الأصالة والمثاقفة
ثمّة حاجة إلى منهج ورؤية يمكن أنْ نمارس من خلالهما “القلب” الكامل لهذا السرد المتشائم للمستقبل، فمنذ أوائل القرن ظهرت فلسفات متشائمة حول المسار التاريخي للتقدم، فقد اعتقد شبنلجر أنّ الغرب أفلسَ فكرياً، وأنّ الحضارة الغربيّة صائرة إلى التدهور والانحطاط أمام تفشي النزعة الكولونياليّة والميل إلى الحروب والنزاعات، وأنّ العقلانيّة فقدت صوابها أو أنّها عقلانيّة كشفت عن حقيقتها بتحالفها مع القوة والعنف وتخلّت عن شرطها الإنساني الأخلاقي.
بعدما انهار المشروع الإقصائي الكولونيالي وظهرت بدلاً عنه عوالم جديدة سرعان ما تمّ تدجينها في عالم ثنائي القوة؛ لكن بعد ما انهار هذا العالم بدأت تظهر سيناريوهات تحاول أنْ تبني تصورات جديدة وهي تحلم بالسيطرة المنفردة على مقدرات العالم، إمّا من خلال ترسيخها الصراع بوصفه مصيراً حتمياً بدلاً عن الحوار من خلال مقولة “صراع الحضارات”. وإمّا من خلال الدمج الكوني عبر تصور التطور وقد انتهى بالحضارة الغربيّة التي وصلت إلى التخوم القصوى من خلال انتصارها على الآخر، وقد خطط لهذه الحضارة المنظرون الليبراليون؛ لهذا جاءت نظريّة “نهاية التاريخ ” في استعاره غريبة لمقولات هيجل الشموليّة.
إننا هنا ما توقفنا بإزاء الفضاء الذي تمّ تلقي تلك التصورات داخله “وإنما هي الأساس لكونها جاءت في وقت كان فيه العالم بأمسِّ الحاجة إلى أوهام جديدة، وكونها تدين بقوتها الإقناعيّة لنفوذ المكان الذي ظهرت فيه. لذا سرعان ما تلقفتها الأفواه والأقلام، وأنهكتها الندوات والجدالات فغدت ‘مفتاحاً’ لفهم العصر، بل و’تفسيراً’ لكل الأحداث المتأخرة. بل إننا نستطيع أن نقول إن الاجترار الإعلامي قد حوّلها إلى رأي عام وبادئ رأي كوني. إنّ هذه ‘النظريّة’ لم تكن تستهدف الوقوف عند حركة التاريخ بقدر ما كانت ترمي إلى صنعه ورصد آفاقه والإسهام في خلق ممكناته. فهي تدخل من ضمن آليّات جديدة أخذت تطبع عالمنا المعاصر؛ فهي لا تعد آليّات منطقيّة أو آليات أيديولوجيّة، مع ما يفترض فيها من تشويه وقلب، وإنما هي آليّات تجعل الأشياء حقيقةً بمجرد التأكيد على أنها كذلك”(في الحوار بين الثقافات والصراع بينها، عبد السلام بن عبدالعالي).
وما يستوقفنا بهذا الصدد نتيجتان تبلورتا عن هذا المخاض الفكري. أولاهما: إن الجدال حول هذه المسألة طرح أمامنا خيارين منفصلين لا ثالث بينهما، إمّا التسليم بصراع الثقافات، أو القول بالحوار بينها. وهكذا طرح الحوار مقابلاً للصراع وبديلاً عنه.
النتيجة الثانيّة: هي أنّ الصراع أو الحوار طرح بين معسكرين ثقافيين اثنين، مهما اختلفت الأسماء التي أعطيت لهما سواء أكانت التقابل بين الإسلام والغرب أم معسكر الشر بمقابل معسكر الخير.
إنّ الحوار هو الطريق السلمي الذي يبدأ بعد أن تهدأ الحروب وتسكت المدافع، وهو لا ينطوي على علائق قوة وإنما يخفي سوء التفاهم والذي من شأن تبادل الحجج أن يرفعه. بمقابل اللامعقول الذي يطبع الحروب؛ فالحوار يتحكم فيه منطق العقل. ويكفي إبداء حسن النيّة اللازم والتحلي بخصال الصدق واحترام الرأي الآخر كي يرفع سوء التفاهم ويتوصّل الطرفان المتكافئان إلى الاتفاق والوفاق والوئام (المرجع نفسه).
