اقتلوا هاملت.. طيف الأمير الدنماركي ما زال هائما بيننا

يمكن قراءة هاملت الآن، ضمن حاضرنا، بوصفه أسير مجموعة من الأفخاخ، تترصد موته.
الاثنين 2018/10/01
هاملت الراغب بالاستقلال عن ذاته وتاريخه من عرض "ماكينة هاملت" إخراج روبيرت ويلسون 2017

هل يمكن الحديث عن هاملت الآن؟ ألم تنل الشخصية المسرحيّة الأشهر نصيبها من الدراسة والتمحيص، وما يكفي لملء ملعب كرة قدم؟ سذاجة الأسئلة السابقة مرتبطة لا فقط بنص المسرحية، بل بشعريّة هاملت وقدرته على التحول بين القطاعات الثقافيّة المختلفة، هو أشبه بكلمة معجميّة، أو علامة في الدرجة صفر، يختزن داخله تاريخا بأكمله ونموذجا للتأويل، هو يتنقل بين تاريخ المسرح وعلم النفس والسياسة وعلم الاجتماع، أِشبه بجذر لغوي للحالة البشريّة، والتطورات والتعديلات التي تطرأ عليها في كل عصر، وكأنه أصل، يتفرع منه الإنسان المعاصر، جاعلا أحد أعراض الموضوعة البشريّة هو أن تكون “هامليتة”، مترددة، خطرة، تميل نحو القتل.

يمكن قراءة هاملت الآن، ضمن حاضرنا، بوصفه أسير مجموعة من الأفخاخ، تترصد موته، فعمه يخطط كل مرة لقتله، وهو واع بهذا القتل، واع بأن خطأ ما سيودي بحياته، هو مثلنا الآن محاط بوسائل مراقبة وتلصص تنتهك خصوصيته، تتبع حركاته وتتوقعها وتعرضه دائما للموت، فهناك كتلة بشرية تسعى لاصطياده بوصفه عدوا، كما نحن الآن، محاطون بشرطة ورجال أمن ودرونات تترصد حركاتنا وتسعى لنمذجتها.

هاملت الذي تحيط به غوايات الموت، يحدق بوجه قاتله المحتمل ويؤدي أمامه دوري الضحيّة والمنتقم، هو مثلنا حينما نحدق بأوجه البنادق والكاميرات التي تهددنا، لكن، كبشري، شبه مجنون، يقرر هاملت اللعب، يستفز السلطة وجهازها البشري، يؤدي مع فرقة هواة أمام الملك ليكشف ضعفه ويهدد سلطته، كفناني الأداء الآن الذين يواجهون تقنيات السلطة، هم مهرجون يسخرون من السيادة ويعرضون أنفسهم لخطرها، كما هاملت، الذي يلقي بنفسه للخطر ليفضح الملك، هو يلعب بجدية طفل على وشك الوقوع في الفخ، ويتفاداه في آخر لحظة، مدركا أنه يوما ما سيسقط، كمحتج على نظام سياسي يعلم أنه سيعتقل أو سيضرب في لحظة ما، مع ذلك نراه يصرخ بوجه السلطة.

ضد السيادة

يشكل هاملت تهديدا لرأس السلطة، ذاك الذي يقرر الحياة والموت ويحدد حالات الاستثناء حسب تعريفات السيادة التقليديّة، تلك التي يمكن فيها القتل دون جريمة، هو يضع جسده وجسد السيادة (الملك) على قدم المساواة، كلاهما يتحرك خارج القانون، أعلى منه، والأهم أنه يشكك بسلطة القتل التي يمتلكها الملك، من هو الذي يتمتع بسلطة قتل الآخر، وتحديد لحظة الموت، الملك المتحكم صاحب السطوة والجهاز البشري، أم هاملت المجنون الوحيد الذي لا سلاح له إلا جنونه وكلماته.

