الآخر الذي هو أنا
شغلت مشكلة الآخر أغلب الفلاسفة بما هو، أي الآخر، الحدّ الضروري للترابط المعشري. ولأن جميع الفلاسفة الذين تناولوا مسألة الآخر ظلوا في حقل الكلي، فإن الانتقال من الحقل الكلي المجرد إلى الحقل المتعين أمر في غاية الأهمية. إذ يتحول الكلي هنا إلى منهج لفهم المتعين.
يتحدث الفلاسفة عن الآخر في مقابل الذات أو الأنا. لكن الآخر هو ذات، هو أنا، ولهذا كل ذات هي آخر و كل آخر هي ذات. وكل أنا هو آخر وكل آخر هو أنا. والترابط يقوم بين الذوات وبين الأنوات.
ولكن متى تتحول الذات إلى آخر؟ كل ذات تصبح آخر عندما تصبح موضوعا لذات أخرى. إذن إن عدد الآخرين بالنسبة لي يساوي عدد الذين هم على علاقة معي، إنهم موضوع حب وكره ومصلحة وشعور بالانتماء والقرابة والصداقة والزمالة والرفاقية والجيرة والاختلاف والصراع والعمل والبيع والشراء.
تتولد عن هذه العلاقات، أو تنتج هذه العلاقات مواقف متنوعة: العدوانية والوئام، الحسد وحب الخير، الغيرة والود، النميمة والصراحة والمدح والقدح، البخل والكرم، الاختلاف والاتفاق وهكذا… ولأن الأمر على هذا النحو، فالآخر حاضر في ثقافة حول الآخر، فالفرد هو ابن الثقافة التي تقول لي كيف أبني علاقتي بالآخر.
نحن هنا لا نتحدث الآن عن الأخر الأجنبي، ليس عن علاقتي بالأوروبي والأميركي ووو. بل عن الآخر الذي أعيش معه في مجتمع واحد، عن نمط العلاقات التي تحدثت عنها وصور الشعور الناتجة عن هذه العلاقة. لا لأن الآخر الأجنبي ليس حاضرا في عالمي، بل لأني لست جزءا من حياة الغرب اليومية إلا بعد أن هاجرت إليه خوفا من آخري. وبعض أشكال الوعي الزائف تنظر إلى الآخر الأجنبي انطلاقا من سياسة دولته، فيغدو موضوع سلب بطرق مختلفة.
تشير التجربة اليومية في عالم العرب إلى أن الآخر هو موضوع نفي متعدّد الأوجه، أو بكلمة أكثر تجريدا هو إمكانية نفي جراء أتفه الأسباب أو من دون أسباب معروفة.
فالآخر هو موضوع نميمة وسخرية وحسد وغيرة وكره كامن. ولهذا فالعلاقات المعشرية من الهشاشة التي تسمح لأي طرف من أطرافها على كسرها.
كيف نشأت هذه البنية الأخلاقية الثقافية النافية للآخر وكيف تطوّرت؟
منذ عصر الانحطاط الذي ران على المنطقة العربية يعاني العرب من ظاهرتين: أولا؛ ضعف الثقافة المدينية وضعف قدرتها على التأثير واختراق ثقافة المجتمع ككل. مما ولد استمرار الذهنية الريفية القائمة على قيم التشابه وذم الاختلاف، وتحديد الآخر القريب انطلاقا من درجة قرابة الدم وصلة الرحم. فيما الآخر البعيد ليس حاضرا إلا بوصفه المختلف بالمعنى السلبي للكلمة. فتتحدّد علاقة الذات بالآخر بدرجة التشابه والاختلاف. ففي حين يكون التشابه مدعاة لعلاقة محمودة يكون الاختلاف مدعاة لعلاقة عدائية. والتشابه هنا لا يعود إلى التشابه في الانتماء إلى الطبقة أو المهنة، بل التشابه في الأخلاق والقيم والأفكار والمواقف.
ولكن التشابه مستحيل بين ذاتين، إذن قد يختلف المتشابهون في الحصول على الغنيمة. وهنا تبرز شجارات المتشابهين المسخرة.
دعني أيها القارئ العزيز أضرب لك مثلا على شجار المتشابهين وخلافهم.
ها نحن أمام شخصين ينتمي كلاهما إلى الأيديولوجيا ذاتها، التي يضمها حزب واحد. واستلم كلاهما منصبا سياسيا، ومنصبا إداريا. ومارس كلاهما الفساد، وأثريا عبر الفساد، وكلاهما الآن في وضع انتظار الرضا. جاء كلاهما من المؤسسة نفسها، وكلاهما من منبت طبقي واحد، ويقيم كلاهما علاقة مع الجهة نفسها وأناس بعينهم، كلاهما في عمر واحد.
عاش كلاهما فترة من الحياة اليومية المشتركة التي أخذت في الظاهر شكل الصداقة، سافرا معا، مارسا طقوس الأكل معا، وسلما على بعضهما البعض بحرارة، ولم يعد كلاهما في موقع السلطة والقرار.
هما الآن في حال خلاف وشجار، أرأيت مشهدا يدعو إلى الضحك أكثر من هذا المشهد؟
وليس هذا فحسب: كل منهما يمارس النميمة على الآخر، والغرابة كل الغرابة أن النميمة المتبادلة بينهما واحدة.