إلا أننا نلمس هنا أن الأمر ليس بهذه الصورة بل إنّ الأمر يخفي أشياء بقدر ما يظهر أخرى.
• ما حدث لا يعدُّ صراعاً بين الحضارات… بل هو صراع الحضارة الغربيّة مع نتاجها. فانهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن تفكك للدولة فقط، بل كان تفككاً للمعسكر الشيوعي ككل، أي كـ”عالم ثان” خصم لـ”العالم الأول”. لقد كان العالم آنذاك يصنّف على ثلاثة أقسام:(العالم الأول والثاني والثالث) وما حدث هو أنّ العالم الثاني اختفى! اختفى ليس فقط كقوة، وليس فقط كنفوذ، وليس فقط كهيمنة، وليس فقط كمعين لدول العالم الثالث في كثير من الأحيان، بل اختفى أيضاً كـ”عالم” يعادي “العالم الأول”، وكرؤية ومشروع للمستقبل أيضا!(محمد عابد الجابري: الحوار بين الثقافي والسياسي).
• إنّ الأمر ليس سوء تفاهم فحسب وإنّما هناك رؤيّة قصديّه تمّ بموجبها تعاضد المعرفة والقوة وقد أدّت إلى إنتاج هذا المعنى “إنّ أداة الحوار التي هي اللغة هي مرتع تناحر القوى، وميدان مفعولات السلطات. اللغة عش الاختلاف ومجال علائق القوّة”. فأن تطلق الأسماء، كما يقول نيتشه “هو أن تكون سيداً”. استراتيجيّة التسميّة هي استراتيجيّة هيمنة وتسلط، وتاريخ الأشياء هو تاريخ مسميات، وهو بالآتي تاريخ أسماء، وتاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوِذة التي تعطي المعاني وتحدِد القيَّم. ذلك أن اسم الشيء ومعناه هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه، فالكلمات “هي كميات من القوة في علاقة توتر، ولا يمكن للحوار الذي يوظفها وسيستثمرها إلا أن يجسد علائق القوة ومرامي الهيمنة. إذن لا يتحدد الحوار بآليّات منطقيّة ودوافع أخلاقيّة تتوقف على نزاهة المحاور وصدقه وعدم تناقضه ووفائه لما تعهد به، إنه صراعٌ مقنعٌ. والغريب أن هذه التقسيمات المانويّة تأتينا بمن يضعون أنفسهم جهة ثقافة الحداثة والعقلنة والتنوير، إلا أننا سرعان ما نتبين أنهم يصدرون في تحليلاتهم عن أوليّات لا تقل أصوليّة عما ينعتونه هم بالأصوليّات. هذا فضلا عن كونهم يستعملون آليّات أيديولوجيّة؛ لإذكاء مشاعر التفوق وممارسة أدوار الهداية وتغويل الآخر باعتباره حاملاً للعنف مسكوناً بالإرهاب”(في الحوار بين الثقافات والصراع بينها عبد السلام بن عبد العالي).
هذه اللغة بقيت وستبقى بين الشعوب لأنّ القوّة هي الخيار الأرجح منذ بدايّة الخليقة إلا أن هذا الخيار ذو نتائج مدمِرة؛ لهذا نرى كثيراً من التأويلات الحديثة مثل: نهاية التاريخ أو صراع الحضارات وهي في جملتها لا تخلو من تقديم شرعيّة لخطاب القوّة والهيمنة الغربي وإضفاء الطابع العقلي عليه حتى لو أدّى هذا إلى صناعة مخيال دعائي ارتدادي غارق بالأطياف والأفكار الأحاديّة والثنائيّات الضديّة
إذن هناك حاجة ماسّة إلى تعرية كل هذه الأفكار المسبقة والعمل على اختراقها وتجاوز لغة الخضوع الدعويّة القائمة على التنميط والمماثلة للمختلف عنها.
