الأنا والنظام المتعالي
يشكل النظام المتعالي والسياسي في بالنسبة للأنا عالماً موضوعياً يفرض على الأنا أن يسلك وفقه، إنه سلطة قاهرة تقف فوق الجميع دون السؤال عن أصله وفصله. إنه قوة ذاتية حارسة لنفسها، وتغلغلت داخل الأنا وصارت جزءا لا يتجزأ من بنية الأنا. وهذا هو مصدر الوعي القطيعي للأنا.
ما هو النظام المتعالي؟ يتكون هذا النظام من عناصر متشابكة من القيم الدينية والاجتماعية والعادات والأعراف التي نشأت تاريخيا وحصلت على استقلالها مع الأيام، حتى ولو أصابها التغير والتبدل، إذ التغير والتبدل في النظام المتعالي يبقه متعاليا بنمط جديد من العناصر.
الأنا متكيفٌ – عفوياً – مع هذا النظام. إلى الحد الذي صار كل أنا حارساً على استمراره ورافضاً لاختراقه.
ولو فككنا عناصر بنية هذا النظام، وهي غير قابلة للتفكيك العملي، لوجدنا أنها ذات ارتباط مباشر بما يعتقد أنه خير للناس. لنتناول بعض هذه العناصر بالتفاصيل.
عالم القيم الأخلاقية والعادات والتقاليد السائدة
يتأسس عالم القيم على مفهوم الخير المتناقض مع مفهوم الشر. إذ تنسب جميع القيم الإيجابية إلى مفهوم الخير وتنسب جميع القيم السلبية إلى مفهوم الشر.
المفاهيم الدالة على القيم الإيجابية كثيرة ولها ما يقابلها من المفاهيم الدالة على القيم السلبية. فالأمانة والعدالة والمساواة والتواضع وحب الآخر والبر بالوالدين والشرف والضمير والكرم وإغاثة الملهوف.. إلخ، هي مفاهيم قيم وبالتالي هي قواعد سلوك يقابلها: الخيانة والظلم والتكبر والأنانية والبخل.. إلخ، وهي أيضا مفاهيم تتعين بالسلوك الإنساني.
مصدر عالم القيم الإيجابية تحقيق مصالح الآخرين. وضبط النزوع الإنساني للشر. فالخير هو الخير للآخرين والشر شر واقع على الآخرين.
ببساطة في الوعي المشترك: الأخلاقي هو الخير واللاخلاقي هو الشرير. هذه مسألة معروفة جداً. ولكن السؤال الذي نطرح إذا كان الأنا معترفاً بقيمة هذه المفاهيم وبسلطتها فلماذا يسلك على النقيض منها. من أين جاءت للأنا هذه القوة على اختراق ما يعتقد أنه خير؟
ولقائل أن يقول: إن القيم سواء الإيجابية منها أو السلبية هي نسبية والحدود مائعة بينها. فما هي الحدود التي تفصل الكرم عن البخل؟ ما الحدود بين الإسراف والكرم والبخل والاقتصاد؟
فقد يقول إنسان ما إنه يقتصد ويتعقل وليس يبخل وهو يعرف حق المعرفة أنه يبخل. والحق أن المشكلة لا تقوم بنسبية القيم فقط. وإنما في مصالح الأنا بالامتثال لهذه القيم أم لا. في الموقف من هذه القيم بين موقفٍ معلن وموقف خفي. في الوقت الذي يمكن أن تحوز قيمة ما على إجماع عام. فما الذي يجعل الأنا متمثلا لعالم قيمة ومخترقاً له؟
إذا كانت القيم مرتبطة في أحد اشكالها بشكل التجمع الإنساني فكل جماعة لديها قيم خاصة بها إلى جانب القيم الشاملة والعامة لدى المجتمع وحتى لدى الإنسانية.
لنأخذ مفهوماً واحداً لنطبق عليه ما نحن بصدد السؤال حوله. كمفهوم الشرف. فمن الصعب أن نحدّد بالضبط مفهوم الشرف تحديدا شاملاً وجامعاً ومانعاً.
فمن المعروف مثلاً أن مفهوم الشرف مرتبط بعلاقة الإنسان بالمادة (النقد، الثروة، الملكية) العلاقة الشريفة بالمادة هي الكسب المشروع ومن الشرّ أن نحصل على الثروة بطريق غير مشروعة.
