الأدب والحرمان
هذه قصة طريفة وقعت في العشرينات من القرن الماضي، وكان بطل القصة أو ضحيتها أديب من أكبر أدبائنا العرب، وأكثرهم ذكاءً وثقافة وموهبة، ذلك الأديب الراحل إبراهيم عبدالقادر المازني، وهذه القصة لها إلى جانب طرافتها مغزى كبير، لأنّها تكشف عن الواقع الاجتماعي والعاطفي الذي كان يعيش فيه الجيل الرائد من أدبائنا الذين ظهروا في أوائل ذلك القرن، فقد كانت المرأة بعيدة عن مجتمع هؤلاء الأدباء الكبار، فلم يكن المجتمع العربي قد سمح بعد للمرأة بالخروج إلى التعليم والعمل، ولم يكن قد سمح لها بالمشاركة العقلية والوجدانية في حياة المجتمع، وعندما ظهرت فتاة جريئة واحدة هي “مي” في الوسط الأدبي المصري في أوائل القرن العشرين، كان ذلك ظاهرة شديدة الشذوذ، وقد ترتّب على هذه الظاهرة الشاذّة أنّ كل الأدباء الكبار في عصر “مي” أحبّوها وتعلقوا بها، وسُعدت “مي” بهذه الظاهرة، وحرصت على ألّا تغضب، ورضيت بأن تكون ملهمة للجميع، ولكن ذلك انتهى بها إلى مأساة معروفة.
تعرضت “مي” للمرض وللانهيار العصبي، وانتهت حياتها نهاية بائسة حزينة، وذلك كله لأنها كانت نموذجاً خارجاً على منطق عصرها، ولأنها حاولت أن تُلغي الجانب الفردي في حياتها لكي تصبح “حبيبة” الجميع، وملهمة الجميع، وانتهى بها الأمر إلى طريق من الألم والعذاب ووقفت على حافة الانهيار العصبي والجنون.
حياة مُجْدَبة جافّة من الناحية الوجدانية والعاطفية، وأنّ دور المرأة في حياة هؤلاء كان دوراً محدوداً ان لم يكن معدماً، وكانت اللمسات الأنثوية في الحياة الأدبية والإنتاج لمسات معدومة أو تكاد تكون نادرة، فلم يكن أحد من هؤلاء الأدباء الكبار يعرفُ وقع أدبه على قلب المرأة أو عقلها وذلك لأن المرأة لم تكن تشارك في الحياة العقلية العربية، وحتى الأدباء الذين تزوجوا وعاشوا حياة عائلية هادئة، لم يعرفوا الحياة الوجدانية الصحيحة، لأن زواجهم كله كان على الطريقة التقليدية في الأغلب الأعم، ولم تكن الزوجة تشارك زوجها في عمله الفكري والأدبي، أي أنّها لم تكن تقرأ أو تهتم بما يكتبه الزوج، لأنّها كانت تنظر إلى عمله على أنه مصدر من مصادر “القوت” للأسرة ولا شيء غير ذلك، حتى طه حسين الذي تزوّج عن حب كبير، ولعبت زوجته السيدة الفرنسية “سوزان” دوراً هاماً في حياته، عملياً ووجدانياً.. حتى هذه الزوجة كان هناك حاجز بينها وبين أدب زوجها، حيث أنّها ظلّت حتى اللحظة الأخيرة لا تعرفُ اللغة العربية التي يكتب بها طه حسين، ونستطيع أن نستنتج هنا أنّها لم تقرأ لزوجها إلّا ما ترجم من أدبه إلى الفرنسية، أما كبار الأدباء الآخرين من جيل طه حسين فلم نعرف لهم حياة وجدانية سليمة، ولم نعرف لزوجاتهم أثراً مباشراً في إنتاجهم الأدبي أو الفني، اللهم إلّا إذا كان هذا الأثر عاماً شاملاً وهو: … أما الالهام والمشاركة العقلية والوجدانية فهي ما لم يكن له وجود إلّا في حالات قليلة نادرة، مثل حالة العقّاد الذي عاش بعض التجارب العاطفية المتفرقة المليئة بالفشل والاضطراب.
