الأحجية وإدارك الغاية في فلسفة تشومسكي اللسانية

الخميس 2019/08/01
لوحة: هبة عيزوق

جرى إطلاق تسمية اللسانيات التاريخية علي الدراسات اللغوية التي ظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر الميلادي، كما تختلف الدراسات التاريخية عن الدراسات النحوية التقليدية القديمة، وأيضاً عن اللسانيات الحديثة التي ظهرت مع مطلع القرن العشرين من ناحية المنهج والتصور، حيث تعمل تلك اللسانيات على دراسة اللغة الواحدة في تطورها، وذلك عبر المراحل المختلفة منذ نشأتها إلى يوم الدراسة في عمل هادف إلي تبيُن تاريخها ومعرفة ما وقع فيها من تغيُرات صوتية ومعجمية ونحوية ودلالية وغيرها.

على الرغم من أن كل المنظرين اللغويين في العصر الحديث، اتفقوا أو تجاوزوا بعض القيود التي قد فُرضت من قبل نفر من علماء اللسانيات السابقين، مثل بلومفيلد، لكن الفيلسوف وعالم اللغة الأميركي نعوم تشومسكي، والذي جري وصفه بـ”أب علم اللسانيات الحديث”، هو من تحدى بشكل صريح وأكثر وضوحاً معظم الأسس الفلسفية للمبادئ المعروفة بـ”المبادئ البلومفيلدية” للعمل بقدر ما يتعلق الأمر بعلم اللغة، والواجب ذكره هو أن مفهوم بلومفيلد عن العلم، كان مفهوماً “إمبريقياً” بشكل قويّ، ولكن العالم تشومسكي أكد من خلال تفسيره العقلي للعلم على الأقل فيما يتعلق الأمر بعلم اللغة، بأن ذلك يتخذ شكلا من أشكال التفكير حول اللغة على طرف نقيض من أشكال التفكير عن البلومفيلديين، ففي المقام الأول ينظر تشومسكي ومن تبعه إلى اللغة من الداخل بما يعني مقدرة “ابن اللغة” علي استعمال وفهم لغته ونتيجة لإخلاص الإمبريقيين لما لهم من مبادئ، فهم قد نظروا إلى اللغة من الخارج، مثلما تفعل العلوم الطبيعية.

واهتموا بالانشغال بتلك الظواهر التي في المتناول على وجه العموم للكلام والكتابة بينما سمحت وجهة نظر تشومسكي الداخلية له باللجوء ضرورةً، إلى الإدراكات وأيضاً ردود الأفعال الشخصية الخاصة والفردية للمتكلم والسامع على نحو مباشر وكذلك اللغوي الذي يدرس لغته، علماً بأن تلك الإدراكات وردود الأفعال هي التي قد يُستدلّ عليها في الآخرين من خلال كلامهم أو سلوكهم الآخر بشكل غير مباشر فقط، وهذا لأجل تحديد المقبولية وعدمها، والصياغة المتساوية والتكافؤ والصياغة الصحيحة وغير الصحيحة وأحكام المتكلمين الخاصة عن الفروق وظلال الفروق الدلالية وتحديدهم للملاءمة السياقية للمفردات وصيغ الجُمل، وبناءً عليه فاللغة تعتبر مفتاحا للفهم الجزئي للعقل أو المخ الإنساني، وهو ما عبر عنه تشومسكي، في العديد من المناسبات، ومن خلال رأيه في علم اللغة بوصفه أحد فروع علم النفس المعرفي.

