اغتيال العقل
كيف ننام وهناك قاتل طليق يقف خلف أبواب بيوتنا؟ كيف ننام وهناك قاتل يعبث داخل رؤوسنا ويترصد لإسكات قلوبنا! كيف نغمض جفوننا وسط كل هذه الأشباح السوداء، أشباح الموت، سلالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! يمر أمامي شريط طويل من الأفكار والتخيلات، والتفكير المطول يأخذني لسؤال: كيف ولماذا قتلوه بستّ رصاصات؟ رصاصة من الخلف، وخمس رصاصات في الرأس. السيناريو الذي تخيلته يبدأ من تفكيك التساؤل التالي: هل الرصاصة الأولى كانت في الظهر أم في الرأس! لكن التحليل يأخذني لاستنتاج أن الرصاصة الأولى كانت في الظهر، إما لأنه حاول الركض أو لإخضاعه ورميه على الأرض وتعذيبه واستجوابه والتنكيل به. كذلك، فالتسلسل المنطقي يفيد أن من يطلق الرصاصة الأولى في الرأس لا يعود في حاجة أو ربما في رغبة لإطلاق رصاصة في الظهر، فالرأس أولى وأهم وأعلى شأنًا ومرتبة من الظهر في هكذا جرائم.
ثم يأتيني التساؤل الثاني: إن كان قد أصيب بطلقة في ظهره رمته على الأرض فخارت قواه وشلّت أعصابه من الوجع والألم، وهذا ما كان يريده الجناة قبل تصفيته إما تشفيًا منه بسبب أفئدتهم السوداء وإما لإهانته وإذلاله عبر الاستجداء والتوسل وإما لانتزاع اعترافات محددة منه. التساؤل يفيد بالتالي: لماذا تم إطلاق خمس رصاصات أخرى في رأسه علمًا أنه مرمي على قارعة الطريق لا حول ولا قوة لديه! فكم رصاصة يحتاج الرأس لينفجر؟ رصاصة أو رصاصتان في الأغلب وعلى الأكثر. فما الفائدة من إطلاق الرصاصات الرابعة والخامسة والسادسة! وتحديدًا إطلاقها لتستقر في الرأس. ما قيمة الرأس بالنسبة إلى هؤلاء؟ ولماذا التركيز على هذا العضو دون غيره، وبهذه الكمية من الرصاصات.
فكرت أيضًا، من قام بالاغتيال جنود متمرسون في العمل العسكري، مدرّبون، يعرفون نقاط مقتل الإنسان في جسده، ويعلمون مدى هشاشة كل عضو من أعضاء الجسم في مواجهة الرصاصة. وكذلك، فالجناة خبراء في تحديد المسافة لكل نوع من أنواع الرصاص ويسمونه “المدى القاتل” وهي المسافة التي تقطعها الرصاصة ومدى تأثيرها وفتكها تبعًا للمسافة. وأيضًا، فالجناة، أصحاب القمصان السوداء، يعلمون بدقة طبيعة الرصاص في مسدساتهم، وأنواع أسلحتهم، ومدى فتكها بالجسم البشري.
ومن البديهي الاستنتاج بأن القتلة كانوا يعلمون بأن رصاصة واحدة في الرأس كافية لإنهاء حياته. إلا أنهم آثروا إفراغ خمس رصاصات “عن قرب” في رأسه! الرأس، ذلك العضو المفكر، الذهني، حامل الدماغ ومركز العقل، منبع الإبداع والابتكار والخيال والفرادة والتميز، المخ والمخيخ. والرأس فيه الجمجمة والنافوخ وبداخله تعتمل الأفكار وتنتج الحضارة. في العامية الشعبية يقال “نافوخه” ويرد في جمل مثل (وجعني نافوخي من الدرس والتفكير)، والرأس حامل اللسان، والأذنان والعينان أدوات التواصل والتعبير عن الرأي والأفكار والمشاعر.