وهذه القصة الواقعية التي كان بطلها إبراهيم عبدالقادر المازني، تكشف لنا عن المحنة الوجدانية التي كان يعاني منها هذا الجيل معاناة قاسية، والتي جعلت من عمل هذا الجيل وكفاحه الفكري والأدبي نوعاً من النحت في الصخور الصلبة. لقد كانوا يعملون بالهام داخلي نابع من ذواتهم، لم يجدوا قط من يقول لهم كلمة حب أو كلمة تشجيع، وأنا أعني هنا بالطبع دور المرأة بالذات في حياة الموهوبين، ولا أعني ما يلقاه الكاتب من نجاح لدى القرّاء. فاللمسة التي تضفيها المرأة على الحياة الوجدانية والعقلية هي لمسة ساحرة وخلاّقة، وقد كانت هذه اللمسة ناقصة في حياة الجيل الأول من أدبائنا وكانوا منها محرومين.
رسالة من معجبة
وتبدأ قصة المازني، يوم التقى بشاب اسمه عبد الحميد رضا، وقام عبدالحميد بتسليمه رسالة قال له إنّها من احدى السيدات، وأنّه يعمل عند هذه السيدة خادماً لها، وقدم له بطاقة شخصية تُثبت أنّه خادم، وكان المازني قد كتب رواية بعنوان “غريزة المرأة”، ويبدو أن هذه الرواية قد مثلت في السينما أو ظهرت على خشبة المسرح، وقد حاولتُ أن أبحث عن هذه الرواية، وأن أعرف ما إذا كانت مسرحية أو قصة سينمائية، فلم أعثر على الرواية حتى الآن، ولم أعثر على شيء يدلني على نوعها الفنّي.. المهم أن هذه السيدة قد شاهدت الرواية في المسرح أو في السينما، فكتبت للمازني الرسالة التي حملها الخادم إليه، وقرأ المازني الرسالة فاذا بها رسالة إعجاب وتشجيع، وكانت الرسالة موقعة باسم “فاخرة”، وتقول صاحبة الرسالة أنها أرسلتها مع “تابعها”، والتابع هو الكلمة المهذّبة التي تحل عندها محل كلمة خادم. والرسالة مليئة بكلمات الاعجاب والود نحو المازني، كما تقول صاحبة الرسالة أنها أيضاً كتبت رواية عن نفس المعنى الذي كتب عنه المازني روايته “غريزة المرأة”، وأنّها “لم تنشرها على الناس”، وأنها تبغي من رسالتها “أن تأذن لي بصورة من روايتك وبعض كتب من كتبك آنس بها في تربية مادة الأدب الذي أعشقه”.
ثم تقول في ختام رسالتها “فهل تأذن أن تبعث لي بشيء من آثارك مع ‘تابعي’، وقد يكون كتابي هذا ركيكاً وغير معبّر تماماً عن روح الإعجاب الذي ملك عليّ نفسي وأخذ بتلابيب قلبي، وقد يكون لي خير من هذا يوم أن نتعرف أجساداً، وأرجو أن أوفق إلى ما يتناسب وقدرك السامي”. ثم وقعت على رسالتها بقولها “إحداهن واسمها … فاخرة”.
أرقى من كل الرسائل
وكانت هذه الرسالة التي أرسلتها “فاخرة” للمازني بداية مجموعة ممتازة من الرسائل التي كتبها المازني توهماً منه أنّها تصل إلى هذه السيدة، وكان تابع السيدة أو خادمها يأتي بالرسائل منها إلى المازني ويأخذ الرد.
وهذا هو نصّ الرسالة الأولى التي كتبها المازني إلى هذه السيدة، وفيها نشعر أن قلب المازني سرعان ما نبض للوهم الذي تُمثله هذه المرأة المعجبة به… يقول المازني في رسالته “سيدتي الفاضلة: تحياتي إليك وشكري على رسالتك الرقيقة الكريمة، واعتذاري عن الكتابة بالقلم الرصاص فإني أولاً مريض وثانياً ليس في بيتي حبر! وثقي أنّي أقدر نبل الاحساس الذي دفعك إلى كتابة هذه الرسالة ولولا أني مريض متعب، ويدي ترتعش قليلاً من الضعف لحاولت أو أوفيها حقها من الشكر. فهل تقبلين عذري وتغتفرين لي كل هذه الزلات؟ أرجو ذلك. ويسرّني أن أبعث إليك بنسخة من كل كتاب توجد منه نسخ في البيت اجابة لطلبك ومن بواعث أسفي أن نسخ الرواية في مكتبي، فإذا سمحت بإرسال تابعك يوم السبت إلى المكتب فإني أكون سعيداً بأن أقدم لك نسخة منها. ولقد شوقتني إلى روايتك ولكني لا أجرؤ أن أطمع في الاطلاع عليها قبل نشرها إلا إذا شئت أن تغمريني بفضلك”.