رفضه النظرية السلوكية

برزت إشكالية اللغة وكيفية إنتاجها في فلسفة تشومسكي وهو ما أعطى للعملية الكلامية طابعاً إنسانياً خاصاً، وذلك عبر مفارقة إبستيمولوجية، كان حضور العقل البشري فيها حضوراً مركزياً، حيث تتداخل في ذلك الحضور، اللسانيات بالبيولوجيا وبالفلسفة وبعلم الأعصاب، وكلها حاولت أن تجيب على كيفية إنتاج العقل للغة، هذا وقد ظهرت في القرن العشرين بالأخص عدة تيارات فكرية فمنها التحليلية ومنها التأويلية ومنها البنيوية، وكلها تيارات كانت تركّز النظر على الظاهرة اللغوية من ناحية وآثارها ووظائفها من ناحية أخرى، ولكن ما لبث أن ظهرت النزعة التوليدية، والتي تزعمها تشومسكي، لتقلب المعادلة اللغوية رأساً على عقب، بعد أن بات العقل البشري أهم موضوع للدراسة، وذلك خلافاً لما كان سائداً، باعتبار أن جهاز “العقل” يُعدّ أداة تحمل إلينا مفاهيم جديدة، تدخل كلها تحت إطار العلوم المعرفية عامةً، وفلسفة العقل خاصةً.

وارتكزت فلسفة تشومسكي اللغوية على رفضه النظرية السلوكية القائمة على ذلك التفسير التجريبي، والقائل بأن تعلم اللغة، يحدث نتيجة اشتراط لعمليات متشابهة، نتيجةً أن الإنسان لديه قدرة فطرية تساعده على اكتساب اللغات المختلفة وتلك القدرة كأمر طبيعي مشتركةً بين البشر في كافة الأزمنة والأمكنة، وفي تعليقه علي ذلك أكد تشومسكي قائلاً “رأيت أن أحوّل اهتمامي من دراسة السلوك الصادر عن استخدام اللغة، إلى دراسة النحو التوليدي”، وانتقد تشومسكي أيضاً المدرسة البنيوية من خلال رفضه نظرية اللغوي فرديناند دو سوسير القائلة إن كل لغة تنطوي على جملة معينة من المدلولات المرتبطة بدوالها من خلال نظام اعتباطي تحكمه علاقة وضعية داخل الجماعة اللغوية الواحدة، من منطلق أن الإنسان لديه آلية داخلية لإنتاج اللغة وفهمها، وأوضح ذلك بقوله “إن الجماعة اللغوية التي يقصد بها تجمعات الأفراد ذوي السلوك الواحد ليس لها وجود في العالم الحقيقي”، وفي ذات الوقت ظهر تحدي لسانيات تشومسكي، والتي قد بدأت من البني التركيبية، وهي تعد في الأساس خلاصة كتابه “البنية المنطقية للنظرية اللسانية”.

اللغة ليست قوالب جامدة

لوحة: مالفا عمر
لوحة: مالفا عمر

بالحديث عن غلق النص فقد تصدى تشومسكي بشكل كبير لذلك المبدأ، لأنه فسر القواعد اللغوية على الثبات، مع إقراره أن العقل اللغوي “جهاز خلاّق” في الأساس، وهو يلاحظ دوماً في قدرة المرء على إنتاج عدد لا نهائي من الجمل والعبارات، وللتأكيد علي نظريته كتب تشومسكي واحدة من المقالات الموسومة بـ”الشكل والمعني في اللغة الطبيعية”، وفيها يطرح سؤلاً مفاده كيفية إمكان تعلمنا لغة ما بحيث نصبح قادرين على فهم عدد لا نهائي من التعابير الجديدة؟ أتبعه قيامه بأن أطلق على تلك العملية مصطلح الإبداعية، والتي اعتبرها من أهم خصائص اللغة، وجعل منها أساس إنشاء تعريفه للغة، حيث قال “أعتقد أن اللغة هي قبل كل شيء وسيلة لإبداع الفكر”، ولم يقف تشومسكي عند رفضه أو انتقاده للعديد من النظريات اللغوية، ولكنه استمرّ في طريقه لإثبات الأحجية الخاصة به، نحو إدراك الغاية والهدف في تناول فلسفته اللغوية لينتقد كذلك المدرسة البنيوية فيما يخص إهمالها الذات الإنسانية.