فما يقوله الأول عن الثاني هو ذاته ما يقوله الثاني عن الأول. وسيل الاتهامات التي يسوقها الثاني بالأول هي نفسها الاتهامات التي يسوقها الأول بحق الثاني.
ويزداد الأمر غرابة أن كل واحد منهما يتحيّد الوجود في المكان الذي يوجد فيه الآخر، وإذا ما التقيا مصادفة في مكان واحد فإنهما يتعانقان ويتبادلان التعبير عن الأشواق الحارة.
أعود إلى السؤال ما الذي يحمل شخصين على هذه الدرجة من التشابه بل والتطابق في الأحوال أن يختلفا ويتشاجرا؟ وتصل العداوة بينهما إلى حدّ الإيذاء.
يبدو لي أن أخلاق القيل والقال أو ما نسميه نحن معشر المشتغلين بالفلسفة -ثقافة اللغو- تؤدّي بالمتشابهين إلى الشجار. فكل من المتشاجرين يمتلك من المطاعن والسيئات ما يكفي للحديث عنه بسوء، فيحدث أن يتحدث أحدهما عن الآخر ويأتي ثالث لنقل الحديث ويشي به. فينبري الآخر للدفاع عن نفسه ويبدأ في فضح هذا الذي نال منه بعرض مثالبه وسيئاته وهي المثالب والسيئات التي قالها الآخر عنه.
وهكذا تستعر المعركة بين الاثنين حتى تصل إلى حدّ القطيعة.
فإذا علمت أن عدد هؤلاء المتشاجرين، على ما بينهم من تشابه، صار لا يعدّ ولا يحصى أدركت حجم اللغو الذي يدور.
ومن الفوائد التي يجنيها المرء من هذه المعارك الشجارية التافهة أنه يتعرف على أخلاق أناسٍ كانوا لفترة ما جزءا من جهاز من أجهزة مسيّرة لهذا الجانب أو ذاك من حياتنا، كما يعرفنا عن سلوكهم وعن آلية وصولهم وآلية فسادهم وآلية خلعهم، فأي شرّ أكثر من هذا الشرّ الذي تتعرض له مجتمعاتنا أيها الإنسان العربي الخانع.
وبدوره يكون الاختلاف في الأمور نفسها سبب نفي الآخر.
وقد شهدت المنطقة العربية ظهور السلطات الدكتاتورية من كل الأنواع، السلطات التي تمنع حرية ظهور الذات على حقيقتها، ومتماهية مع الذهنية الريفية في ذمّ الاختلاف. سلطات كرست هيمنتها عبر كل أدوات القمع المادي والمعنوي، وبالتالي كرست شعور غياب الآخر المختلف من جهة، والقيم النافية للآخر من جهة ثانية.
كل نظام قمعي في التاريخ ذي أيديولوجيا تعصبية، يخطب باسم الوطن أو الإله وقيم القطيع، يعمل أول ما يعمل على قتل الأنا والحيلولة دون ظهوره. وكل قتل للأنا قتل للآخر بالضرورة.
فعدم الاعتراف بحق الأنا في الحضور الحر يحمل الإنسان على الخضوع لإرادة جمعية خارجية. أو لإرادة فردية مهيمنة.
فالوعي الذكوري الشرقي مثلا بالمرأة لا يرى في المرأة آخر حرا، والأخطر من ذلك يخلق لدى المرأة فقدان الوعي بأناها، ويصبح وعيها بذاتها هو ذاته وعي الرجل المتخلف بها، وليس هذا فحسب حيث إنها تعمل على إرضاء رجل لا أنا له أصلا. لأنه غارق في غريزة القطيع المتوارثة. غارق في ماضيه الزفتي الذي من شأن الثورة أن تحرر الإنسان كي ينتصر الآخر. فلا انتصار للآخر دون انتصار للأنا، وكل انتصار للأنا هو بالضرورة انتصار للآخر.
والأنا حين يعلن عن نفسه حرا يتحول إلى ذات فاعلة ويتحول الآخر بدوره إلى ذات. وتنتصر العلاقة بين الأنا والآخر بوصفها علاقة بين ذاتين. ولكن كل انتصار للأنا هزيمة للنظام التسلطي، بل قل لا ينتصر الأنا إلا بهزيمة النظام الشمولي- الدكتاتوري، وهزيمة أيّ جماعة ذات عصبية فاشية دينية أو غير دينية تلتهم الفرد وتلغيه.
فليتأمل كل إنسان نفسه ويسأل نفسه هل ما أقدمت عليه صادر عن إرادة حرة؟ إذا أجاب عن هذا السؤال بنعم فهو الثائر الحقيقي ثورة الأنا المنتصر الذي أعلن انتصار الآخر.
وبعد، علينا أن نتساءل: كيف يمكن العيش في عالم يكون فيه طبيب يغير لك اسم دواء كتبه طبيب آخر ومن النوع نفسه، شاعر يهزأ بشعر آخر، روائي يسخر من روايات آخر، مفكر لا يقرأ أعمال آخر، معارض ينفي معارضة آخر، شبيح لا يعجبه تشبيح آخر، جميلة تنفي جمال أخرى، جماعة حاكمة تقتل الآخر. ثقافة تقوم على موت الآخر، أو على نفي الآخر.
إنها بنية ذهنية خطيرة على الحياة. ذهنية تكمن في أحشائها أيديولوجيا القتل. وأيديولوجيا القتل هي أيديولوجيا قتل الآخر.