وينهي المازني رسالته بقوله “كلا. ليس في لغتك ركاكة وأنّها لسليمة جداً. ومن أرقى ما عرفت من أساليب الرسائل النسوية أرقى من رسالتي هذه مثلاً. وسلامي إليك وشكري الجزيل وأسفي الشديد. المازني”.
على أن هذا الخطاب الأول الذي كتبه المازني كان فاتحة لعدّة خطابات أخرى أكثر عمقاً وأهمية، فقد بدأ المازني يتعلق بهذه المرأة أو بهذا الوهم، وظن أنه وجد “الالهام” الذي يتمناه ويحلم به في حياته الوجدانية المجدبة، وأنه وجد تلك المرأة الذكية الحسّاسة التي يمكن أن تطفئ ظمأ قلبه إلى الحب، والتي يمكن أن تدفعه إلى الابداع، وتتذوق أعماله الفنية، وتسد النقص الوجداني الذي يعاني منه هو وجيله كله، ولحسن الحظ فإن المازني كاتب وفنان صادق، ثم يتعود أن يكذب على نفسه أو على الناس، ومن خلال هذا الصدق كانت رسائله إلى هذه السيدة المجهولة التي داعبت عواطفه نوعاً من “التعرية” النفسية الكاملة لحقيقة مشاعر المازني، ولحقيقة ما كان يعانيه من جفاف عاطفي مفروض عليه وعلى زملائه بسبب ذلك المجتمع المغلق الذي كانوا يعيشونه فيه، والذي لم تكن تهب فيه نسمة من نسمات الوجدان الصادق، أو المشاعر الانسانية التي كان لا بد منها كغذاء أساسي لوجدان هؤلاء الأدباء الحسّاسين، ومن هنا فقد عاش هؤلاء الأدباء حياتهم في فراغ عاطفي أليم.
وقد أحس المازني في لحظة عابرة أن الحلم الذي يعيشه من خلال رسائل المرأة التي تكتب إليه، هو حلم خادع يقوم على الوهم، وأحس في داخله بالشك في امكانية وجود هذه المرأة، ولكن لأنه صاحب نفس طيبة سرعان ما عدل عن شكّه، ووقع في حب تلك السيدة المجهولة التي لم يرها قط ولن يراها أبداً.
الغازل الأعمى
ولنقرأ هذه الرسالة الجميلة التي كتبها المازني إلى هذه السيدة وفيها يعبّر عن شكّه فيها، ويعرّي نفسه تعرية صادقة مؤثرة مليئة بالسخرية الرائعة حيث يقول في هذه الرسالة التي تعتبر نموذجاً راقياً لأدب الاعترافات الذاتية الذي يخلو منه أدبنا إلى حد بعيد “عزيزتي الآنسة فاخرة هانم أظن أنك حيّرتني، حيّرتني جداً إلى حد ـ لا تضحكي من فضلك ـ إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يُراسلني ليست آنسة ذكية القلب نافذة البصيرة، بل هي شاب داهية يُكاتبني باسم آنسة ليتفكّه بي ويسخر مني. فما رأيك في هذا الخاطر؟ أعترف لك أنه خاطر جرى ببالي من أول يوم وهذا هو السبب في التحرز الشديد الذي بدا مني في رسائلي الأولى ـ على الأقل رسائلي الأولى ـ ولكني تساهلت قليلاً مع نفسي وأرسلتها على سجيتها إلى حد محدود، فهل تدرين السبب في نشوء خاطر كهذا في رأسي؟
السبب أنني كنت وما أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن في أيّ حال من الأحوال أن يعجبها إبراهيم المازني، ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكني أقوله لأنه عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما خبرتك في رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التحبّب إلى أية امرأة ولو كانت روحي ستزهق من فرط حبّي لها. ذلك أنّي لاعتقادي ذلك في نفسي أخشى أن أتلقى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي فتثور فأتعذب وأعذبها معي.
