"الأخ الأكبر" حي فينا
صكّ الروائي البريطاني جورج أورويل مصطلح “الأخ الأكبر” في روايته “1984” الديستوبية التي، تعتبر أخطر رواية سياسية في القرن العشرين، توقع فيها مصير العالم، إذا ما وصل المد الشيوعي إلى الغرب، وتمكن من السيطرة على أوروبا. تصوّر الرواية دولة خيالية هي دولة “أوشانيا العظمى” التي يدير شؤونها أربع وزارات، هي وزارة الصدق ومهمتها تزييف الحقائق، ووزارة السلام وتتولى شؤون الحرب، ووزارة الوفرة والرخاء وتتولى مهمة تخفيض الحصص التموينية المخصصة للأفراد، وأكثر الوزارات بثا للهلع والرعب في قلوب المواطنين هي وزارة الحب التي تعنى بحفظ النظام. وقد أمعن أورويل في النقد حدّ التوغل في العلاقات العاطفية بين الموظفين التي يمنعها النظام المستبد بشدّة، إلا أن يكون زواجاً ميكانيكياً محضاً غير مدفوع بعاطفة “مبيتة”! وقال أورويل عام 1948 تاريخ صدور الرواية، “إذا كنت تريد أن تحفظ سراً، يجب عليك أيضا إخفاؤه عن نفسك”، وعرض واحدًا من أهم أمثلة المراقبة وأكثرها شهرة على مر العصور، وهو نموذج “الأخ الكبير” (الدولة المستبدة/الحزب الحاكم)، وبحسب ويكبيديا بعد نشر الرواية أصبحت كلمة الأخ الأكبر “تستعمل كمرادف للتعسف في استعمال السلطة الحكومية وخصوصاً في احترام للحريات المدنية. استخدمه الغرب كسلاح من أسلحة البروباغندا فى الحرب الباردة وذلك لإقناع جيل كامل بأن التغيير الاجتماعي الجذري لا طائل من ورائه”.
وأورويل الفوضوي والمثقف الكاره للمثقفين، والصحافي والمراسل الحربي في إسبانيا والمتشرّد يوماً في باريس، كان معجباً بالتجربة السوفياتية (الشيوعية) خلال الأربعينات من القرن الماضي، فزار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1948 خلال عهد الرفيق ستالين وصدم بإجراءات الرقابة والتنميط للإنسان، وحين عاد إلى بريطانيا كتب سلسلة مقالات عن لغة الخطاب الدكتاتوري، وأصدر روايته آنفة الذكر التي يقلب فيها تاريخ سنة زيارته للاتحاد السوفياتي، ليصبح عنوان الرواية، التي يعرض فيها كيف أن “الأخ الأكبر” الذي يحكم المدينة يراقب كل شيء. في المقلب الآخر، كشفت الوقائع في السنوات الأخيرة أن الرفيق أورويل، المبدع وصاحب المواقف، اعتاش علي نحو سري من كتابة التقارير عن أصدقائه الكتاب والفنانين! فضح أورويل الأنظمة التي تدّعي الإنسانية والعدالة والحرية، وكان ضد كل الأنظمة وفي نفسه كان فضيحة نفسه… وكشفت ملفات المخابرات البريطانية (MI5) التي أصبحتْ متاحة للاطلاع أمام الجمهور، أن أورويل وُضع تحت رقابة عملاء المخابرات البريطانية لأكثر من عشر سنوات بسبب الشك في ميوله واتجاهاته السياسية، إلا أنها لم تتمكن من التأكد من أنه كان شيوعيا.
ومن دون شك، أن الأخ الأكبر الذي صكه أورويل يحمل الكثير من التأويلات، وهو إن انتهى حضوره في أوروبا، لكن ما زال حاضراً في إيران بأشكال مختلفة، وحاضرا في الصين، في مراجعة لـ”1984″، كتب إسحق عظيموف (1920 ـــ 1992)، روائي الخيال العلمي الأميركي المعروف، مشتكياً من أن نوعيّة الاستبداد الذي صوّرته الرواية لم يعد ذا صلة بمجتمعاتنا المعاصرة. لقد انتهت النازيّة والفاشيّة والستالينيّة والمكارثيّة. ويضيف “وإذا كان ثمّة شيء لنخشاه ونحن في عام 1984 الفعلي، هو أن الحكومات المعاصرة شديدة الوهن”. برغم موجة التكنولوجيا الهائلة، بدا أن بلاد ماو تسي تونغ تمزج بين الشمولية والتكنولوجيا في مراقبة المواطنين لكن مختلفة عن الثيمة الأصلية للأخ الأكبر. وإذا ما عدنا إلى بعض القراءات الحديثة للأخ الأكبر، نجد أن العالم الذي يصوره أورويل يمثّل، بحسب الفيلسوف البولندي زيغموند باومان، عالم الشر السائل، باعتباره عالماً غامضاً مفتقداً إلى الوضوح، يعجز الإنسان عن فهم سبب حدوث الشيء. لقد عاش أورويل عالم الكذب خلال عمله في الصحافة وتغطيته الأحداث والحروب وتغلغله بين التنظيمات الأيديولوجية. فضح أورويل كذبة الحرب عندما قال “لقد رأيت معارك كبيرة يُكتب عنها، عندما لم يكن هناك معارك. وصمتاً كبيراً عندما كان يقتل مئات الرجال. لقد رأيت القوّات التي كانت تحارب بشجاعة تدان بالجبن والخيانة، وآخرين لم يحاربوا قطّ ولم تطلق عليهم طلقة واحدة يَحْيَون كالأبطال في معارك وهميّة”. أخافت ظاهرة الكذب هذه أورويل إلى أبعد الحدود، لأنّها كما كتب “تعطيني الشعور بأنّ كل مفهوم الموضوعيّة والحقيقة والصِّدقيّة قد بدأ ينحسر ويغيب عن هذا العالم”. يقول الصحافي والناشر رياض نجيب الريس “من هنا بدأت فكرة رواية ‘1984’ تختمر في رأسه. ومنذ ذلك الحين كرّس أورويل كتاباته ضدّ ظاهرة الكذب، فتصدّى للستالينيّة، وتصدّى للفاشيّة، وتصدّى للرأسماليّة”.
