الألم يولّد الغناء

“هل أستطيع بِعَيْنَيَّ الفرنْسِيَّتَيْن أن أُدْرِكَ ولادة الشّعر الجزائري؟”.
الثلاثاء 2021/06/01
لوحة: باية محي الدين

من الألم يولد الغناء. في البدء يكون الإنسان مُنْدَهِشًا من نفسه. ثُمَّ كي يتعرّف أكثر عليها فإنّه يُثَبِّتُ المرآة بشكلٍ أحسن في يده. وبعد أن يقارِنَ العالم وعبارته، فإنّه إذا تابع مُسْتَخْدمًا هذه الأداة المُعْطاة، لنْ يجد مِن جديد كما في اللّحظة الأولى سوى ما ينبثقُ من حنجرتهِ. وسيسْمع طويلا صوت مَوْتِ الأعماق هذا.  أن نختار… هل نختار هذا العبور لِثَباتِ القلب، أو هذا الألم الّذي يجعل العينين مجنُونتين؟ لا أعرف هل نغني لنُخَفّف عنّا، ونُهَدِّئَ فينا شُعْلَةً ما. لكنْ لماذا نغنّي هذا الشّيْءَ، وليس شيئًا آخرَ؟ هنا يكمن السّؤال المُرْعب للشّاعر أمام نفسه، هذه المرآة الدّاخليّة. ثُمَّ يأْتي القرار، وإنّه دائما خطيرٌ مثل المُفْتَرَقِ الّذي تنْخَرِطُ فيه الحياة، ستكون نجّارًا أو طبيبًا. وفي كلِّ قصيدةٍ، كان عليّ أن أقول هذا، وليس ذاك.

 ترجمة ميلود حكيم

إنّ ما هو درامِيٌّ في كلّ هذا، هو أنّها ليست كوميديا نَلعَبُها. نحن لا نتَزَيَّا بِبَدْلَةٍ، أو على الأقلِّ لن نستطيع أن ننزع هذا اللّباس المُنَفِّر أبدًا عن الجِلْدِ. إنّ هذا الحُلْمَ سيكون مَعْروضًا في بهارِجِهِ على السّاحة العموميّة. اللُّعْبَةُ ستتوقّفُ عن كَوْنِها لُعْبَةً. ومن يتكلَّمُ ليس وحيدًا. هناك العالم أمامه، مثل قاضٍ. وأنا موجود في العالم، فماذا أفعل فيه؟

أتَخَيَّلُ محمد ديب كما أراه أنا. إذ كيف لي أن أتعامل معه بشكل آخر؟ هل أستطيع بِعَيْنَيَّ الفرنْسِيَّتَيْن أن أُدْرِكَ ولادة الشّعر الجزائري؟ إنّ الرّواية، دائما، والحكاية، والقصّة، تُشْبِهُ دَعْوَةً لِلسّفر: أدخل مع المؤلّف في جزائره المجهولة. لكن القصيدة؟ هي بالضّرورة إيحائِيَّةٌ، مشحونةٌ بِطاقَةٍ غريبَةٍ، بكُلِّ ما يَفْتَرِضُهُ اقتصادُ الكلمات عن واقِعٍ يتقَاسَمُهُ الشّاعرُ مع آخرين غيري. أفَاجِئُ حِوارَهُمْ، حركاتِهم الأليفة بالنّسْبَةِ إليهم والتي تختصر الكثير، وأنا غريبٌ داخل هذا السّرّ الجماعيّ. الغريب في الأمر هو أنّني لا أجِدُني هنا أمام شِعْرٍ مُتَرْجَمٍ، فالكلمات هي كلماتُنا، بل هي كلماتي. هذا الإنسان من بلاد لا علاقة لها بأشْجار نافِذتي، وأرصفة أنهاري، وأحجار كاتدرائيّاتنا، يتكلّمُ بكلمات فيُّون وبيغي. ويلوح هنا بلا رَيْبٍ مظهر أساسيٌّ من المأساة الجزائريّة، حيث إنّ بعض الناس عندنا ما يزالون يُبْدُون رأيهم فيها بِنوعٍ من الاستخفاف، في الوقت نفسه الذي يكون فيه التعبير في أعلى مستوى، عند أولئك الّذين يعتبرون الوفاء لشعبهم هو لغتُهم، للوصول إلى ما يُفْلِتُ من التّحليل، لِلتّعبير عن ما لا يمكن تحديده، هذا الفرنسيّ، الكلافوسان المُعَدّل جيّدًا، الآلة الموسيقية لضفاف “اللَوار”، هذه اللهجة الّتي هي أيضًا لهجة الجنود في اللّيل، ومعجم التّمشيط، وتفسير التّعذيب والجوع. ذات يوم رُبّما ستُوزن هذه الأشياء. والقصائد الّتي بين أيدينا ستكون ثقيلةً مثل فواكه في كفّة ميزان فرنسا!