لا أدري كيف يكون رأيك في رجل هذه حالته النفسية بلا مبالغة، وإنّي أقسم لك بكل ما يحلف به الأبرار أنّي لستُ كاذباً ولا متخيّلاً وأن هذه هي حقيقة اعتقادي في نفسي وحقيقة الواقع ـ ولا شك أنها شاذّة – ولكن ما حيلتي؟ وأنا أخسر بسببها كثيراً مما يفوز به الرجال، وأرى مفاتن الحياة تتخطاني وتقع على سواي بغير سعي منه لها، فلا أتحسّر لأني رضت نفسي على الحرمان ووطّنتها على أن لا تأسف على شيء. وما أكثر ما يفوتني وأحرمه في دنياي في كل باب حتى باب المعيشة المادية، ولكن ماذا أصنع؟ لا شيء. صرت أتفلسف وأقول أن رياضة النفس على الزهد تتطلب قوة نفسية أكبر وأعظم من القوة التي يحتاج إليها الاقدام على التمتّع بلذاذات الحياة ونعم العيش، فهل هذا صحيح؟ لا أدري، ولكني أدري أنني لم أطق في باريس أكثر من ربع ساعة، ولا لندن أكثر من أسبوع، وأحببت الريف والبساطة، وكنت في رحلتي أفضّل أن أجوب الريف بسيارة صديق أحمل فيها طعامي وأبيت أحياناً كثيرة فيها بعد اغلاق نوافذها. لقد قلت مرة لصاحبة اجتمعت بها على ظهر السفينة:
ـ يا سيدتي إنّك جميلة وحرام أن تُلقي بجمالك بين يدي حمار مثلي لا يُعجبه إلّا البرسيم.
هي مرارة نفسي تطفح أحياناً وتقطر من اللسان أو من القلم، ولكني ربّما كنت معذوراً ولعّلي كنت أكون أسعد في حياتي لو عشت في كهف بعيداً عن الناس.
أي نعم. وقد حاولت هذا مرة وقضيت بضعة أسابيع في جبل المقطم على أثر صدمة قوية تلقيتها من يد القدر، وكنت أشرب الماء بحفْنَتي من كفي وآكل من شبه مأجور من الطين فهل تصدقين.
ونفعني ذلك فعدت إلى الحياة بعزم جديد ونشاط كان مفقوداً. كتبت هذا لأشرح لك جانباً من شخصيتي السخيفة، ولست أعرف هل هي مزدوجة أو مثلثة ولكني أعرف أنّي مثل غازل أعمى جيء له بخيوط وقيل له اغزلها. فتناول الخيوط وراح يعمل وأنّه ليعلم أن للخيط مذهباً ولكنه لا يرى طريقه، بل يتحسّسه، وقد تثور به الرياح فتفلت الخيوط من كفيه. أنا ذلك الغازل الأعمى الذي جاءت به الحياة وقالت له اغزل… وقد نظّمت قصيدة في هذا المعنى فلا تقرأيها.
مدهش جداً أن تقولي عن نفسك ما قلت في خطابك.
أيّ جريمة؟ ماذا في جوابك مما يمكن أن يسوءني يا سيدتي. حقاً كأنك لا تعرفين أنّك أوّل سيدة جليلة أولتني عطفاً وظنتني شيئاً يستحق كل هذه العناية. لا يا سيدتي. إني رجل أحفظ الجميل ولا أكفّره، ولا أجحد فضل الله وفضلك عليّ، فإذا كنت قد وجدت في ردّى ما يُشعرك أنّي تألمت، فإنّي آسف جداً وأرجو أن تحملي هذا على محمل المرارة التي في نفسي، وهي مرارة طبيعية لا تتأثر بشيء من الخارج أبداً، فسامحيني بالله واعفي عني واغفري لي زلّاتي وكوني معي على الدنيا. ألم أقل لك ‘نّي جاهل؟ بلى. وإني لأجهل الجهلاء وأبلد البلداء. فهل صح عزمك على أن تتفرجي على هذا الجاهل الغبي وتريه بعينيك يوم الأحد؟ أم عدلت يا ترى؟ أرجو أن يكون عزمك مستمراً، وسلامي وتحياتي وأشواقي وشكري العميق وما هو فوق الشكر والتحيات والأشواق، وأبلغ من كل ذلك.
أين يضعون هذه العلامة: (+)؟ إني أضعها في كل مكان فوق اسمي وتحته وإلى يمينه ويساره وفي حبّة القلب وتحت كل ضلع، وعلى كل عرق نابض وفي كل واحدة من مسام الجسد.
المازني”.
