الأسود المتلألئ
أن أبحثَ عن الألوانِ فذلك شيءٌ يرهقني. لكني حين أحملُ لوني الأسود وأرسم به فذلك يسعدني.
بدأ الأمر وأنا لا أملُّ يوماً لون الفحم على خدي وملابسي. أمضي خفيفاً وأعود ثقيلاً بغُبار فحمي. خطواتي المُتعثرة، وطعم الدخان في حلقي، والسواد من حولي، بدرة الفحم التي كنت أحملها كانت كنزاً، لوّنت عالمي بالأسود ولم يكن لوناً حزيناً كما يظن الجميع.
كان اللونُ الذي رسمت به حروفي الأولى والوجوه الباسمة لفقري، ثم الأحلام المحفورة في دواخلي. الأسود يزينني دوما. أنا الأسود حين يشتد الظلام.
أنا جوال الفحم يتمايل فوق ظهري، فتتراقص الذرات السوداء، وتتناثر على جسدي فتحتضني، حتى أنها تحتضن رئتي ومجرى تنفسي، تماماً كأُمي التي تنتظرني في المساء أحمل الجنيهات القليلة فتحتضني إن حملتها وإن أتيت دونها.
أنا الليل بقبعةِ سواده التي يُلبِسُها للكون. وعيناي النجوم اللامعةُ والقمر بصيرتي على ضعفي وقلةِ حيلتي.
السحاب الأسود أحببته، ذلك لأنه يحمل ماء الحياةِ لقلبي، ويحلُّ محل حنفيتنا الصامتةِ دوماً فيملأ قدح الماء في بيتنا، ويغسل بقايا الفحم مِن على قميصي لأرتديه حين زيارتي لجدتي.
حملتُ كيساً كبيراً مليئا بالفحم، عائدا من مخزن الفحم في ليلة شتاء قارص والسعادة تُشعِلُ ضوءها الأسود في قلبي. أخيرا اقتربت من الدفءِ الذي سأمنحه لأشقائي.
لم أعلم حينها من يستحق الدفء! هل أصابعي التي لم يتجاوز عُمرها العشر سنوات، أم تلك الأنامل الناعمةُ والأظافر المطلية في الطرف الآخر للمدينة؟ في منعطف الطريق انزلقتُ بتدافع أفكاري السوداء فوقعت، وتناثرت الفحماتُ تنوح برداً. وقبل أن أجمعها أتاني صوتٌ من خلفي قائلاً
“أستاذ لو سمحتْ أسألك مجدداً ولا تردُّ علي، أي لونٍ تختار لطلاء بيتك؟ سألتني الجالسة في مكتب التصميم والديكور، أجبت بثقة “أختار الأسود”.
رمقتني بنظرة تحفها الريبة ثم قالت مبتسمة “يبدو أنك شخص غامض!”
أجبتها في سري قبل أن أنهض سعيدا “أنا لست بغامض، إنما أنا غائصٌ في بدرة فحمي التي حملتني إلى مجدي”.