يأخذني التفكير، كما أخذ الجناة التفكير في ماهية قتله وكيفيتها وما تنتجه عملية القتل من أهداف ورسائل لمن يهمه الأمر. لو كانت العملية بداعي الحب والعلاقات الغرامية كما نشاهد في الأفلام ونقرأ في الروايات لكانت الرصاصات توجهت مباشرة إلى القلب، من المحبوب إلى محبوبته ومن العشيق إلى عشيقته. لكنها في حالة لقمان سليم كانت مقصودة في أن تتوجه إلى رأسه. كانت الرسالة تفيد: سنفجر رأسك وفكرك وعقلك وجمجمتك ونافوخك ومخك وذهنك وخيالك وإبداعك وبخمس رصاصات حاقدة وعن قرب. ولتكن عبرة لمن يعتبر، قال الجناة في سرّهم. فهناك ندرة في الفكر والمفكرين لدى هؤلاء ولدى مناصريهم، ندرة لا يمكن لجمها سوى بالاغتيال.
لكن، هل نجحوا، وهل أخذنا العبرة وصمتنا؟
لا.
#صفر_خوف
وكما جرت العادة، فإن الاغتيال الجسدي كان لا بد أن يستتبع باغتيال الذكرى وتشويه الصورة. وبدأ كل ذلك بحملة ممنهجة في الإعلام للتصويب على المغدور وتسيير دفة الرأي العام لتبرير اغتيال سليم أو على الأقل لعدم المطالبة بكشف الحقيقة والمحاسبة. ويمكن القول براحة ضمير أن جزءا كبيرا من البيئة الشيعية في لبنان، والتي أجاد حزب الله صنعها وقولبتها، تم تحويل وعيها إلى بيئة معتادة على القتل وتقبل الموت والاغتيال والترهيب كما لو أنه أمر عابر وروتين يومي يمكن القفز فوقه. ولربما يمكن القول إن المثل الشعبي “الضرب في الميت حرام” قد تم عكسه ليصبح “الضرب في الميت حلال”. وتم حشو المعلومات المضللة والمغلوطة والكاذبة في وعي هذه الغالبية من هذه البيئة.
بدأ التحريض منذ عام 2012 مرورًا بالملصقات على جدران منزله في حارة حريك في الضاحية الجنوبية في بيروت والتي كتب عليها “المجد لكاتم الصوت”. وكان قد أصدر سليم بيانًا وحمّل مسؤولية أيّ أذى يتعرض له لرئيس مجلس النواب نبيه بري وأمين عام حزب الله حسن نصرالله، لكن أي مرجع قضائي لم يقم بخطوة بديهية ألا وهي استدعاء بري ونصرالله للاستماع إلى أقوالهما فيما خص جريمة الاغتيال. ولنعتبر أن بري يمتلك حصانة نيابية فما المانع من استجواب حسن نصرالله؟ أو على الأقل الطلب في استجواب ممثل ووكيل عن الرجلين أو عن الحزبين. فهناك شخص تعرض لتهديدات ومن ثم أخبر الأجهزة الأمنية بالمسؤولين عن الخطر المحدق بحياته لكنه بالرغم من كل ذلك تمت تصفيته وتغاضى القضاء عن هذه النقطة كأنها شيء لم يكن.
تبع كل ذلك مقال لإبراهيم الأمين في جريدة الأخبار يحاسب من خلاله أفكار لقمان سليم وتوجهاته السياسية، وكأن الأمين يعلنها حربًا أهلية ويحول قلمه إلى مسدس لينهي من خلاله حياة كل من يعترض على سياسات محوره السياسية. لا بل يقارن الأمين بين اغتيال قاسم سليماني وبين اغتيال لقمان سليم دون الأخذ بعين الاعتبار أن الأول لبناني والثاني إيراني، ودون البحث في طبيعة الاغتيالات كون اغتيال سليماني جاء من ضمن حرب عسكرية مخابراتية وسليماني جزء من هذه الحرب، بينما لقمان سليم ناشط مدني ليس لديه سوى أفكاره ليطرحها ويجاهر بها أمام العلن. ويسوق الأمين بشواهد ودلالات أخرى أقل ما يمكن القول فيها إنها “حاقدة” وأنها غير مهنية ولاأخلاقية وبأنها عملية ممنهجة صدر الأمر بها من غرفة عمليات إعلامية يقودها حزب الله في محاولة لمحو ذكرى لقمان سليم وطمسها وشيطنته بعد اغتياله.