أو ارتباط الشرف بالفقه، فالمرأة الشريفة هي التي لا تزني كما الرجل الشريف لا يزني. أو ارتباط الشرف بالصدق. لكن الإنسان يسرق ويرتشي ويزني ويكذب لا بسبب نسبية المفاهيم بل بسبب تحقيق مصلحة. فالرشوة طمعا بالمال، والزنا لإشباع رغبة والكذب لتحقيق هدف خاص، أو إيذاء.
تكون نسبية القيم معللة لاختلاف الناس فيها إذا كانت مختلفة من مجتمع إلى آخر. فالحب بين الرجل والمرأة في الغرب يتضمن الممارسة الجنسية، وبالتالي لا تعتبر المرأة أو الرجل في حالة الزنا إن هما مارسا الحب. لكن الصدق قيمة شاملة كلية وكذلك عدم الرشوة. وفي كل الأحوال يعتبر اختراق القيم من قبل الأنا عملا مرذولا.
ومع ذلك يخترق الأنا هذا العالم، بل يأتي حين من الدهر تشيع فيه حالات اختراق القيم دون أن تولد شعورا لدى صاحبها بالخزى. فمناخ الفساد المطلق لا يبقى إلا على عدد قليل من الذين يمتثلون لعالم القيم الأخلاقية. وإلا كيف نفسر ثريّا أثرى بالطرق غير القانونية يجول بين الناس ويصول دون أن يرف له جفن.
والحق أن قوة المصلحة هي في الغالب منتصرة على قوة القيم. والرادع الأخلاقي يقوي الأنا أو يضعفه أمام المصلحة.
ربما يكون المناخ المعيش شرطا لتقوية الأنا أو إضعافه بعلاقته بعالم القيم. ربما تكون التربية، ربما يكون الوضع الاجتماعي ربما.. ربما.. ولكن كيف نفسر الفرق بين يوسف العظمة الذي ذهب لملاقاة غورو وظل نهاره يُلْقِى ويَلْقَى “ولما زَالَ قرصُ الشمس زالا” على حد قول شوقي، وذاك الذي استسلم لاحتلال العدو لأرضه منذ سبعة وأربعين عاماً؟
كيف نفسر الفرق بين من يخون وطنه ويصبح جاسوساً لدى الأعداء، وبين من يضحي بنفسه من أجل الوطن. كيف نفسر شاهداً لا يشهد إلا بالحق ولو قُدْمَتْ له كل الإغراءات، وشاهد زور يقسم على الكتاب ويكذب بشهادته؟ كيف نفسر سلوك أستاذين جامعيين أحدهما يرتشي، والآخر يعيش حالة من النزاهة المطلقة؟
ورغم كل هذا يظل عالم القيم الإيجابية نظاماً متعالياً لا أحد بقادر على أن ينطق بكلمة ضده، أو أن اختراقه غالبا ما يتم في السر.
لكن وجود الشرور على الأرض يدل دلالة فاضحة على ضعف الأنا وضعف هذا الوجود المتعالي رغم الحب الظاهر له أو التصريح بالانتماء إليه.
إلى جانب عالم القيم هذا يقوم عالم العادات والتقاليد والتي هي شبه نواميس اجتماعية عامة تفرض على الأنا مراعاتها. إنها نمط من السلوك متكرر حتى ليبدو في الظاهر طبيعة ثابتة للأنا. إنه عالم -نظام شبه ثابت ويحتاج إلى وقت طويل ليصيبه التغير. واستمراره هذا يحوّله إلى عالم متوارث. فالإنسان يرث العادات والتقاليد كما يرث صفاته الجسدية. ويبدو لا حول له ولا قوة أمامه. بل ويصبح الامتثال لها حالة عفوية. فطقوس الأفراح: الزواج، الختان، النجاح، طقوس شبه دائمة حتى ولو تغيرت صورتها.
فالهدية مثلاً عنصرٌ من عناصر عادات التهنئة بالزواج (العرس). سواء كانت الهدية إكليلا من الورود أم شيئاً مادياً.
وقد تثقل كاهل من لا يستطيعها، غير أن سلطة العادات أقوى من الاعتذار عنها، إذ قد يتكدر خاطر المحتفى بهم من غيابها، ولهذا ترى المرء باحثاً عن أيّ سبيل للالتزام بها حتى ولو دعاه ذلك للاستقراض من الآخر.