قرار الموت يعني امتلاك السلطة، وصراع هاملت مع الملك هو صراع على سلطة السيادة على الجسد، جسد الملك بمواجهة جسد المجنون، لكن الاختلاف أن كلاوديوس اغتال جسد السلطة السابق، تلصص سرا، واغتال دون أن يعلم أحد، إذ نصب فخا لـ”الجسد” الملكي لينال سلطته، بعكس هاملت، يواجه جسد السلطة بجسده، علنا، يتحرر بالجنون من سطوة “القانون” ليهدد جسمانيّة الملك، هو قريب منه، يتلصص عليه، ويفضح نواياه، هو الخطر الوحيد الحقيقي على جسد الملك كونه قادرا على لمسه وتحسسه، وتهديده وجها لوجه، بعكس الملوك الآخرين في المنطقة.

التناقض يكمن في أن الملك يريد هاملت قريبا دوما، هو خطر أيضا خارجا، يذكر الناس بفساد الحكم في الدنمارك، هو الطاعون الذي لا بد من احتوائه، ما يجعله دائما تحت المراقبة، فالملك يختزن بجسده السلطة التي يظن واهما أنها منيعة على الجنون، لكن هاملت، كأي داء، يفتك بذاته وبالآخرين، هو الأضحية المثاليّة، التي تختزن نهاية العنف بجسدها، مبشرة بسلطة جديدة، بملك شاب يدخل نهاية المسرحيّة، ويقول “أخرجوا هذه الجثث: أنا الآن ملككم”.

الرأس المنكمش لهاملت

أوفيليا في عرض "ماكينة هاملت" شخصية تهدد البشرية والسلطة التي تضمن استمرارها
أوفيليا في عرض "ماكينة هاملت" شخصية تهدد البشرية والسلطة التي تضمن استمرارها

يشكل هاملت تحديا لأي كاتب مسرحي، لكن ماذا لو قرر واحد منهم أن يكتب نصا عن نصوص هاملت، كما فعل هاينر مولر (1929-1995) في نصه الأشهر “ماكينة هاملت”؛ “Hamlet machine”، فالأخير كَتب النص بعد إعداده ترجمة لهاملت بدأها في الخمسينات، منتجا نصا بحوالي 200 صفحة، لينهيه بنسخته الحالية عام 1977 بثماني صفحات.

جاءت التسمية حسب مولر من مفهوم مارسيل دوشامب النقدي وعمله الفني “الآلة العزباء”؛ “la Machine célibataire”  الذي اقترحه عام 1913، واستخدمه أيضا كل من جيل دولوز وفليكس غواتري في “ضد أوديب”، فماكينة هاملت من النصوص المسرحيّة التي   تجعل من هاملت ماكينة ذات رغبة في الاستقلال عن ماضيها وما حولها، فهو يحمل موضوعات الوقوف بوجه الأنظمة السياسيّة، والتأكيد على الجسد بوصفه مصدر المعرفة، وإعلاء الخطاب النسوي، واستخدام البارودي والمحاكاة الساخرة للماضي ونصوصه، معيدا توليف علاماتها، عبر حكاية بلد شيوعي ينتمي إلى حقبة ما بعد موت ستالين، يموت فيه ضابط ذو رتبة عالية في الحزب في ظروف غامضة، ثم تقام له جنازة رسمية من قبل الدولة – الحزب الحاكم – يحضرها ابنه، ليكون الأخير معادلا عن هاملت إن كان يعيش في ظل الحكم الشيوعي، حيث السلطة لا تتمثل بشخص فقط، بل بنظام كامل ذي أجهزة متعددة للرقابة والسيطرة.

“كُنت هاملت”، يبدأ النص بهذه العبارة التي تحيل إلى التراث المسرحي لشيكسبير، الذي يبدأ مولر بتفكيكه، إذ نرى هاملت مثقفا يواجه العالم ومؤسساته وسلطته، كما أن النص لا يحوي أسماء الشخصيات في البداية كشكل المسرحية التقليدي، ومقسم إلى خمسة مقاطع سرديّة -فصول-، أقرب إلى كتل نصيّة أو مونولوغات، حسب تعبير مولر، تتداخل فيها التعليمات الإخراجية مع كلام الشخصيات وحركتهم على الخشبة، بالإضافة إلى اللغة الشعرية والتناصات مع نصوص أخرى تذكر على ألسنة الشخصيات، والتي ترسم ملامح كل منها لا بوصفها أفرادا ضمن بنية درامية خطيّة، بل أقرب إلى موضوعات تعكسها كل شخصيّة، فأوفيليا وهاملت وهواريشيو هم انعكاس لفكرة، لا لفرد ذي خصائص بشرية، والمؤدي يتنقل بين هذه الشخصيات التي تتنكر وتغير أشكالها وتصرفاتها وتخرج عن دورها ضمن النص وتنعتق من سلطة الكتابة نفسها كما في المقطع الرابع: “أنا لست هاملت، ولم أعد أؤدي دوري المسرحي، لم تعد لكلماتي أي معنى أو حكاية”.