دلالة أخرى، وفي ذات اليوم والتاريخ، نشر رضوان مرتضى مقالا في الجريدة نفسها يتساءل عن السبب في عدم تسليم الهاتف المحمول الخاص بالمغدور لقمان سليم، ويطرح جملة من النقاط ضمن ما يمكن تسميته “الارتياب المشروع” ليخلص إلى نتيجة أن عدم تسليم الهاتف من قبل عائلة سليم سيعيق مجرى التحقيق وسيقوض العدالة! ولعل مرتضى في تساؤلاته هذه إنما يتحسر لعدم تسليم الهاتف ذلك أنه مستعجل ومتشوق لتسريب محتوى الهاتف ليغتال لقمان مرة تانية.
ومن المعلوم أن هذا الصحافي لا يتوانى عن الكشف عن التحقيقات ونشرها وأذية الآخرين وله سوابق في ذلك كادت تودي بإنسان بريء إلى الإعدام. وهذه الماكينة الإعلامية ليس لديها أيّ حدود أخلاقية أو مهنية وهي مستعدة للدخول حتى في تفاصيل الحياة الشخصية وكشف العلاقات الغرامية والجنسية أو أيّ قصة من أجل تشويه صورة معارضيها.
هناك قلق لدى مرتضى على التحقيقات ويتساءل في مقاله “اللافت أنّ القضاء لم يُحرِّك ساكناً حيال إخفاء دليل ربما يكون أساسياً في الجريمة. لم تتجرّأ السلطة القضائية على اتخاذ أيّ قرار بإلزام العائلة بتسليم دليل، من المحتمل أن يؤدي إخفاؤه إلى عرقلة التحقيق لكشف هوية مرتكبي جريمة الاغتيال”. لوهلة يمكن الظن أن مرتضى يشعر بحرقة في قلبه على عرقلة مسار التحقيق لكن الأسلوب التشكيكي الذي اعتمده في صياغة مقاله لا يترك مجالًا للشك بأنه منحاز ويمارس دوره ضمن البروباغندا لاستكمال اغتيال سليم إعلاميًا.
ومن المؤسف عدم مواجهة هذا الخطاب بخطاب أشرس منه، وعدم مواجهة هذه المحاولات لاغتيال لقمان سليم مرات ومرات، وهي محاولات قادتها جريدة الأخبار ومن يدورون في فلكها. وكل ما طرح من تساؤلات مموهة بلباس الحمل الوديع إنما تخفي ذئابًا مستعدة لنهش الجثث بعد إخراجها من قبورها. وكل من يسكت اليوم أمام هذه البروباغندا وعمليات الترهيب والاغتيال، سيجد رقبته غدًا تحت المقصلة.
فهناك عملية ممنهجة في التخوين والتهديد بالقتل واستباحة دماءه في الإعلام، وأكثر من ذلك، فقد أبلغوه بالطريقة التي سيقتلونه بها أي عبر “كاتم الصوت” فقام المغدور لقمان سليم بكتابة وصيته وحدد أسماء القتلى. لكن يقول نصرالله في خطابه الذي تلا مقالات جريدة الأخبار “لننتظر التحقيق”، وفي اليوم الثاني يتم تنحية القاضي فادي صوان عن التحقيق في ملف انفجار مرفأ بيروت والذي أودى بربع العاصمة للكب والتلف ومئتي قتيل وملايين من الدولارات تكاليف إعادة الإعمار. صار الأمر كالتالي: عندما يقول أحدهم “من الأجهزة الأمنية والقضائية كشف ملابسات الجريمة” فمعناها أن هذا الشخص منافق. يريدنا نصرالله أن نصدق كذبة التحقيق القضائي، مع العلم أن حزب الله لم يلتزم يومًا بمثول أيّ شخصية من كوادره وقياداته أمام محاكم الدولة اللبنانية ولا حتى أمام المحاكم الدولية بما فيها محكمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
في خطابه ألمح نصرالله إلى أن الدول وأجهزة المخابرات “تقتل عملاءها” ولم يقم بتسميه لقمان سليم بالاسم، لكنه فند أمثلة تاريخية ليصل إلى نتيجة مفادها “أنتم تتهموننا دون وجود أدلة”. إذن يطلب نصرالله من اللبنانيين أن يقدموا له دليلًا على عملية اغتيال، والمنطق نفسه يستخدمه السياسيون في لبنان حين يقولون “هاتوا دليلًا على أننا سرقنا” ويواظبون على علك جمل مثل “أبرزوا المستندات للقضاء حول فسادنا” وهي مقولات ولّى عليها الزمن ولا يصدقها سوى الدهماء. هناك عملية اغتيال سياسي حصلت ولم ولن يكشف عمّن فعلها كمثيلاتها منذ عام 2004 وحتى اليوم حيث ظلت سلسلة الاغتيالات مبهمة ودون أي نتيجة نهائية في التحقيق الأمني والقضائي.