إذن ثمة حاجة إلى تأكيد الوجه المناقض له من خلال العمل على ترسيخ المختلف لغةً وفكراً إلى حد الاحتفال البهيج بالاختلاف عن هذا التاريخ للمعرفة متجاوزاً، وأن يزيح التراب عن المنسي والمغيَّب ويفضح الارتباطات غير المعترف بها وأن يديم حالة اليقظة المتواصلة لعدم السماح بإنصاف الحقائق، بل العمل يتمثّل هنا في الخروج من مناخه الإشكالي أي العمل على تجاوزه معرفيّاً وأيديولوجياً/أخلاقياً متجاوزاً لتلك الإشكاليّة التي قامت عليها الحداثة يومها والتي عمّقت الأوهام الإنسانيّة والتي كانت تبرر ذاتها اعتماداً على البيولوجيا والاشتقاق اللغوي، وفي حينها ظهرت نظريّة الأعراق التي أثرت كثيراً في تبرير الهيمنة والإلحاق وبالآتي كشف التواطؤ بين المعرفة والسلطة.
كل هذا بحاجة إلى إعادة نظر من خلال قيم ما بعد الحداثة التي تعمل على إقرار الاختلاف لذا يؤكد نيتشه “ليس هناك واقعة في ذاتها. فكل ما يحصل ويتم ليس إلاّ مجموعة من الظواهر التي انتقاها واختارها كائن مؤول”، من هنا ثمّة حاجة إلى إعادة النظر بالسلوك التواصلي بين الذات والآخر من خلال الفن هذا الفن الذي يمكن نعته “بالفرحة التراجيديّة”-بلغة نيتشه- فقد عدّه الحافز الأكبر للحياة، أو “إرادة القوة” فهو يمثِل المهمّة الميتافيزيقيّة الكبرى للفن، لذا وجب “الإنصات إلى الجسد” كخيط ناظم للتأويلات الفنيّة كلها. هكذا تحدّث نيتشة عن “فيزيولوجيا وجينالوجيا الفن”. وبالمقابل تجاوز اللغة الإخضاعيّة التي تقوم على الارتياب بالآخر بأسلوب لا يختلف كثيراً عن أسلوب المشعوذين كهنة الظلام، ومن الممكن أن نتلمس ذلك في قول برنارد لويس “عندما تتصادم حضارتان تسود إحداهما وتتحطم الأخرى”(شكري محمد عياد: نحن والغرب) هذا التصور النمطي يعكس منظومة من المفاهيم يمكن عرضها من خلال تشخيص شتراوس للآتي:
الأولى- منهما منظومة معرفيّة، تشرح الظواهر الإنسانيّة بمقولتي: الصحيح والخطأ.
الثانيّة- البعد القيمي الذي يراد له أنْ يكون قشرة حاميّة للذات “منظومة أخلاقيّة” والتي تم تأويلها منذ القديم أي منذ المانويّة بمصطلحي الخير والشر. مما يظل عصياً على القبول الجماعي؛ بسبب اختلاف العادات والمعتقدات. هذه المعايير تسهم في تنميط الآخر إذ يغدو العالم الآخر عالماً نقيضاً عالم الذات والتغويل وبالآتي يتم إسقاط التصورات النمطية الاختزاليّة عليه؛ وهذا ما تحقق من خلال التعاضد بين القوة الكولونياليّة والمعرفة ممثلة بالقراءات العلمويّة أو الاستشراقيّة غير البريئة من موجه عرقي يحاول تبرير التفوق الغربي وخلق سرديّة تاريخيّة وإعادة بناء الماضي من أجل إضفاء الشرعيّة على الحاضر الذي يشهد تفوق الغرب، ومن هنا يمكن القول إن الفكر وليد السياسة، والسياسة هي القوّة المحرِفة للفكر والتاريخ والدين فهي المنتجة للتأويلات والانحرافات عبر سعيها لحيازة المشروعيّة بعد أن حازت القوة.