تحضر في ماكينة هاملت شخصيات شيكسبير إلى جانب شخصيات تاريخية، وكأنه يحرره من سلطة المآسي الشيكسبيرية، إذ تدخل الشخصيات في عالم من الغروتيسك والغرائبية يرسمه مولر بوصفه محاكاة وتكثيف للمجتمع الحداثي، الذي تهيمن عليه الآلة والسلطة ووسائل الإعلام، إذ يتردد اسم ماكبث بصوفه الطاغية الشبق للدم، صاحب “مملكة للقاتل” ثم يحضر بعدها فورا راسكولينكولف من الجريمة والعقاب لديستويفسكي بوصفه ضحية المجتمع الذي كان القتل فيه خلاصا وهميا، ثم تتحول أوفيليا إلى إلكترا في انتصار للموقف النسوي، إذ تنكر العالم ومن فيه وتقول “باسم الضحايا، أرفض كل النطاف التي دخلت جوفي، وأحوّل كل حليب صدري إلى سم قاتل”، رافضة الإنجاب، بوصفه مفهوما سياسيا واقتصاديا، مهددة “الحياة” والسلطة التي تضمنها.

هذه الموضوعات-الشخصيات تحضر في زمن النص لتعلن ثورة بوجه النظام الآن، فالشخصية المتخيّلة ذات المرجعية الخرافية تنتقد الحاضر وأدواته بوصفها معادلا لهزيمة الإنسان المكبّل الآن، لعل سطوة الحضور التاريخي-الخرافي قادرة عل مواجهة الحاضر، في سعي للتحرر من قيد هاملت نفسه، من متلازمة الجنون والسلطة.

أعضاء فرقة "الطرق الأربعة" قبل عرض "يوم القتل" في هاملت 2018
أعضاء فرقة "الطرق الأربعة" قبل عرض "يوم القتل" في هاملت 2018

القسوة في ماكينة هاملت مرتبطة بالتمرد والدعوة إلى الثورة، إذ تحضر فيها الموضوعات الشيوعيّة وشخصوها، كماركس ولينين وماو، ووسائل الإعلام والمجازر التي تسببها الحروب، كلها تحضر بلغة بمشهديّة طقسيّة تمتلك مرجعيات ودلالات من الحرب ومآسيها، إذ يقول الممثل “أنا الجندي مع بندقيتي في برج المراقبة، رأسي فارغ تحت الخوذة”، كذلك نرى الخطابات والأدبيات الشيوعيّة تحضر في سبيل انتقادها، فكل من ماركس ولينين وماو يحضرون كنساء عاريات، وكل يردد بلغته من كتاب ماركس (مقدمة في نقد فلسفة القانون عند هيجل): “الهدف الرئيسي هو الإطاحة بكل الظروف القائمة”.

نقرأ أيضا في ماكينة هاملت المواجهة بين الإنسان المثقف، الإنساني جدا، وبين سلطة القمع والنظام السياسي والفني والاقتصادي والاجتماعي، إذ يعكس النص هزيمة الإنسان/العقل – هاملت – أمام الآلة الممعنة في القتل، ما جعله، الإنسان، يفقد جوهره الإنساني، فهاملت يدخل جامعة الموتى، فيرمي عليه الفلاسفة في القبور مؤلفاتهم، كما يرى النساء معلّقات بحبال ومقطوعات الأوردة، لكنه “يتأملهن كزائر في متحف”، وكأننا محكومون بأن نكون موتى يوما ما، وحتى أولئك الذين كانوا ذا “عقل” فليسوا إلا كائنات متحفيّة، عصيّة على التكرار واللمس.