و”في عالم جورج أورويل لا نفهم سبب الأحداث، ولا كيفيتها، بل لا نستطيع أن نفعل شيئاً يذكر، وربما لا نستطيع أن نفعل أي شيء، فليس هناك بديل أبداً، افعل الشر بنفسك، هذا هو منطق الشر السائل، وأنت تفعل ذلك، وهم يجعلونك تفعل ذلك بنفسك، حتى تصرخ كما صرخ ونستون سميث بطل الرواية قائلا: ‘لا تفعلوا بي ذلك، وإنما بجوليا’ وفي النهاية، تحب الأخ الأكبر”. وعلى الرّغم من أن سيولة الشر في عالم 1984، تجسدت في السلطة الدكتاتورية المقيتة والمكروهة، غير أنها قدمت نفسها للجماهير بمسمى الأخ الأكبر لكي تحظى بقبولهم وتنال حبهم ورضاهم، لذلك، فمن الطبيعي أن يتقبل النّاس الحرب، في النهاية، على أنها هي السلام، والسلام هو الحرب، وأن الإكراه هو الرعاية الحنونة. ويفرض على المواطنين رقابة صارمة داخل بيوتهم وخارجها، ويفرض رأيه عليهم في شؤون حياتهم كلها، الأفكار والقناعات السياسية، حتى طريقة ممارستهم للجنس. على أن باومان يرى أن ذلك النموذج بات قديمًا لا يتناسب مع عصر الحداثة السائلة التي نعيش في جنباتها، فـقد “أسدل الستار على عصر الارتباط المتبادل الذي شهد المواجهة بين المديرين والخاضعين للإدارة، وأما العرض الجديد فهو دراما جديدة أكثر مراوغة، إذ تنتقل السلطة بسرعة الإشارة الإلكترونية”…
وإذا كان الأخ الأكبر بصورته الروائية بات قديماً، فإنه ما زال ينبعث بأشكال مختلفة. وفي حوار أجراه مع عالم الاجتماع ديفيد ليون، يعرض زيغموند باومان رؤيته هو و”ليون” حول مفهومهما للمراقبة في عصر الحداثة السائلة، وما آلت إليه أساليب المراقبة التي سالت وتسرّبت في أدق تفاصيلنا اليومية، من خلال سبعة فصول، هي على الترتيب: الطائرات من دون طيار ووسائل التواصل الاجتماعي، المراقبة السائلة ومرحلة ما بعد البانوبتيكون، البعد والإبعاد والتحكم الإلكتروني، اللاأمن والمراقبة، النزعة الاستهلاكية والمواقع الإلكترونية والفوز الاجتماعي، المراقبة من منظور أخلاقي، وأخيرا القدرة والأمل.
وينطلق الكتاب من نظرية سجن “البانوبتيكون” عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو والذي يجلس فيه المراقب خلف زجاج معتم، داخل برج يتوسط مجموعة دائرية من الزنازين المغلقة، لا يرى فيها أيّ من المساجين زملاءه ولا يرى بالطبع من يراقبه، وهو النموذج الصلب من المراقبة الذي سال داخل سجون الرأسمالية الحديثة التي نسكنها كمستهلكين، ولكننا لا ندخلها كسجناء تحت القمع، وإنما كمترفين ومتمتعين، أو مضطرين لحاجة التواصل مع العالم دون قهر مادي علينا. وحاول باومان في حداثته السائلة أن يدرس ظاهرة الفردية، انطلاقاً من ملاحظته أن مجتمعنا اليوم هو مجتمع خاضع لسيرورة النزعة الفردية، يقول باومان “حداثتنا الغربية نسخة يطغى عليها الطابع الفردي والطابع الخاص..” (الحداثة السائلة)، فالفرد هو الفاعل الوحيد في مرحلة السيولة، فالكل يؤول إلى الفرد وحده، هو فقط من له الحق في تقرير الأشياء ذلك أن الأفراد في عالم الحداثة السائلة ينعمون بحرية الاختيار فأصبح العالم خالياً من ذلك الأخ الأكبر الذي ذكره جورج أورويل، كما أنه أيضا لا يوجد الأخ الأكبر الحنون الذي قد يساعدك ويحنو عليك ويمد يد العون لك في الظروف الصعبة والأوقات الحرجة، ومن هنا أصبح كل ما يتعلق بمصير الفرد في يد “الفرد” ذاته، فالفرد هو الذي يقرر الأشياء التي بمقدوره أن يفعلها، وينمي هذه المقدرة بأقصى المستطاع.