إذا كانت الهدية تنجب مثل هذه الهموم لدى المعوز مادياً، فكيف هي حال بعض العادات التي تتطلب ممارسة القتل ثأرا. فعادة الثأر هي قيمة فلاحية بدوية يقوم بها أقرب المقربين للمقتول، الأخ أو الابن أو الأب أو ابن العم، ويقع فعلها إما على القاتل أو على أيّ كائن له صلة رحم عائلية بالقاتل. وإن تخاذل أحدهم على أن يثأر فإنه يوصف بالجبن، ويجرّ العار على العائلة. وإن القاتل ثأراً لا يحقق أيّ مصلحة للقاتل، إن الثأر فعل مادي ذو هدف معنوي. إنه فعل يطيل أمد الأحقاد والقتل ويزهق من الأرواح البريئة التي لا علاقة لها بالحادثة الأصلية.
وكم حالت عادات الخطوبة في الشرق وما يترتب عليها من صرف الأموال دون أن يجتمع محبان زواجاً. كم يضيق الريفي الساكن في المدينة ذرعاً بعادات ضيافة الأهل أو الأقارب أو حتى أبناء قريته. كم هي حالات النفور المتبادل بين الأفراد والأصدقاء بسبب عدم الالتزام بعادات الأفراح والأتراح.
إن الأنا لا يجد نفسه أمام هذه الحال إلا بوصفه عنصراً في بنية هي أقوى منه، ويتحرك بفعل قوانين البنية لا بفعل إرادته، فالبنية هنا نظام متعالٍ. وهذا هو الأنا القطيعي.
الدين والنظام المتعالي
أما الدين فيعتبر أقوى عناصر النظام المتعالي وأشدّها صرامة. إنه جملة من المعتقدات والأفكار حول الخلق والخير والشر، وجملة طقوس رمزية يقوم بها المنتمي إلى الدين، إنه إيمان لا يرقى إليه الشك عند معتقديه إنه انتماء وهوية.
الدين خطاب في الأصل يعتقد صاحبه أن مصدره إله ما أو من يقوم مقام الإله كالبوذية. وسلطة الدين تقوم في الأساس على احتوائه مفهوم المقدس. المقدس الذي يتدرج من الإله إلى الشخص إلى الأمكنة. فكل ما يصدر عن الإله مقدس يتوجب التصديق به، خضوعا غير قابل لتساؤل وكل شخصية قريبة من المقدس مقدسة، وكل مكان يمت إلى المقدس الأصلي مقدس.. وهكذا. يخلق المقدس عصبية قوية لدى المؤمن وبين المؤمن تصل حد التعصب.
ولقائل أن يقول: إن الدين علاقة بين الإله المقدس وعبده وهذا صحيح ولكنه يستطيل، أي الدين، ليغدو جملة أوامر مطلقة في الحياة لأنه يتدخل في علاقات البشر اليومية ويشير عليهم بما يفعلونه وما لا يجب.
وأيّ سلطة أقوى من سلطة المقدس سواء كانت هذه السلطة متعينة بمؤسسة دينية أم لا. وتتحول سلطة المقدس إلى سلطة كلية ثابتة، فرغم الانشقاقات الدينية التي عرفتها جميع الأديان تظل أوامره في كل أشكاله المتعينة مطلقة تفرض على الآخر التزاما بها، التزاما لا يجوز أن يخضع للنقاش أصلا.
ففي أكثر الديانات هناك عقوبات دنيوية وعقوبات إلهية بعدية في الآخرة. بل إن عقاب الآخرة أكثر أشكال العقاب التي تحول بين الإنسان وبين الانزياح عن أوامر الدين. وتقوم فكرة العقاب الإلهي بوظيفة مهمة في الحياة الاجتماعية الأخلاقية فهي تفرض على الذين لا ينطلقون من دافع أخلاقي داخلي التزاما أخلاقيا بدافع الخوف من العقاب. من هنا نفهم قول دستويفسكي “لو لم يكن الإله موجوداً لصار كل شيء مباح”.
لكننا لو تركنا المسألة الأخلاقية جانباً، فإن النظام الديني المتعالي ينطوي على قولٍ فصل في مشكلات ما وراء الطبيعة، وله قول فصل في أصل العالم وعلاقة الإله به، فإن أهم ما يتمحض عنه القول الميتافيزيقي الديني هو مصادرة التفكير العقلي أو العلمي بالعالم. ومن هنا نشأ اللاهوت الديني الذي استخدم العقل – بالأساس – لتأكيد الترسيمات الدينية في وجه الفعل الفلسفي الذي يرتاد العالم بشكل حر. وتأكيد الجانب القطيعي في الإنسان.