هذه اللغة بقيت وستبقى بين الشعوب لأنّ القوّة هي الخيار الأرجح منذ بدايّة الخليقة إلا أن هذا الخيار ذو نتائج مدمِرة؛ لهذا نرى كثيراً من التأويلات الحديثة مثل: نهاية التاريخ أو صراع الحضارات وهي في جملتها لا تخلو من تقديم شرعيّة لخطاب القوّة والهيمنة الغربي وإضفاء الطابع العقلي عليه حتى لو أدّى هذا إلى صناعة مخيال دعائي ارتدادي غارق بالأطياف والأفكار الأحاديّة والثنائيّات الضديّة، فهي في كل الأحوال تصنع المحن الذاتيّة وتؤول إلى الإقصاء المتبادل وتدمِر علاقات الحوار والتكامل الإنساني.
هذه الشواظ الإقصائيّة العدائيّة المحرقة يجب تعريتها لتحل محلها اللغة التواصليّة الحواريّة بوصفها بديلاً مقابلاً مناسباً. وفي هذا يقول كلود ليفي شتراوس “إن الإسهام الحقيقي لأيّ ثقافة لا يتكوّن من قائمة الاختراعات التي أنتجتها، بل من اختلافها عن غيرها. فالإحساس بالعرفان والاحترام لدى كل فرد في أيّ ثقافة تجاه الآخرين لا يقوم إلا على الاقتناع بأنّ الثقافات الأخرى تختلف عن ثقافته في جوانب عديدة حتى وإن كان فهمه لها غير مكتمل..” (التنوع البشري، تقرير اللجنة العالميّة للثقافة والتنميّة). و إذا ما بحثنا عن هذه اللغة التواصليّة نجده أي شتراوس يشير إلى ثلاثة عناصر، يقول:
1- لا وجود للثقافة إِلاَّ في هويّة محددة تميزها عن غيرها، فإن انتفى التميز انتفت الثقافة وأصبحت باطلة وملغيّة، مما يجعل كل حديث سويّ عن الثقافات حديثاً عن الهويّات الثقافيّة.
2- لا وجود لثقافة محددة إِلاَّ في علاقتها بثقافات أخرى مختلفة عنها، كما لو كان الاختلاف قوام الهويّة الثقافيّة وشرط حوارها مع الهوِيَّات الأخرى. فلا حوار من دون اختلاف ولا اختلاف من دون هويّة، ولا هويّة إِلاَّ بوعي الفرق بين “الأنا” و”الآخر”. (تزفيتان تودوروف: فتح أميركا).
هذا التصور يختلف عن أخلاقيات القوة وينتهج منهجاً يؤسس إلى شكل جديد من الحوار والتثاقف نستطيع أن ننطلق منه في تجنب سوء الفهم الذي تضمنه أطروحة “حوار الحضارات” التي اكتنزت قيما صراعيّة أكثر من كونها حواريّة وقد أخذت تجلياتها تظهر في المنطقة بأشكال متنوعة تستتر خلف مقولات أخرى، في أثناء صراعها بالمنطق؛ فهي تحارب الإرهاب وتتدخل في صناعته في الوقت نفسه.
بالمقابل القيم البديلة من الممكن أن تكون استراتيجيّة تؤكِد على تعريَة المسبقات وكشف التواطئات العميقة غير المفكر بها ؛ وهي تنكشف من خلال لغة تكشف التواطؤ بين (المعرفة والقوّة) إذ بحسب اللغة التواصليّة ينزع هابرماس إلى تعميق التجربة الإنسانيّة عبر ما يطلق عليه بـ”توسيع″ نطاق الفعل التواصلي في مجال الأخلاق والحياة الاجتماعيّة أي إلى أنسنة الانتاجات العقلانيّة. وإنّ تطور الأنساق المعياريّة للمجتمعات وتنامي وعي هذه المجتمعات بذاتها ووعي الأفراد بذواتهم منوط بمدى توسيع نطاق الفعل التواصلي المستند على التفاعل الاجتماعي والتفاهم المتبادل بين الذوات.القائمة على المثاقفة الايجابيّة فهي من دون شك تجعلنا بإزاء بعد حواري تعايشي تكاملي حفاظاً على مجموعةٍ من الأفكار الإنسانيّة في تحقيق الحوار، فضلاً عن الحفاظ على التنوع والاعتراف به كظاهرة إنسانيّة حتى يصبح الحوار ضرورةً، إلى دفع الناس لبناء حضارة إنسانيّة متكاملة، قراءة الآخر وفهمه من دون الاستناد على المصادر الإعلاميّة بل قراءته قراءة موضوعيّة. تحقيق شروط حريّة الحوار عن طريق استعمال قوة الحجة لا حجة القوة كوسيلة حضاريّة لفض النزاعات. وفهم ضرورة ارتباط الواقع بالحوار الذي يُحتِم وجود تقويم موضوعي، ينطلق من حتميّة الشراكة الإنسانيّة، ومن وعي لحقيقة هذه الشراكة المتكافئة بين البشر، ومن ضرورة معرفة مَنْ نحن ومَنْ نحاور، وتحديد من يُمثِل الحضارات وخصوصيّتها وهي دعوة لمعرفة هويّة الآخر الذي نحاوره.