أتخَيّلُ محمد ديب… في الوقت الّذي لم تعد فيه من قيمة لكل ما كان يُشَكِّلُ الحياة، والانسجام، وموسيقى القلب والرّوح، عندما تتوقّفُ العلاقات الإنسانية عن كونها هذا التبادل لِتتحَوّل إلى اسْتعباد في أيّام الحرب، وخضوع الإنسان للآلة الّتي لا ترحم، عندما تُصْبِحُ الجريمة هي القانون، والخير يُقَرِّرُهُ الآخرون، يتساءلُ الشّاعر عن غنائه. هل يصْمتُ؟ أم سيُخْضِعُ ذلك أيضًا لأمر العسكريّ؟ كان عُمري اثنان وأربعون سنة في 1939، وإجابتي عن هذا السّؤال كان اسمها ” انْسحاقُ القلب”. رُبّما ابْتداءً من هناك أستطيع فَهْمَ شاعر “الظّلّ الحارس”، انْطلاقًا من إقاماته المُؤَقّتة في “كْرُوي -سُور- أورك” حيث يُمكِن أن أتتبَّعَهُ في أوراس الكلمات هذا، عبر تلاله اليابسة الأعشاب والمُشْتعلة…

غريبٌ بلدي حيث الكثير

من العواصف تتحرّر…

في ساعة التحوّلات العميقة هذه، يجد بشرٌ حينئذ في أنفسهم النبرات اللاّمُتَوَقَّعة لِلضّياء الخارجي. عنذئذ، في وسط الحركات الآلية لنشاط ظاهر، كنتُ أجد أنا معنى القواعد المنسيّة، والمذاق المُعَقَّدَ لِلغة، والمفعول الإلكتروني للقوافي. آنئذ، يأتيني في شكل أغانٍ، الصّدى البعيد للخرافات، والتاريخ، وأساطير الحبّ والموت، هكذا “طروادة” و”مدريد”، وزهرة عسل العشاق، و”تْريسْتان” الّذي كان يدّعي الجنون، و”إلْيُنُور الأكيطانية”… يأتيني عبر جدليةٍ لِلفكر حيث كلُّ ما كان هُرُوبًا من الواقِع صار يخدم الآن الواقع الممنوع. لا أحد يستطيع سنة 1960 أن يمنع الشّاعر الجزائري، عندما يقول الأوراس، من أن تكون في عينيه الصُّورُ الّتي يتضَمَّنُها ذلك. ومهما كانت براعة القوانين، لا يمكن حينئذ قَمْعَ هذا الحزن، إذ هذا الحزن لا يُهْزم.

وكما أنّ من الغرابة أن يتشكّل الكلام الّذي يتكَلَّمُهُ “باسكال” و” دوفالمور” في شفتيه اللّتين من وراء البحار، فإنّه لَغريبٌ أيضا أن يكون، في عينيه اللّتين لهما لون عنب العتاب، مشهد المنفى المُفاجئ بالنسبة له، أليفا بشكل طبيعي بالنسبة لي، ويتزاوج مع العَروضِ الإسْكنْدريّ:

كمْ أنتِ مريرَةٌ عليَّ يا مساءات باريس العذبة!

لهذا الكتاب مصراعان ينْفَتِحُ أحدهما على الجزائر، والآخر لِنقل على أوروبا، “أَنْفير”، “بُوردو”، “باريس”… يلزم رُبّما أنْ نكونَ ذَرَعْنا هذه الشوارع، وعبرنا ضفاف أنهار إقليمنا لنعود إلى القصائد الأولى من جديد حيث:

 أزهر النعناع الجديد…

 والتّينةُ أثْمَرَتْ…

Thumbnail

كي نفهمها بكلّ حنينِ مَنْ يَعْتَبِرُ باريس المظلمة جحيما، وكي نستعيدها مع هذا الرّفيق الّذي التقيناه في مدننا. وأشعر فجأة أنّه لم يعد غريبا بالنّسبة لي، ليس بسبب الكلمات الّتي نشتَرِكُ فيها، ولكن بسبب الرّؤيةِ، وهذا النّوع من الإشراقات بالمعنى الرّامبَوِيّ، الّتي يستضيفُني من خلالها عنده، إنّه يمنحني حفاوة ضيافة دَوَّارِهِ، وأحسّ أنني لم أعد غريبا إطلاقًا حين يقول أمامي ما هو طبيعي بالنّسبة له:

مطرٌ شاحبٌ جدًّا

يُحْرِقُ كُلَّ الحدائق،

أيّها الطاووس النّائم هل آن الأوانُ؟

 انْتابني أحيانا أمام لوحات الرّسّامين هذا الإحساس بانْجِلاء العتمة، – العتمة من النّظرة الأولى – بالرّجوع: ربّما لرُؤْيَتِها في الاتّجاه الآخر، كما نقول عن قُماش لوحةٍ، حيث يعْلَقُ فَجْأةً الضّياء. إنّ هذه القصائد كُتِبَتْ لِلشّمْسِ الحارة لأفريقيا، وكان يَلْزَمُها هذه الجدران السميكة، والبلاطات حيث لا يُسْمَعُ تمامًا وقْعُ الخُطى. تخيَّلوا كلمة حديقَةٍ مثلاً، عندما تَجْمعون صُوَرَكُمْ الخاصّة بكم، كيف تشير إلى شيء آخر غير هذه الأزهار المغاربيّة، واللاّمُبالاة بِالماء عندما نبتعد عن الصّحراء.

 أتوَقَّفُ عند هذا الشُّعُور بالتَلَصُّصِ الغريب على عتبة هذا الإنسان، وفي مدخل عالَمِهِ، أين تنْضُجُ الأشْياء بِطريقَةٍ مُخْتلِفَةٍ، وأسمعه يقول:

الكلماتُ الّتي أحملُ

على لساني هي

بُشْرى غريبةٌ…

ولست مُتأكِّدًا فِعْلاً أنّني أسْمعه، أنَّ من حقّي أن أسمعه، وتُدْهِشُني هذه الحفاوة من طرفه، الّتي تَتْرُكني أدخلُ في حميميّة بيْتٍ أُحِسُّ أنّني سأُدَنِّسُهُ.

 آه يا محمّد، لماذا هذه الثّقَةُ بينك وبيني؟ وهل لدينا ما يُفَرِّقُنا؟ ويبْتَسِمُ لِلمرَّةِ الأولى، ويُجيبني بقصيدته الأقصر: “المُسْتقبل…”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.