الأقنعة والأشواك
هي أسئلة شائكة مستفزّة ومشروعة، هل تكتب المرأة بقلمها وصوتها ومخيلتها تجاربها الإنسانية؟ إلى حدٍ ما، المبدع في المجتمعات العربية بشكل خاص يختبئ خلف أقنعة كثيرة متكاثرة بالكاد تشرق من خلفها ذاتُه النقية وضوءُ نفسه المتفرد، فالقيود تُفرض عليه سواء أكانت داخلية أو خارجية ولا يستطيع التفلت منها فهي مغروسة في بنيته الفكرية منذ الصغر، المجتمع المكبّل لا ينتج أفرادا أحرارا رغم أنّ مفهوم الحرية في الفن والإبداع فضفاض، من هذا المنطلق أقول إنّ القيود المفروضة على الإنسان العربي في إبداعه حاضرة ولا يمكن التنصل منها لكن وطأتها أشدُّ وأعمق على المرأة وكثيرا ما تصل -ببالغ الأسف- لكسر مشروعها الإبداعي وخنق ذاتها ومحو تفردها، يحدث أن تختنق المرأةُ المبدعة وراء الأقنعة المجبرة على تجرّعها وتحجم عما تريد قوله أو تقدمه منقوصا ومبتورا أو باهتا لأنها في ظل المنظومة القيمية والاجتماعية العربية تتعرض للوأد والتدجين والاستنزاف بشكل ممنهج، فتسعى إمّا لنحر مشروعها الإبداعي والاستسلام للتيار وإمّا لغربلة كتابتها والنأي بحروفها من شِباك القبيلة وأحيانا بازدياد وعيها وثقافتها وتجربتها تسعى للبوح بلغة تشفُّ ولا تكشف عن المخبوء من المعاني والرسائل العميقة والمخفية بمهارة وذكاء فتبدع وتحلق بعيدًا عن سهام القبيلة قصيرة النظر وسطحيتها وقاصرة الرؤيا.
لا أرى أنَّ المرأة تكتب لتحققَ اختلافها عن الرجل وتبدع نصا مائزا ذا سمات خاصة فهذه نظرة تؤطر إبداعها وكيانها الإنساني في هدف نسبي وفضفاض وجدلي، لكن من البديهي أن يختلف ما تكتبه عمّا يكتبه الرجل ليس لأفضل ولا لأقل جودة لأنَّ كل نص إبداعي هو حالة متفردة وخلق جديد بصرف النظر عن كاتبه / كاتبته إذ لا يجوز الحكم المسبق على النص أو النظر إليه من زاوية جنس مبدعه، ووجود فروقات في الإبداع أمر إيجابي وطبيعي شرط ألا يصلَ الأمر إلى حصر الموضوعات واللغة والأسلوب في موضوعات مكرورة تصب في قالب واحد وحيد، الأصل في الإبداع الشمول والتنوع والتحليق وتعدد التجارب وتفرّدها مهما كان جنس المبدع.
المرأة تبدع لغتها إلى حد ما لكنها لا تستطيع أن تنزع أشواك لغة المجتمع وهيمنة المجتمع الذكوري، والمبدعة الحقيقية تكتسب القدرة على أن تختلق نوافذ وأمداء وآفاق للتنفس والبوح وبث مشاعرها وأحلامها ومواجعها وهواجسها بطبيعتها القادرة على التحمل والتجدد والحلم وإرادتها الصلبة التي تقيها من الانكسار وتجعلها تنجو من الممحاة الخفية الموجهة ضد أية امرأة متميزة.
هل نخلص إلى أنّ المرأة لا تكتب اختلافها كأنثى؟ اعتبره حكما عاما فالتجارب الإبداعية النسوية متباينة في طبيعتها واستمرارها وجديتها بين الكاتبات وفي تجارب الكاتبة ذاتها، والمبدعة الحقيقية تكتب اختلافها كأنثى دون أن تتقصد ذلك وحين تتبع البوصلة الأنثوية داخلها التي تتميز بحساسية فائقة وقدرة على التقاط التفاصيل وفيض العاطفة والحلم، وهي تكتب المتاح لها أن تكتبه إلا في ما ندر، وكما قلتُ لا يمكن أن تنزع من حروفها أشواك لغة المجتمع الذكوري والتي نجدها أيضا في حروف يبدعها رجال.