الأسود لا يليق بـ”بيروت“
ارتبط اللون الأسود في أيام حزينة تركت أثرها في ذاكرة الشعوب، منها ما يتصل بأزمات اقتصادية كيوم “الثلاثاء الأسود” الذي خطا به العالم الخطوة الأولى في الأزمة الاقتصادية العالمية التي جرت في يوم الثلاثاء الموافق 29 أكتوبر 1929، بعد انهيار بورصة وول ستريت لسوق الأسهم الأميركية، تبعه “الخميس الأسود”، الذي يختلف عن الجمعة السوداء اليوم الذي يأتي بعد عيد الشكر، ويوافق نهاية شهر نوفمبر من كل عام، فـ”الجمعة السوداء” تسمّى في الوطن العربي “البيضاء”، ربما من باب الأضداد في اللغة العربية، التي جعلت العرب تسمي الأعمى بصيراً، من حيث أن الضد هو استعمال اللفظ بمعنيين متناقضين، كما يقول اللغويون، بسبب كثرة المجاز، واختلاف اللهجات، وإذا كانت أيام الأسبوع في العراق، وفلسطين قد تلطّخت كلها بلون السواد، واصطبغت به، من خلال ما شهده البلَدان من أحداث دامية في مراحل مختلفة من تاريخهما، فإن نصيب لبنان من السواد لم يكن بالقليل، ولعلّ أبرز ذلك تجلّى في “السبت الأسود” اليوم الذي شهد مجزرة يوم 6 ديسمبر1975 في منطقة الفنار الواقعة في ضواحي بيروت الشرقية، خلال الحرب الأهلية، وجاء “الثلاثاء الأسود” ليضع على رأس لبنان عصابة من ألم، وجراح لا تنسى، بعد الانفجار المدوّي الذي هزّ بيروت يوم الثلاثاء الموافق 4 أغسطس الجاري، ومازلنا نتابع تداعياته المؤسفة، من خلال ما تنقله إلينا وكالات الأنباء، ومواقع التواصل الاجتماعي التي امتلأت بمقاطع فيديو تظهر الرعب، والدمار، الذي خلّفه الانفجار، وهو دمار تجاوز الخراب الذي طال الميناء، وما جاوره من بيوت، ومحلات تجارية، وأماكن سياحيّة، بل امتدّ دخانه، وشرره المتطاير بعيدا ليصل إلى النفوس، والأرواح التي غمرها الفزع، وقد قرأت قصصاً عديدةً نقلها أشخاص من موقع الانفجار، تحدّثوا عن حجم الدمار الذي خلّفه، وأظهرت الصور المستشفيات وقد غصّت بالجرحى، حتى أن الفنانة نادية نجيم، التي تعرّضت لإصابة بليغة، فتلقت العلاج بأحد المستشفيات بعد خضوعها لجراحة، وصفت الوضع بأنه “أقرب ما يكون للقنبلة النووية” كما نقلت وكالات الأنباء!
ولم تتوقف النيران عند سماء لبنان، بل امتدت إلى العالم الذي استفاق على صدمة عنيفة، أعادت إلى ذهنه كوابيس الحرب الأهليّة التي دارت في السبعينات، وكان وعينا قد تفتح على متابعة أخبار تلك الكوابيس المفزعة من خلال ما كنّا نسمع، ونرى عبر شاشات التلفزيونات، وما تنقل الإذاعات، وكان الجميع يشجب، ويندّد بها، فبيروت المدينة المدلّلة المغناج المستلقية على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، تظلّ عنواناً للجمال، مثلما فيروز والأخوان رحباني الذين تربت أذاننا على سماع أغانيهم عند مطلع كل صباح، فيما تتقاسم النهار أصوات الشحرورة صباح ووديع الصافي وماجدة الرومي وجبران خليل جبران، ونزار قباني وسعيد عقل.
فلبنان الجمال لا تصفو المشارب إلا به كما قال الشيخ حسن صاحب المعالم، الذي اشتاق إلى لبنان عندما كان مقيماً في العراق، مخاطباً البرق:
يا بارقاً من نواحي الحي عارضني
إليك عني فقد هيجت أشجاني
فما رأيتك في الآفاق معترضاً
إلا وذكرتني أهلي وأوطاني
لا يسكن الوجد ما دام الشتات ولا
تصفو المشارب لي إلا بلبنان.
لذا اهتز الضمير العالمي، وكتب الشعراء الكثير من النصوص الشعرية، من حيث أنّ لبنان ليس جغرافيا وحدودا وعلما، بل هو ذاكرة ثقافيّة وتاريخ وحضارة وفكر وفن وجمال، ومهما كانت أسباب الانفجار وتداعياته لا بدّ من الإشارة والإشادة بوقفة العديد من النبلاء على مستوى الدول، والأفراد بإرسال الطواقم الطبية، والمستشفيات العاجلة لإسعاف الجرحى، ومدّ يد العون للبنان، وهذا واجب على المجتمع الدولي يمليه الموقف الإنساني، في ظرف عصيب يمرّ به بلد عربيٌّ قدّم الكثير للعالم على مستوى الفكر، والفن، والأدب، والمعرفة، ليتجاوز الأزمة، وينهض مجدّداً، ويمحو عن وجه بيروت لون الثلاثاء.