كونه يرى أن اللغة ليست مجرد قوالب جامدة تنحصر ضمن إطار البنية، ولكنها كيان حي يتضمن تجديداً دائماً وتدفقاً مستمراً، للمزيد من العبارات والألفاظ الجديدة، بجانب دعوات تشومسكي الدائمة إلى وجوب العودة إلى اللسانيات الديكارتية، نسبة إلى رينيه ديكارت، وذلك عبر إصدار كتابه “اللسانيات الديكارتية”، وفيه قام بتلخيص أهمية تلك الدراسة وجعل منها حجر الأساس في بناء نظرية لغوية جديدة، وحول فرضية التوحيد بين الدماغ والعلوم المعرفية والتي أبدي تشومسكي مدى تفاؤله الشديد وتوقعه الخير منها، فعلي ذلك يقول “يعتبر توحيد الدماغ والعلوم المعرفية، احتمال وشيك للتغلّب عن الثنائية الديكارتية”، وهو يرى بذلك أن ما يحدث داخل عقل الإنسان يترك بدوره الآثار الفسيولوجية على دماغه، ونتيجته فليس ثمة ثنائية بالأساس لأن عقل الإنسان ودماغه عبارة عن وجهين لعملة واحدة، وهو ما يتضح في الكثير من مؤلفاته باستخدامه نفس المصطلحين معاً، لايمكن الدلالة على “العقل/الدماغ”، وهو يؤكد عليه بقوله “الظواهر العقلية هي طبيعية تماماً كونها تنجم عن أنشطة الدماغ العصبية وقدرات العقل البشري في الحقيقة هي قدرات الدماغ”.

انتقال اللغات كانتقال الجينات

يُبين تشومسكي دور الوعي البشري الأساسي في إنتاج اللغة وفهمها، فأوضح لنا في شرح تلك الكيفية التي يتداخل من خلالها الوعي في فرز دلالة الكلمات المتشابهة من ناحية مخارج الحروف والتي تتداخل معانيها من بعضها البعض، ومن خلال تقديم عبارته “البيت البُنّي” على اعتبارها مثالاً واضحاً، والذي يتضح على حد تعبيره في سؤالنا ماذا نعرف عنه؟ وأردف في حديثه بأنه إذا كنا نعلم أن العبارة السابقة تتكون من كلمتين والأطفال لديهم مثل هذا الفهم بشكل جيد، وإن لم يتمكنوا من التعبير عن ذلك بشكل مباشر، حتى وإن كان هناك تشابه بين كلمتي “mouse – house” من ناحية السجع، فإنهم يدركون أن المراد هنا هو “البيت/لا الفأر”، كما أننا نعلم أيضاً أن الهدف من تلك العبارة هو السطح الخارجي أي اللون البُني.

وبالحديث عن الذكاء البشري لم يول تشومسكي الأهمية التي سبق وأن أولاها نحو مسألة الوعي الإنساني في عمليتي فهم اللغة وإنتاجها ليؤكد قائلاً “الحيوانات لا تفتقر إلى أجهزة الاتصال المناسبة، كما أنها ليست ببساطة أقل، على الحدود في بعض حجم الذكاء العام، ذلك لأن الدراسات الحالية أكدت بما لا يدع أدنى مجال للشك أن الحيوانات لديها نوع من الذكاء، وهو ما يظهر جلياً في عملية اتصالها مع بعضها، أو يظهر في جهاز المناعة أو جهاز الدوران، بوصفها من أعضاء الجسم”، وما إن فرغ تشومسكي من استقاء فكرته حول الملكة اللغوية من الأفكار الفطرية، والتي قد أكدها ديكارت، إلا وعمل بجد على إثباتها علمياً، فربط فكرته بمجموعة من العلوم، أهمها علم النفس والرياضيات والفلسفة، والعديد من العلوم المعرفية الأخرى في عمومها، وعلى إثره اقترح أن النظام اللغوي مفطور في إعدادنا الإحيائي، وهو الذي جعله يؤكد أن عضو اللغة كباقي الأعضاء الأخرى، وأن الملكة اللغوية التي تعبر عن اللغة الأمّ تشبه في انتقالها من الآباء إلي الأبناء، انتقال الصفات الجينية عبر الكرموسومات.

لوحة: مالفا عمر
لوحة: مالفا عمر

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.