تتردد في النص موضوعتا الموت والانتحار بكثرة، بوصفهما موقف رفض وتحد، فهاملت شيكسبير مصاب بالشلل نتيجة عقلانيته، فهو لم “يفعل/يكون”، فانتهى به الأمر بممارسة القتل، لكن هاملت في الماكينة يتمرد على الدور المفروض عليه، ويتجرد من مأساته رافضا القتل، هذا التمرد يجعله عرضة للخطر من قبل الشرطة والجموع التي تهاجمه، وهو يتأمل ذاته أمام المرآة، لتكون هذه التحديقة في التاريخ المسرحي وحضور الشخصية المسرحيّة – هاملت – محاولة لانتقاد النظام الذي يُمعن في قتل الإنسان وإنتاج هاملت والظروف المختلفة لدفعه إلى القتل. ذات الشيء يحصل مع أوفيليا في نص شيكسبير التي تختار الانتحار، بوصفه تحديا للموت المفروض عليها، إلا أنها في الماكينة ترفض هذا الانتحار وتختار القتل، رافضة الذكورة المهيمنة بتحولها إلى ألكترا قائلة “فلتحيا الكراهية والاحتقار، التمرد والموت، فحين تمشي في غرف نومكم تحمل سكين جزار، ستعرفون الحقيقة”.

هاملت يقتل في يوم واحد

تأسست فرقة “الطرق الأربعة” المسرحيّة منذ عامين، وتحوي ثمانية أفراد، مُمثلين ومُمثلتين وأربعة فنيين. الأعضاء الذين ما زالوا في بداية العشرينات، يأتون من خلفيات جامعية مسرحية وسينمائيّة مختلفة، وبالتعاون مع الممثل الفرنسي الشهير ميشيل بوكيت، أقامت الفرقة أول عرض لها في باريس، بميزانية متواضعة لا تتجاوز الألفي يورو.

تمكن أعضاء الفرقة من الحصول على مسرح الملكة البيضاء في العاصمة الفرنسيّة، واختاروا لإنتاجهم الأول نص “يوم القتل في قصة هاملت” للفرنسي برنار ماري-كولتيس، وحاولت المسرحية التي عُرضت فقط أربعة مرات الإحاطة بنص كولتيس ورؤيته لمأساة شيكسبير الشهيرة، وتلمس معالم متاهة الجنون التي يتردد فيها صوت هاملت، وصدى شبح والده الذي يطلب الانتقام.

كتب كولتيس النص بعمر السادسة والعشرين عام 1974، بعد قراءته لترجمة إيف بونفوا لأعمال شكسبير، ومن العنوان يتضح أن كولتيس حاول أن يختزل زمن فصول المسرحيّة الخمسة في خمسة فصول تدور في يوم واحد ومكان واحد، مستعيدا بنية المسرح الأرسطي، تلك التي كسرها شيكسبير في النص الأصلي، كما قلّص كولتيس الشخصيات إلى أربع، هاملت وأوفيليا وغيرتود والدة هاملت وعمه كلاوديوس.

التزمت الفرقة بتعليمات كولتيس الإخراجيّة بدقة، وحاولت بإمكانياتها المتواضعة خلق الفضاء الذي تخيله وصنعه سابقا، وذلك بسبب دور الفضاء الهام في دفع أحداث المسرحيّة والكشف عن نوايا شخوصها، التي تتنصت على بعضها البعض وتتسلسل خلسة للاستماع ومراقبة ما يفعله الآخرون، كهاملت الذي يراقب أمّه وهي نائمة، أو كلاوديوس الذي يعترف في الظلام بأن كل مياه البحر لن تغسل الدماء عن يديه، وفي ذات الوقت، يتلصص هو وغيرتوود على هاملت وأوفيليا، لكن إدراك هاملت أن هناك من يسمعهم دفعه إلى إهانة أوفيليا وطردها بعيدا ليثير غضب المتلصصين، إذ يطلب من أوفيليا أن تذهب إلى بيت البغاء أو تنجب أطفالا وتتركه لجنونه.