تختلف الآراء حول “الأخ الأكبر” وأفق وجوده. قبل مدة كتبت الباحثة دلال البزري مقالا بعنوان “تجسس الجميع على الجميع” قائلة “لم يَعُد الأمر كما هو عليه في رائعة جورج أورويل، ‘1984’، ولا كما رسخ طويلاً في أذهاننا، عندما سكنَ فيها ‘الأخ الكبير’ هذا، واحد أحد، يتجسّس، يتآمر بالتالي علينا جميعاً، من دون أن نتمكّن من كشف حبائل تجسسه ولا من قطعها. لم تَعُد أميركا هي ذاك ‘الأخ الأكبر’، محتكر المعلومات التي تبثها آلاتها الجهنمية عبر الأثير، وعبر غيره من المعابر إلى حيواتنا، الخاصة والعامة. انكسر هذا الاحتكار، وانكشفت أميركا على أصدقائها وأعدائها. ‘الأخ الأكبر’، لم يعد محصناً في غرفه السرية السوداء، صار عارياً، تحت نظرنا”.
وسأل الشاعر الراحل أمجد ناصر هل انتهى زمن “الأخ الأكبر” فعلاً مع انطواء دولة ستالين ورفاقه، في غير بلد أوروبي شرقي (وآسيوي أيضاً)؟ ويجيب كلا! وها هو المجند الأميركي إدوارد سنودن، الذي فضح أكبر عملية تجسس على البشر في التاريخ، لا يزال يذكرنا بالتحولات التي تطرأ على “الأخ الأكبر”، وانبعاثه من رماده… ما أسماه أورويل بالأخ الأكبر، لحركات المواطنين وسكناتهم، لا يرقى إلى ما بلغته الرقابة مع الثورة الرقمية. الواقع أبعد مدى من الخيال. الثورة الرقمية التي سهّلت الاتصال والتواصل، غشيت المجال الخاص للأفراد، فيمكن لما هو سرّ، أو تحت غطاء السريّة، أن ينفلت بنقرة، أو بطاقة صغيرة، تحوي مئات الآلاف من الملفات كما وقع مع ويكيليكس.
في يونيو 2013 نشرت جريدة الغارديان البريطانية في موقعها تسريبات عن الوكالة الأميركية الوطنية، تتضمن معطيات خاصة عن الأشخاص أو ما يسمّى بمراقبة الجماهير، من خلال الإنترنت وشركات الخدمة الكبرى، كان وراء تلك التسريبات إدوارد سنودن. المعطيات التي أبان عنها، حينها، نُعتت بالعالم الأورولي، نسبة لجورج أورويل. يقول الكاتب والروائي المغربي حسن أوريد كان من المفترض أن يقوم حينها نقاش حول مدى شرعية تغلغل الوكالة في المعطيات الخاصة بالأفراد، ولكن الفقاقيع التي تلت ذلك من استنكار وبعض النقاشات في بعض الدول الغربية، ما لبثت أن خفتت. وسرعان ما أصدر سنودن كتابا بعنوان “سجل دائم”، ومن ثمة طرح موضوع مراقبة الجماهير عبر الإنترنت ومدى شرعية تلك المراقبة. السؤال الذي يطرحه الكتاب، بغض النظر عن السياق المرتبط بالولايات المتحدة، هو إلى أيّ حدّ يمكن للدولة من خلال أجهزتها الأمنية، أن تعتدي على حياة الفرد الخاصة؟ الهاجس الأمني المهين في الولايات المتحدة، وفي العالم، بعد 11 سبتمبر 2001 جعل الأجهزة الأمنية في منأى عن أيّ رقابة ديمقراطية، ولذلك لا تتورع الأجهزة في اقتحام المجالات الخاصة للأفراد، حتى وإن كان في أنظمة غير استبدادية. وبعد 11 سبتمبر بدأت “1984” بالعودة إلى واجهات المكتبات، واستعادت ثيماتها راهنيّة سياسيّة وفلسفيّة تزايدت بعدما كشفت تسريبات ويكيليكس سائر فضائح عالم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن في كل شخص بات يوجد “الأخ الأكبر”.