ولاشك أن “الأنا” العادي النازع إلى الاطمئنان والراحة يجد ضالته في القبول المطلق بالترسيمات الدينية، فيما الأنا النازع نحو التمرد العقلي يرى الله اغتراباً عن عالم يرفض مجرد التأمل في الحقيقة كما يريدها العقل.
وإلى جانب العادات والقيم والدين تقع العلاقات الجنسية موقعاً ظاهراً في النظام المتعالي. وإذا كان الجسد شبه غائب في العنصرين السابقين فإن حضور الجسد هنا – في العلاقات الجنسية – حضور قوي.
فالجنس هو الغريزة الوحيدة التي انفردت بخطاب خاص بها. صحيح أن هناك عادات طعام ثقافية، وآداب خاصة بهذه الغريزة غريزة الأكل، غير أنها أي هذه الآداب والعادات لا تمارس القمع بحق غريزة الطعام، باستثناء تحريم أكل لحم الخنزير في الإسلام، وأكل الجوارح غير مستحب عند أكثر الشعوب. المهم أن غريزة الطعام باستثناء تحريم أكل لحم الخنزير في الإسلام، وأكل الجوارح غير المستحب تظل حرة في التلبية، بل إن البشرية تكافح ضد الفقر الذي هو بالأصل عدم القدرة على تلبية المطالب البيولوجية الغذائية للجسد.
فيما الغريزة الجنسية تعرضت لكل صنوف القمع الأخلاقية والدينية والاجتماعية. وتحوّل خطاب القمع وعاداته إلى عنصر من النظام المتعالي.
فالجنس تحول من غريزة تتطلب الإشباع إلى وسيلة تناسل منظمة تخضع لقوانين وأعراف وتقاليد، واندرج الجنس في مفاهيم مغتربة عنه كالشرف، وصار الزواج هو المؤسسة الشرعية الوحيدة التي يحق للإنسان فيها إشباع غريزته الجنسية.
صحيح أن جزءاً ضئيلاً من العالم قد تمرّد على هذه المؤسسة، واتسع نطاق العلاقات الجنسية التي تقوم بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج، غير أن أغلب بقاع العالم مازالت تعيش الجنس كنظامٍ متعالٍ.
لسنا بحاجة لأن نورد تاريخية تحول الجنس إلى نظام متعالٍ فهو معيش إلى الحد الذي ما زال فيه أكثر الأنظمة قمعية.
إن القمع هنا مزدوج: قمع مادي – جسدي، وقمع خطاب حول الجسد بوصفه مركز الغريزة الجنسية، بل اختصر الجسد جنسا ولم تقمع الغريزة الجنسية أصلا إلا لأنها علاقة تقوم بين جسدين فهي الغريزة الوحيدة التي يتطلب إرواؤها اتحاد جسد بجسد (الذكر والانثى) ومنذ أن تحولت الأنثى إلى “أنا” ملكية، إلى “أنا” تابع تبعية مطلقة إلى “أنا” مذكر، راح الحفاظ على هذه الملكية يأخذ شكل تنظيم الجنس وفق أيديولوجيا ذكورية مليئة بمفاهيم: الحلال والحرام والخيانة والزنا والعاهرة والشريفة وصار الخطاب بذيئاً إن هو وصف العملية الجنسية، أو استخدام الكلمات الدالة على الأعضاء التناسلية.
القيم والدين والجنس
إن عنصري النظام المتعالي: القيم والدين قد عززا من قمع الغريزة الجنسية وأحاطاها بعالم مغلق، وتحول خطاب الحب إلى خطاب رومانسي في الكثير من الأحيان، هذا الخطاب الذي يعبر عن شوق التواصل بتصعيد شديد. في الوقت الذي تحول فيه الجنس إلى نظام متعال يفرض سلوكا سويا، تحول القمع إلى أداة كبت وتحول الكبت، إلى حالة مرضية لا واعية أو واعية.
قلنا إننا لا نتحدث عن اللاوعي، بل عن المكبوت الموعى به بفعل الالتزام بالنظام المتعالي الذي يخلق الوعي القطيعي، ولهذا فإن الكبت الواعي للجنس قد عبر عن نفسه بإخفاء الشهوة أو المداورة في التعبير عنها، لأنها تقع في منطقة الحرام والتحريم.
إن المشكلة التي ولدها تحول الجنس إلى نظام متعالٍ أكبر مما نتخيل وأعقد. إنها أصل الحرمان النازع للإشباع دون إشباع .إشباع هو في متناول اليد لكنه بعيد كل البعد عن اليد.