على الصعيد الشعبي، كان لزامًا ختم سيرة لقمان سليم بالشمع الأحمر والبت بأمر مقتله. يقول لي أحد الأصدقاء والذين قرأوا مقالاتي عن لقمان سليم وتحديدًا ما كتبته عن والدة المغدور السيدة سلوى مرشاق، ويرسل لي عبر رسالة نصية التالي “ليس من الضروري أن نجعل من رشا ولقمان ووالدتهما أبطالًا. الرجل كان يدعو للحرب وهناك مليون علامة استفهام حوله. الاغتيال مرفوض لكن لماذا الإصرار على جعله بطلًا؟!”. وهكذا سرت ذات الأفكار ونفس التبريرات لدى غالبية عظمى من الشيعة كما تفتك النار في القش اليابس. ساد القلق من جعل لقمان بطلًا ومن جعل أمه رمزًا. دومًا كان منطقهم يحمل ازدواجية من تبرير القتل مع “لكن” لاستنكار فعل القتل.
منهج لغوي له أساسه في الفكر وتمت صياغته وقولبته بشكل جماعي عبر حشو المعلومات المضللة والمغلوطة لدى غالبية الشيعة ممن يوالون الثنائي الشيعي. أحد المقربين جدًا من أفراد عائلتي وهو مراهق يكاد لا يتجاوز 17 عامًا تلقى اتصالا من أحد أصدقائه ويعلمه فيها بإنشاء مجموعات عبر الواتسآب والفيسبوك هدفها “الرد على كل الصفحات والأقاويل التي تعارض ما يقوله السيد حسن نصرالله”، ومن هذا المنطلق اشتغلت الماكينة الإعلامية والذباب الإلكتروني من أجل تبرير الاغتيال وتصفية ذكرى لقمان سليم واعتبارها أمرًا عاديًا.
ووفق هذا المنوال، اجتث حزب الله انتفاضة 17 تشرين ولم يهدأ له بال حتى دفنها في مهدها. وبالمقارنة بين السيناريوهات يمكن فهم وكشف القواسم المشتركة وآلية عمل هذا الحزب الإعلامية والسياسية والخطابية والشعبية والعنفية. في مواجهته مع انتفاضة 17 تشرين استثمر هذا الحزب في التخوين والعمالة والتمويل الأجنبي، ولا زالت خطابات أمينه العام قريبة من الذاكرة “من أين لكم ثمن السندويشات” وتفضلو “قولوا من هي قياداتكم” إلى آخر هذه الديباجة. يعرف هذا الحزب كيف يقسم الأدوار بشكل جيد وكيف يبدأ ضرباته ومتى تكون الضربة القاضية، وكما حصل وتعامل مع انتفاضة 17 تشرين، نجده تعامل مع اغتيال لقمان سليم.
وكان قد قال لي يومًا لقمان سليم في إحدى المقابلات واصفًا القاتل “نظام مقفل، حديدي، وشركة قابضة، بأذرع عديدة، تنظم فساد النظام في لبنان، ويأتمر بأمرها صغار الطغاة”. فحزب الله ليس لديه حلفاء، بل لديه عبيد، يأتمرون بأمره، ومن تشذ أفكاره عن الخط المرسوم والمحدد سلفًا تتم تصفيته. هناك دومًا تهمة جاهزة وهي العمالة، تليها الشيطنة، ثم عنف اجتماعي، ثم ضغط “الأهالي الغاضبين الخارج عن السيطرة”، فمن ثم التصفية الجسدية، والمرحلة الأخيرة طمس معالم الجريمة والذكرى والبطولة. يمكن التغاضي مثلًا عن زعيم مسيحي كجبران باسيل حين يقول بأن “لإسرائيل الحق في العيش في سلام” في مقابلة تلفزيونية ولكن لا يمكن القبول بشخصية شيعية معارضة.
وأضاف لقمان في حديثه “بين لبنان البار وبين لبنان ولاية الفقيه، يكون الاختيار الأنسب للبنان البار، لأن العاهرة أشرف بكثير”، واليوم يمكنني القول إضافة لما قاله المغدور: فعلًا، العاهرة أشرف من كاتم الصوت.