الآخر واضحا ومستتراً
لا تسمح الثقافة العربية وأحيانا السياسة بالتعامل مع الآخر كحالة وجود إنسانية طبيعية. فهناك الآخر الذي يشبهني ولا يمسّ إنسانيتي لكنه لا يشبهني في التصرفات أو الدين أو العرق أو الجنس. إنه آخر حميد لا يؤلم ولا يشكل خطرا، لكنه غير مقبول ومنبوذ من الأغلبية التي تحكم أو تسيطر فكريا ودينيا، ويتم التعامل معه دائما بحذر وترقب وانتظار. هذا الآخر المفضل في الأدب والذي يمكن التعامل معه بإنسانية كاملة ويمكن النظر من زاوية النظر التي ينظر منها. إنه آخر يمكن الحديث عنه بانفتاح وتقبّل، في مساحة آمنة مثل الأدب. لأنه آخر ضعيف، مهمّش، تهيمن عليه قوة ضاربة يمكن أن يكون الكاتب واحدا منها. ويمكن أن يدرج ضمن هذا النوع “الآخر” الذي يمكن له أن يتحول إلى عدوّ، إنه آخر متوقع ويقف منه الأدب موقفا أخلاقيا حذرا، هذا الآخر الذي ينحدر أخلاقيا، إلى صفة العمالة، أو الانحطاط لكنه لم يصل بعد إلى صفة الآخر الكامل.
الآخر الكامل هو آخر تتم شيطنته بالكامل في الثقافة العربية ويتم التعامل معه على أنه غير موجود أصلا، فيتم نفيه وشيطنته وتحويله إلى أسطورة أقرب إلى الخيال، ويمكن هنا فهم الدافع الذي جعل أصحاب مؤسسة مناهضة التطبيع في البحرين إلى تطهير المكان الذي التقط فيه صهيوني صورة له، مشهرا جواز سفره الإسرائيلي. فهذا الآخر يتم التعامل معه على أنه نجس ثقيل لا يمكن استيعاب أن تسكن إلى جواره أو يخطو في نفس المكان الذي تمرّ منه. لقد خلق التاريخ العديد من الآخرين الكاملين الذين اندثر معظمهم، وإن كانوا ينولدون في المنطقة العربية من جديد كل فترة.
لكن كيف يتعامل الأدب مع حتمية وجود الآخر (الذي قد يكون آخر للكاتب والهوية الجمعية التي يمثلها ولا يكون آخر للآخرين) دون المساس بإنسانية النص، وكيف يمكن أن ننظر من وجهة نظر الآخر الكامل، دون أن نُتّهم بالتعاطف مع العدوّ وتحويله لإنسان وهي تهمة وجهت إلى العديد من الكتّاب والكاتبات الذين تناولوا الآخر في كتاباتهم على أنها تهمة، تصل أحيانا حد الخيانة، رغم أنها في التصنيفات الأدبية قد تكون فضيلة وحقيقة طبيعية. فلا يوجد عدوّ بلا عائلة، ولا يوجد عائلة أو طفل لا يستدعي نوعا من التعاطف والتفهم.
لقد شكّلت لي هذه المسألة معضلة كبيرة في بداياتي، فأنا لم أر جندي احتلال إسرائيليا قبل دخولي إلى فلسطين وبنيت معظم علاقتي معهم من خلال نشرات الأخبار والأغاني الوطنية والشعارات الكبيرة.
لكنني رأيتهم مرة واحدة مع بداية الانتفاضة الثانية، كانوا يتدفقون نحو البيوت والشوارع والجبال، ينكّلون ويتكلمون لغة لا أفهمها بينما يتأتئون بعربية فارغة كلمات محددة كأنها منقولة من دليل استخدام بترجمة فاشلة.
ومرة صعد ستة منهم الأرض المقابلة لغرفة نومي وأنا أنظر نحوهم بمنظار جديد كان قد وصل لأبي هدية. وكنت سعيدة بتجربته في مغامرة حقيقية هذه المرة، خاصة وأن شابا صغيرا كان يحمل بارودة مصنعة يدويا وقف أسفل شباكي وبدأ يناوش الستة الذين ورغم كل الأسلحة والقنابل والطائرات التي كانت تساندهم، كانوا يرتجفون أسفل بدلاتهم العسكرية الثقيلة.