يلعب الصوت ضمن الفضاء السابق دورا كبيرا في الكشف عن نوايا الشخصيات ودواخلها، سواء في النص أو العرض، فصوت شبح والد هاملت المرفق للريح وصوت الأمواج في “الخارج”، يناقضهما الصمت في داخل القصر، فالريح من الخارج تحمل معها الموت للشخصيات التي لا تعيرها اهتماما، إلا هاملت، الذي يجد فيها سلامه وسكينته، في حين أن صمت الداخل يخلق الرعب لدى الجميع، وكأنه معادل لترقب المجهول.

أضافت الفرقة إلى نص كولتيس بعض التعديلات، إذ نسمع بعد موت أوفيليا التي “لم تغُرق نفسها، بل أتى الماء وأخذها”، قصيدة أوفيليا لآرثر رامبو، والتي يلقيها صوت والد هاملت قائلا في مطلعها “على الأمواج السوداء الهادئة، حيث ترقد النجوم/ تعوم أوفيليا البيضاء كزنبقة،/ تعوم ببطء شديد، ممدة بردائها الطويل…/ نسمع صيحات الصيادين في الغابات البعيدة”.

يجعل كولتيس القتل في المسرحيّة أشبه بنتيجة يوم من الجنون، تتسلل فيه هلاوس البحر والريح إلى القصر، مشعلة جنون هاملت كوباء، يتسلل بين الممرات، مصيبا كل الموجودين بعدوى هاملت، الذي يشكك بعلاقته بنفسه وبمن هم حوله، ويدفع كلاوديوس إلى الشكّ في حبّ غيرتوود له، التي تصاب بـ”لوثة جنون” وتدعو إلى قتله، وتحضّ الملك على الاستثمار في جنون هاملت وشغفه، كونهما سبيل هلاك ابنها، فهاملت يتلبس كل واحد من الشخصيات، يفتح آذانها على صوت الريح/الموت التي تأخذ نهاية حياة الجميع.

الفرقة التي ما زالت في بداياتها قدمت عرضا لا يخلو من بعض الزلات، واعتمدت على شعرية نص كولتيس كبديل عن تماسك الأداء، الذي بدا في بعض الأحيان أقرب إلى شعر يلقى أمام جمهور أكثر من أن يكون تجسيدا لشخصيات هاملت، وخصوصا أن كولتيس يركز على الحوار والانفعالات المرتبطة به، لكشف علاقات هاملت مع الآخرين، الذي لا يغرق في التفكير، كون الخديعة والمؤامرات التي تحاك ضده واضحة له، ولا يحاول تفاديها أو التلاعب بها.

الانعتاق: هاملت غائبا

أنا لست هاملت، ولم أعد أؤدي دوري المسرحي- من عرض "ماكينة هاملت"
أنا لست هاملت، ولم أعد أؤدي دوري المسرحي- من عرض "ماكينة هاملت"

أكثر ضحايا هاملت مأساوية هي أوفيليا، إذ قتل الأول والدها، وجعلها يتيمة مثله، وتركها للمياه تسحب جثتها، أوفيليا الوحيدة التي صدقت ألعاب هاملت، هي الضحية التي ذهبت عنا بصمت، وخبر موتها لم يكن إلا على لسان غيرتوود، التي تأملت المياه تبتلعها دون أن تساعدها، وكأن أوفيليا ضحية مجانيّة، طعم ألقي لهاملت ليتم لعبته.

هامت أوفيليا وحيدة، تتبع طيف حبّها، تلملم ورود موتها، وكأنها تصنع تاج رحيلها، لتسجى على النهر، تتداخل مياهه مع أنفاسها، التي غنّت نشيد موتها، مسجاة على النهر، كما في لوحة جون إيفيرت ميلياس، حيث وجهها الشاحب تحمله المياه، يتأمل السماء حيث حريتها المزعومة، كونها الوحيدة في النص الشيكسبيري التي انتحرت ولم تُقتل، الشجاعة الوحيدة في النص التي أخذت حياتها بنفسها دون تدخل ماديّ من هاملت.

أغوت أوفيليا الفرنسي آرثر رامبو، فالقصيدة المذكورة سابقا كتبها صاحب فصل في الجحيم عام 1870، محاولا إعادة تكوين مشهد موت أوفيليا، بصوت مغاير لصوت الملكة، حيث نقرأ كيف تعريها عناصر الطبيعة، لتصبح ثلجا، وماء، تحمل الريح عبقها، زنبقة تطفو على سطح النهر، هاربة من أًصوات الصيادين ومختارة مصيرها بنفسها.

