أنا لا أبحث عن اللغة، في البدء، فالتجربة الشخصية تفرض مستلزماتها التعبيرية الأخرى. الإيروتيكية والصوفية هما تجربة واحدة متداخلة ومتلازمة ولم يكن ممكنا أن أقدم هذه التجربة إلا بتلك اللغة الشفافة التي ظاهرها مدجن غير أن عمقها وجوهرها فيه الكثير من تمرد “لن”.

الغنائية تلحق الشفافية، فعندما تكون شفافا تصبح مثل النهر السلس ولا تعود صادما ووعرا. لم أعد أحب الوقاحة في الكتابة عندي أو عند غيري، هذه مرحلة ربما كانت ضرورية، في وقتها، لأنها كانت جديدة، أما الآن فالأشياء مباحة.

لا أوافق على مقولة أن “قصيدة النثر” هي نص شخصي وبالتالي من الصعب وضع الضوابط لها. ماذا يعني نص شخصي؟

إن وصف المرحلة اللاحقة على “لن” بأنها مرحلة انكسار شعري هو بمثابة خطأ قرائي. أريد أن أقول إنها ليست انكسارا شعريا بل العكس، فكتاباتي اللاحقة أكثر شعرية مما قدمته في “لن” وأهم من ذلك فالشخص الذي كتب “لن” هارب من كوابيسه، لا يريد من أحد أن يذكره بها. فقد وضعها في كتاب لينتهي منها. ووضع مع هذه الكوابيس لغة الكوابيس أيضا. لعل من الأشياء القليلة التي بقيت من “لن” هي العبث. ولعله أصبح أكثر من السابق عندي، غير أنه عبث بلغة أخرى، لغة أكثر نعومة.

وأريد أن أشير هنا إلى أن خلاصي ليس ذا بعد واحد. فعندما تلمس جانبا ميتافيزيقيا لدي فليس معنى ذلك أنني إنسان مكرس للصلاة. فأنا إنسان غير مؤمن، ومؤمن في اللحظة نفسها، شريف وأزعر، عميق وسطحي، شفاف وكثيف، غامض وواضح، بسيط ومعقد. لا أدعي بذلك شمولية، ولكن هذه هي تركيبة الإنسان. ففي المرحلة التي كنت أصلي فيها (مرحلة الرسولة) نشرت في الوقت نفسه قصيدة قصيرة متناقضة كل التناقض مع “الرسولة” إلى درجة أن بعض الذين قرأوها أبدوا دهشتهم لذلك.

وفي الوقت نفسه نشرت أيضا قصيدة “الوليمة” وهي أكثر عنفا مما في “لن” بمضمونها وبموقفها وليس بكلماتها، كلمات كثيرة انتهت من قاموسي مع صدور “لن”. فقد أصبحت أخاف من هذه الكلمات كما لو كنت أطلقت شياطين لم أعد أستطيع السيطرة عليها. كأن كتاباتي الأخرى تعويذة ضد ما كتبته سابقا. أسعى منذ البداية إلى خلق التوازن بين الشر والخير، لا أريد أن أتنازل عن أحدهما، لست من دعاة الخير لوحده أو الشر لوحده، فهذه الثنائية من طبيعة الإنسان، أريد الشيطان والمبدع، أريد أن أكون الشيطان والمبدع. أو بتعبير آخر أريد أن أكون.

لندن 1988

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.