المسمّيات تجعل من الآخرين كتلة واحدة معدّة مسبقا للتفسيرات والإسقاطات الجاهزة في الذهن، وكانت كلمة الاحتلال الإسرائيلي هي الكتلة الكبيرة التي رسمت صورة جميع الجنود داخل بذلاتهم ودباباتهم وطائراتهم ككتلة واحدة كالحة اللون، في تلك الكتلة تلغى قيمة الفرد وتنتهي قصته الشخصية وهو يتحرك بخيوط الكتلة الكبرى التي تحركه. بينما يبقى المحارب أو المقاوم الأعزل الوحيد حتى وهو يحمل بارودة صناعة محلية كشخصية وحيدة تستدعي قصصا وماضيا وحكاية، فما الذي يجعل شابا مثله يقف خلف جدار البيت ويطلق رصاصات متفرقة على فيلق مدرّب. وهنا تمكن الإشارة إلى أن الكتلة الأقوى عادة ما تستغل الكتلة الأضعف من الناحية الفنية، فمن حيث الجودة عليك أن تتعامل مع الكتلة الأقوى بنفس منطق التعامل مع الكتلة الأضعف، فيقال للأضعف إن عليه أن ينظر من الزاوية التي ينظر إليها الآخر، وإن عليه الحكم عليه من منظاره الخاص.
ورغم أن العدالة تحتّم تساوي الكتل حتى يتاح لجميع الأطراف النظر إليها من نفس العين وإلا فإن هناك كتلة حتما ستسد النظر والأفق عن الكتلة الأخرى.
إن اختلاف المنظور يجعل الكتل غير المتساوية تعرّف الآخر وفقا لكتلته، الآخر الذي لا يحمل قصة مقابل الآخر المشنشل بالقصص.
لكن هل يمكن للحظة تساوي الكتل أن تساوي بين الآخرين ويمكن حينها محاكمة الطرفين محاكمة واحدة معرفيا وأخلاقيا وإنسانيا؟
في رواية “حبات السكر” وصفت جنود الاحتلال الصهيوني بالفضائيين رغم أن القصة واقعية جدا ولم تكن تستدعي أيّ فنتازيا أو خروجاعن الواقع، لكن وصف الفضائيين كان الوصف الوحيد الذي يمكن أن يحلّ لي هذه المعضلة، فهم فضائيون على البيئة التي يتجولون فيها، وفضائيون على الحالة الإنسانية، وعلى اللغة والآلة والزمن.
لكن الزمن الكاشف للذهول يحوّل الآخر الذي كان فضائيا إلى شخص طبيعي تحت المجهر، فتتوضح رؤيته وأبعاده وحجمه نسبة لحجمك. ويصبح اختيارك للكلمات حتى في عمل أدبي روائي اختيارا أخلاقيا لا مجال للتلاعب فيه أو المراوغة. إنه اختيار بين الصواب والخطأ. لذلك اخترت في روايتي الأخيرة مثلا “جليتر” وصف الآخر الكامل كما هو، دون إضفاء شرعية الفضائي التي تجعله آخر جاهل لا يمكن له أن يفهم لأنه ليس من هذا العالم أصلا.
في الحقيقة لم أجد يوما أصعب من التعامل مع الآخر المستتر، وهو الآخر الموجود داخلي أنا تحديدا. إنه آخر يتماهي معي حدّ القبول، رغم أنه يخلق شتى أنواع الصراع والممانعة، ويتحول أحيانا إلى آخر حميد، يدفعني للتحرك والإقبال والتعاون رغم أنني أعرف أنها لا تجدي بشيء في عالم منافق مثل هذا، هذا الآخر الذي يجعل من الكاتب منافقا ومتلاعبا ومستغلا للأحداث وقد يجعل منه قاسيا واضحا ومؤذيا للجميع.