فإذا ما أخذنا مفهوم الحوار، في معناه العام فهو خطاب (أو تخاطب) يطلب الإقناع بقضيّة أو فعل. وفي “معناه الخاص” كل خطاب يتوخّى تجاوبَ متلقٍّ مُعين، ويأخذ رده بعين الاعتبار من أجل تكوين موقف في نقطة غير معيّنة سلفاً بين المتحاورين؛ قريبة من هذا الطرف أو ذاك، أو في منتصف الطريق بينهما. (محمد العمري، بلاغة الحوار) فهو بهذه الصيغة بعيد عن الإرغام والإكراه وآليّات القوة التي تعتمدها القوة النافذة دولياً من خلال الاستناد على آليات تعتمد على التحريض والتدخل في الشؤون الداخليّة بذرائع متنوعة.
ومن ثم فهناك مفهوم آخر يتعلق بـ”مجال الحوار” أي أنّه يتناول أمراً مهماً يتعلق بـ”تدبير الاختلاف حول القيمّ” وهو يلتقي بمنظري بلاغة الإقناع من أفلاطون إلى بيرلمان في التأكيد على أنّ مجال التخاطب الحواري (أو الحجاج) هو مجال القيم.. بحسب سقراط، حين نختلف حول (المصيب والمخطئ والجميل والقبيح والخيـِّر والشرير)، وبكلمة واحدة حول القيّم… فبمجرد ما نحاول تنزيل هذه القيّم على الواقع فإنها تصبح موضوع أخذ ورد بحسب المستمَعات. (المرجع نفسه.)
بمعنى اختلاف الأعراف الثقافيّة بحسب الثقافة أو الحضارة وبالآتي لا يمكن إخضاعها إلى منطق البحث العلمي؛ لأنّها خارج هذا البعد الأداتي بل هي رأسمال ثقافي متغير بحسب الخصوصيّة الثقافيّة ومن هنا الاختلاف في الهويّات وهو يعد أمراً طبيعياً وميداناً للتنوع ومحرضاً على الحوار بعيداً عن التنميط الثقافي العنصري.
ومن ناحية ثانيّة طرح مفهوم يقوم على التعدديّة الثقافيّة بعيداً عن فرض قيّم ثقافيّة على أخرى فإنّ هذا يدخل في نطاق الإكراه كما تحاول قيم العولمة أن تفرض نمطاً من القيّم الاستهلاكيّة على الثقافات الأخرى، وكأنها ثقافة العصر، فهذا النمط الاستهلاكي يسهم في الترويج إلى قيّم وثقافة معينتين وفرضها على الآخرين ومن ثم استهلاكها. فهذا الخطاب يتعارض مع خطاب الغزو الثقافي الذي ترفعه الشعوب التي تدافع عن خصوصيتها ،وهذا يتعارض أيضاً مع التثاقف والتحديث الذي يتعلّق بتبادل قيمّ ثقافيّة رصينة وليست استهلاكيّة.
لوحة: سعد يكن
فإن هذه الآليّة في مناقشة آليّات الحوار تجعلنا نقف عند مفهوم آخر مهم هو “المثاقفة” فالحديث عن هذا المفهوم يجعلنا بإزاء “مشكلة التثاقف” وهو في الأصل حديث عن مشكلة الغيريّة، وهذه الفكرة يمكن أن نرصد فيها بعدين:
الأوّل- التعامل مع المثاقفة بوصفها غزواً ثقافياً أو العمل على كشف المثاقفة المهيمنة إذا سلمنا بأنه ليست هناك ثقافة واحدة نموذجيّة، وبأن مشكلة التثاقف من المشكلات التي أثيرت في حقبة الاستعمار، فينبغي أن نعلم بأنّ عمليّة التثاقف هي: العلاقة التي تجمع بين ثقافة الأنا وثقافة الأنا الذي ليس أنا.
إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة السيد وثقافة العبد. إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة البورجوازي المستغِل وثقافة البروليتاري المستغل. إنها العلاقة التي تجمع بين ثقافة الإنسان الغربي المستعمر وثقافة الإنسان العربي المستعمر. إذن، مما تقدم يبين بجلاء بأنّ عمليّة التثاقف علاقة تكشف عن اللاتكافؤ الواضح بين ثقافة الإنسان العربي الذي استُغِل واستُعمِر ولا زال، وثقافة الإنسان الغربي المستعمر القوي السيد الذي يراهن اليوم على فكرة العولمة “كأسلوبٍ جديد للاستعمار”، وقد أصبحت ثقافة الإنسان الغربي ثقافة قويّة مهيمنة بحكم قوته الاقتصاديّة والتقنيّة والعسكريّة، وهذا ما تجسّد مع الغزو الاستعماري لكل بلدان العالم الثالث في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي بما في ذلك العالم العربي، واعتباراً من هذه اللحظة بالذات فكّر الإنسان الغربي المستعمر القوي، السيد، في مسألة تنميط وتكييف ثقافة الإنسان العربي المغلوب على أمره والضعيف في الوقت نفسهِ، على ثقافته تحت فكرة التثاقف. وهذا ما يوضِّحه الأنثروبولوجي جيرار لكلرك في مؤلفه “الأنثروبولوجيا والاستعمار” قائلا “يمكن استعمال التثاقف للإشارة إلى الأنماط التي يتم بموجبها قبول مظهر ثقافي معين في ثقافة أخرى إذ يتلاءم ويتكيّف معها مما يفترض المساواة الثقافيّة، بين الثقافة التي تعطي وتلك التي تتقبل، والتكيف هو السيرورة التي تتحوّل بموجبها عناصر الثقافة المستعمرة والمسيطر عليها نحو حالة تتلاءم مع شكل الثقافة المسيطرة”. الاستفهام المطروح الآن هو: كيف يمكن أن يسهم مثقف “العالم الثالث” وأقصد هنا المثقف العربي كأنموذج، في دعم ثقافته لمواجهة ثقافة المستعمر القوي الذي نزع بالأمس اعتماداً على قوته العسكريّة وينزع اليوم تحت فكرة العولمة إلى نمذجة ثقافته وفرضها على الإنسان العربي؟”(مسألة التثاقف الراجي عبدالرحيم).
الثانيّة: تقوم على الحوار والتكامل إذ يظهر معنى المثاقفة كما تصورها الأنتربولوجيون الذين التزموا بتعريف المثاقفة انطلاقاً من اتصال مستمر ومباشر بين ثقافتين. يقول ريدفيلد لينتون وهيرسكوفيتش في مؤتمر عام 1938 إنّ المثاقفة “مجموعة من الظواهر الناتجة عن اتصال مباشر ومتواصل بين أفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة”. (إشكاليّة التواصل في مجال التربيّة والتعليم)، هذا عندما أصبحنا نعرف أنّ الاختلاف بين الشعوب هو اختلاف تاريخي لا أنثروبولوجي أو بيولوجي… هو كائن يعرف صيرورة تاريخيّة، بل هو انكسار في الزمان والمكان، وما ترتب على ذلك من انحطاط وتخلف وتبعيّة، ومن دون عقلانيّة.
والإجابة لن تكون إلا بالصرخة التي أطلقها فرانز فانون حول حق المبادرة التاريخيّة للشعوب المستعبدة، وذلك في كتابه الشهير “معذبو الأرض” ضد كل تبرير لاختلاف أنثروبولوجي بين شعوب العالم. ولا يمكن نسيان محاولات الفكر الاستشراقي و”المثالي” بتبرير اختلاف الشرق أنثروبولوجيا لصالح أيديولوجيا الهيمنة. فالعقل لا يعد حكراً على أحد بل هو ممارسة إبداعيّة-اجتماعيّة، لها مشروعيتها القصوى. وكل إقصاء للعقل عن فئة محددة لن يخدم إلا المطلقات واللامعقول داخل المعرفة والسياسة معاً. (عبداللطيف الخمسي، من أجل فلسفة اختلافيّة نقديّة).
نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة بعيدة عن الإلحاق إلا أنها تقر الاختلاف هنا ثمّة معادلة بين (اللغة التواصليّة واللغة الإخضاعيّة) إذ يفضي الحديث عن الفرق بين التفاوت والمساواة إلى حديث موازٍ عن:
النسبي والكلي؛ إذ المفهوم الأول التفاوت يذهب إلى تنوع الثقافات الإنسانيّة، بينما يكتفي التصور الثاني والمساواة باختزال التنوع إلى تصور ثقافي وحيد، هو تصور الإنسان المتفوق والفرق بين التصورين التفاوت والمساواة هو الفرق بين الأحادي والمتعدِّد؛ فالتنوع الثقافي يقضي بتنويع المعايير والرؤى والأحكام، فهو انظر من التفكير قد يغيب الآخر؛ لأنه ينظر له من خلال الذات وبالآتي الميل إلى التشميل تصور له سلبياته إذ “تصور الحياة ككل، وميل للتأثر بفكرة واحدة وجهل بباقي الأشياء”(هشام جعيط: أوروبا والإسلام، صدام الثقافة والحداثة). إنّ “العالم غير الأوروبي لا يضم، بنظر الأوروبي إلا السكان الأصليين، والنساء المحجّبات وأشجار النخيل ،والجِمال تؤلف المشهد، الخلفيّة الطبيعيّة لوجود الفرنسيين الإنساني”(إدوارد سعيد، فرويد وغير الأوروبيين). بالمقابل فإنّ التأكيد على التعدد أو القراءة الطباقيّة بلغة إدوارد سعيد إن عالمنا هو عالم المشاركة والثقافات المتقاطعة التي يمتلكها التاريخ الإنساني عينه. لهذا أوجد مصطلح “القراءة الطباقيّة”. والتي يؤكد فيها على إن لكل نص عبقريته الخاصة، فهو بهذا قد ركّز على التعدديّة الحواريّة بين كل هذه النصوص. (هيهات أن تكون الثقافات وحدانيّة موحدة، بل أنها بحق لتكتسب عناصر أجنبيّة أخريات، وفروق تفوق ما تقوم واعيّة بإقصائه (إدوارد سعيد، تمثيلات المثقف) .
في الوقت الذي أكّدنا على بطلان هذا التمثيل النمطي ينبغي التأكيد على أن يتحمل الغرب نتائج أفعاله التي تركت أثار بعيدة الأثر على الآخر، وأن يعمل على تقديم المساعدات التي تجعل الآخر قادر على التغلب على مصاعبه.
إن ما يميز عالم اليوم، أي العالم وقد اكتسحته التقنيّة والإعلام هو غياب الاختلاف. أي سيادة التبسيط والأحاديّة والتنميط الثقافي على الخصوص، كتب كونديرا “تعمل وسائل الإعلام في خدمة توحيد تاريخ الكرة الأرضيّة، فهي تضخم وتوجه عمليّة التقليص، إنها توزع في العالم كله التبسيطات نفسها والصيغ الجاهزة التي يمكن أن يقبلها أكبر عدد من الناس، أن يقبلها مجموع البشريّة. هذا الإعلام يعمل على خلق تبسيط يغيب المشاكل أو يحيلها إلى أمر بعيدة عن جوهرها نحن بحاجة إلى تجاوز الخطاب التقليدي إلى خطاب تحديثي؛ لأنّ “ذلك أن ثقافة الحداثة هي انسلاخ دائم عن ثقافة التقليد. إنها حركة انفصال دائبة نحو خلق شبكات مقاومة تحاول الانفلات من التنميط وتسعى نحو خلق الفروق وإحداث الاختلافات” (في الحوار بين الثقافات والصراع بينها عبد السلام بنعبد العالي).