عقلي ليس معي
وتستمر رسائل المازني إلى السيدة المجهولة على هذا الطراز من الحب والصدق والسخرية بالنفس، بل إنّه يزداد بها شغفاً وحبّاً، وقد واصل الخادم الذي يحمل إليه رسائل السيدة المجهولة خداعه، فقدّم إليه صورة زعم له أنّها هي صورة السيدة، وأنّها تُرسلها إليه كهدية منها، ثم استرد هذه الصورة بعد ذلك بناءً على طلبها.
وهذه عبارات مما ورد في رسائل المازني تعبيراً عن حبّه الملتهب “أنا أكتب الآن على عجل كأني أخاف أن ..لا.لا. لا أخاف شيئاً.. بل أتمنى أن أنقلب زفرة.. تنهيدة تطير إليك على جناح النسيم وتشعرك بما في قلبي.. وليت لزفراتي روحاً تكشف عن حقيقة أمري”.
وفي رسالة أخرى يقول المازني تعليقاً على صورة السيدة المجهولة “فاخرة، أسأل الله السلامة من كل هذا الحسن.. السلامة وأيّ أمل فيها؟ لقد كان ما خفت أن يكون وانتهى الأمر، أحببتك خيالاً وها أنذا اليوم أبصرك إنسانة، حقيقة وقعت… لا بل رفعني الله إلى سماء كنت أتخيّلها.. إنَّ مثل هذا الحب نعمة يا فاخرة.. ومثل حبّي لك مفخرة لي ورفعة لنفسي وسمو.. أنتِ ما زلت معنى سامياً.. لم تتجسدي قط على الرغم من الصورة.. كل ما أريتنيه الصورة أن ظني لم يخب.. إنَّ الحقيقة أكبر وأفتن وأسحر من الخيال..”.
وعندما طلبت منه السيدة المجهولة إعادة صورتها التي حملها الخادم إليه قال المازني في رسالته التي أعاد معها الصورة “لقد أعدت الصورة لأنّي يجب أن أكون صادق الوعد وأن أتركك مطمئنة وأن أطيع رغباتك ولكنها قاسية”. ثم يقول بعد ذلك “… إنّي مسكين وإنّي محتاج إليك. وإنّي معذور إذا جننت، ولكني سأحتفظ ببقية عقلي من أجلك.. لتطيريه لي حين تقابلينني”، ثم يقول “سامحيني… فإن عقلي ليس معي، عقلي مع الصورة التي أعيدها إليك وقلبي يتمزّق… لي رجاء صغير… أعيدي إليّ الصورة مع كل رسالة منك لأنظر إليها وأتزوّد ثم أعيدها إذا كنت لا تريدين أن أبقيها عندي… أعيديها إليّ. أستحلفك بأعزّ عزيز عليك بأن تعيديها إليّ لأراها مرةً أخرى”.
وهكذا سقط المازني في حب امرأة خيالية مجهولة، وكان هذا الحب العنيف تعبيراً عن الحرمان الوجداني الذي كان يعانيه ذلك القلب الحسّاس، والذي عاناه ولا شك معه كل أبناء جيله من الكتّاب الموهوبين الذين بدأوا الكتابة في أوائل هذا القرن عندما لم يكن للمرأة دور في الحياة العامّة، ولم يكن هناك سبيل لإطفاء احتياجات الوجدان الظمآن الحسّاس عند هؤلاء الأدباء.
الحقيقة.. أخيراً
وبعد شهور من كتابة هذه الرسائل، اكتشف المازني أنّ الشاب الذي كان يحمل إليه رسائل المرأة المجهولة كان يخدعه، وأنّه هو نفسه، واسمه عبدالحميد رضا، هو الذي من كان يكتب تلك الرسائل، وقد انتهى الأمر إلى أن ذهب هذا الشاب، بما حصل عليه من رسائل، إلى إحدى المجلات التي كانت تصدر في الثلاثينات من القرن الماضي وأعطاها رسائله ورسائل المازني فنشرتها، وادعى الشاب أنّه كان يريد أن يحصل على رسائل أدبية راقية من المازني، عن طريق تحريك عواطفه، وأنّه لم يقصد إيذاء الكاتب الكبير ولا جرح مشاعره.
وتبقى هذه القصّة نموذجاً يكشف لنا مدى ما كان يُعانيه مجتمعنا العربي من ظروف إنسانية قاسية، ومدى ما كان يُعانيه أُدباء الجيل الأوّل من حرمان بالغ، وقيود اجتماعية ونفسية قاسية.