وهذا هو مصدر التوتر الذي يعانيه الجسد المقموع، إذ أن أبشع أنواع القمع وأشده هو قمع الغريزة عبر قوننتها، حيث تشكل العادة السرية لدى الجنسين البالغين محاولة التحرير من القمع، أو اعتبار العلاقات الجنسية السرية إلى الحد الذي يخلق الخوف من ظهورها العلني.
لقد ذكرنا حتى الآن ثلاثة عناصر من النظام المتعالي: القيم والدين والجنس. ولكن علينا أن نشير إلى ترابط عناصر هذا النظام فكثير من القيم مؤسسة على أوامر دينية، والجنس مرتبط بعالم القيم والدين. وعالم الدين هو بالأصل خطاب حول الحياة بكل أشكالها دون أن نعدم -بالطبع- عناصر مستقلة في كل عنصر من عناصر هذا النظام.
نوجز في القول: إن الأنا يواجه نظاماً متعالياً آمرا ملزماً قمعياً، دون أن يكون للأنا أيّ دور في صناعته بوصفه أنا فرداً.
بقى أن أشير إلى نظام آخر ليس أقل قمعية من سابقيه ألا وهو النظام السياسي الدكتاتوري الذي يحمل الناس على أن يكونوا قطيعا.
فالنظام السياسي الطغياني: نظام يفرضه الحاكم أو الحكام لممارسة السلطة والاستمرار بها إنه نظام قمعي بالضرورة لأنه يفرض خضوع الآخر له.
إنه متمايز عن النظام المتعالي بصفة مهمة ألا وهي وجود مؤسسات تسهر على مثل هذا الخضوع: الأمن، الشرطة، الجيش، ووجود عقوبات معروفة: سجن، نفي، إعدام، تجريد من الحقوق المدنية، منع السفر.. إلخ. فيما النظام المتعالي يعيش في كنفه الفرد ويخضع له دون مؤسسات قاهرة ذات وظيفة معروفة.
يقف الأنا – أمام النظام السياسي- شبه عاجز، وبخاصة إذا كان هذا النظام استبداديا استبداداً قاتلاً. يحاول الأنا التكيف مع هذا النظام بالخضوع له ولأوامره، فالسلطة هنا قاهرة بعامة، لكن تفاوت درجة القهر ينتج تفاوت درجة الخضوع. فشتان ما بين سلطة سياسية ذات إهاب ديمقراطي وسلطة جاءت عن طريق استخدام العنف ولا تستمر إلا بالعنف.
في الحالة الأولى يبرز الأنا في حالة من القبول ومفعم بالآمال دائماً في تغيير السلطة لأن السلطة هنا هي أسيرة النظام الديمقراطي، والفرد – الأنا متحرراً نوعاً ما من غريزة القطيع. أما في الحالة الثانية، فإن الأنا عموماً، مع بعض الاستثناءات، منفصل ورافض ومجبر على الخضوع.
وعندها فإن السلطة الاستبدادية وهي تعلم علم اليقين تناقضها مع المجتمع فإنها تضع نفسها عدواً للأنا وتنظر إلى الأنا بوصفه إمكانية تمردية.
الأنا بدوره يبحث عن وسيلة توازن داخلي عبر مواقف غير معلنة، وفي الوقت الذي تماهي فيه السلطة نفسها مع النظام المتعالي.
نصل هنا إلى حد الاغتراب المطلق بين الأنا والنظام السياسي، اغتراب موعى به، فيما لا يصل الأنا إلى حد هذا الاغتراب بالعلاقة مع النظام المتعالي.
نخلص إلى القول: إنّ الأنا يقع، شئنا أم أبينا، في علاقة مع النظام المتعالي والنظام السياسي، بوصفهما سلطة. وإذا قلنا علاقة دون أن نحدد ماهيتها، فلأننا في هذه اللحظة من التحليل لم نكشف عن كل تعينات هذه العلاقة. ولكن بما أن كلا النظامين سلطة قامعة، وسلطة تفرض الإلزام، فإن أشكال العلاقة هي قبول، تمرد، حياد، لا مبالاة.
إنها علاقة صراع وتناقض بين الأنا الفردية والأنا الممتلئة بالوعي القطيعي. وفي النتيجة نحصل على الصورة المتناقضة داخل الأنا، الأنا الظاهر والأنا الخفي. وهذا ما يحتاج إلى قول جديد.