تعتبر قصيدة أوفيليا لرامبو امتدادا لرغبة الأخير نفسها في الانتحار، التي نراها في قصائد أخرى له، لكنه في هذه يتناول القصدية، يتناول موضوعة الغرق، وأوفيليا شيكسبير نفسها، عبر حفاظه على اسمها الإنكليزي، محاولا تحريرها من لعنة غيرتوود وهاملت، جاعلا أيها كيانا حالما، يسعى نحو أحلامه كما يفعل هو، إذ يصفها بالوردة والطفلة، تلك التي ما زالت بريئة وعصف بها جنون هاملت، فأوفيليا لدى رامبو، نقيّة، كالزنبقة، لم تغرق حتى، بل تطفو، بيضاء، بعكس الليل الأسود الذي تاهت فيه، يدلها ضوء نجومه نحو حتفها.

يتلاعب رامبو بالألوان،، فكل ما هو أبيض نقي طاهر: أوفيليا، النجوم، الزنبق. أما الليل، وجنونه، فهو بديل عن الموت، وانتحار أوفيليا، وطفوها، جعلها في المنتصف، شاحبة، شبحا معلّقا بين النقاء والسواد، هي لم تغرق، تتوازن أفقيا مع الأفق ومع النهر، وكأن النهر ما زال يريدها حيّة أو شبه حية، فعيناها مفتحتان، وتوقظ بحركتها ما حولها من كائنات، تتماهى حركات طفوها مع النهر، وكأنهما واحد يكشف كل منهما عن مكامن الآخر، فهي تحرك زهوره وهو يكشف جسمها وعبقها.

القصيدة

1

على الأمواج السوداء الهادئة، حيث ترقد النجوم

تعوم أوفيليا البيضاء كزنبقة،

تعوم ببطء شديد، ممدة بردائها الطويل…

 نسمع صيحات الصيادين في الغابات البعيدة.

2

منذ أكثر من ألف عام، تمر أوفيليا

شبحا أبيض على النهر الأسود الطويل.

منذ أكثر من ألف عام يتمتم جنونها العذب

بأغنياتها لنسيم المساء.

***

كلاوديوس يعترف: كل مياه البحر لن تغسل الدماء عن يديه من عرض "يوم القتل"
كلاوديوس يعترف: كل مياه البحر لن تغسل الدماء عن يديه من عرض "يوم القتل"

تقبّل الريح نهديها كبراعم،

وتكشف ثيابها التي برفق، تعلو وتهبط مع المياه،

ينوح الصفصاف مرتجفا على كتفيها،

وينحني القصب على جبينها الواسع، جبينها الحالم.

***

تتنهد حولها الزنابق،

وتوقظ أحيانا حفنة زهور،

تهرب منها خفقات أجنحة.

نشيد غامض يقع من نجوم من ذهب.

2

يا أوفيليا الشاحبة، جملية أنت كالثلج!

نعم، مُتِّ أنتِ، طفلةً، جرفها نهرٌ.

همست لك الرياح القادمة من أعالي جبال النروج،

همست لك عن مرارة الحريّة.

***

نسمة ريح، لوت شعرك،

حملت معها ضجيجا غريبا، سكن روحك الحالمة،

قلبك، كان ينصت لغناء الطبيعة،

 في نواح الأشجار وأنفاس الليل.

***

صوت البحار المجنونة، والزئير العظيم

كسرا قلبك الطفولي، المفرط في بشريته، المفرط برقته.

كان فارسا شاحبا، مجنونا، جميلا،

جلس صامتا عند ركبتيك في واحد من صباحات نيسان.

***

السماء! الحبّ! الحريّة! يا له من حلم، أيتها المجنونة المسكينة!

ذبت فيه، كالثلج يذوب في النار:

خنقت بصيرتك كلماتك

والأبديّة المرعبة أرعشت عينك الزرقاء!

3

وقال الشاعر أن ضوء النجوم كان دليلك ليلا،

إلى الزهور التي قطفتها

وأنه رأى على الماء، أوفيليا البيضاء، طافية،

بثوبها الطويل، كزنبقة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.