الأنثوية بين الاستعلاء والتحجيم
قد لا يكون تحيّزا القول إن حقيقة المشروع النسوي العربي في الكتابة الروائية تتمثل في إثبات المرأة لأنثويتها، معبرةً عن تطلعاتها من خلال صور رمزية فيها الأنثى كيان ثقافي وقيمي، وليست مجرد رموز أو طلاسم تخفي كينونتها، وتجعلها تبدو من ثم في إطار مثالي ورومانسي وأسطوري يسهل على الأبوية الاستحواذ عليه. ومن هنا يصبح من المهمّ أمام المرأة التعبير عن نفسها بصور واقعية ملموسة، كي يكون كفاحها من أجل ذاتها هو تمثيلها المنطقي لحقوقها، ومنها أنوثتها التي فيها وجودها الحقيقي، مستعيدةً حلما صار غابرا في مسار التاريخ السائد الضارب في الأبوية.
وهذه الأبوية هي التي تحاول جعل الصور الرمزية والواقعية للكيان المؤنث مشوهة أو ناقصة، واصفةً المرأة المتحررة بأنها كيان منقسم على نفسه، يعيش حالة اللاتوازن والضعف. وهدفها من وراء ذلك، كما تذهب سيمون دي بوفوار، نسيان المرأة لحقيقة أن ضعفها ليس “لأسباب فطرية في طبيعتها، وإنما إلى حالتها العامة التي يفرضها عليها المجتمع منذ حداثتها حتى أواخر أيامها. وكل ما يقال عن أنها لا تتمتع بالفكر الخلاق المبدع إنما ينبع من خيال أعداء تحرر المرأة” (الجنس الآخر، ص 324).
وما موقف التحدي الذي تقفه بعض الروائيات العربيات في مرحلتنا الراهنة إلا دليل قاطع على أن الأنثوية حاضرة، لا كمظهر سطحي، بل كفعل استغوار داخلي، فيه الأنثوية ليست رديفة المرأة فحسب، بل هي هويتها ومصدر فاعليتها وسلاحها الذي به تفرض وجودها، وتثبت إيجابيتها كصيرورة لها سطوة، وقيمة لها معطى، وكينونة منتجة يتعدى تفسيرها التحليل النفسي والتأويل المادي التاريخي، كما يتجاوز الطروحات الفلسفية والجنوسية والأسطورية والأثنولوجية.
ولطالما سعى الأدب الذكوري إلى إنكار أن يكون للمرأة حضورها المحوري المستقطب للأطراف، انطلاقا من نزعة التسيّد ودوافعها الاستعمارية التي تقوم على احتكار الآخر واضطهاده، واستغلال طاقاته بشكل منظم وصارم، منكرةً عليه فاعليته الإنسانية.
ولا يخفى أن الأدب النسوي بعامة، والروائي بخاصة له دوره في مركزة كينونة المرأة بمقصدية المناهضة للإعاقة والجنوسة مع معاداة كل ما هو استعماري وفحولي يتعالى عليها، وينكر دورها في التغيير. وفي مقدمة الوسائل المحققة لهذا المطلب والمدعمة لهذه المقصدية انتهاج الكتابة الواقعية مع المراهنة على سخرية المفارقة، من خلال صنع عوالم سحرية فنتازية، لا تنتقص الرجولة فحسب، بل وتتهكم من الأنوثة نفسها، حين تكون قابعة في الظل، راضية بالخنوع، وقانعة بطواعية لممارسات القهر ومحاولات إسكاتها.
هذا ما تحاول رغد السهيل التدليل عليه في روايتها “أحببت حمارا”، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، 2015. وتظهر مقصدية مناهضتها للذكورية، ومعاداتها الجلية للفحولية من خلال ثيمة الرواية المتمثلة في التحرر بحثا عن الحقيقة، بدءا من مفتتح الرواية المتناص مع مقولة لفرجينا وولف مفادها أن مستقبل الكتابة الروائية يكمن في استعمال الخطاب الحر، وانتهاء بالمتن السردي الذي يقوم على فكرة رمزية تتمثل في حب البطلة دكتورة “أمل” للحمار الأبيض، وكيف أن هذا الحب جعلها في موضع اتهام بالجنون وفقدان العقل، لتتوحد هذه الرمزية بالفنتازية في مشروع طيران النساء إلى القمر، وما يرافق هذا المشروع من صور ساخرة ترمز لحتمية التحالف النسوي ضد الرجال.
وهذا النهج الواقعي ذو المسرب السحري لا يخلو من تجريب سردي يتحرى الإرصادية بقصتين: الأولى إطارية هي قصة الدكتورة “أمل” التي تسردها سردا ذاتيا “هكذا بدأت قصتي مع الحمار أنا ابنة هذه البلاد العجيبة ولا أحد قادر على تجاوز حكايتي تحت أي سبب أو ذريعة لا أحد يستطيع فصلي عن بنات حواء بذريعة حب الحمار. النظرية النسوية الحديثة تقول إذا انشققت عن الجماعة لا يعني أنك لست منها” (ص 15)، والأخرى قصة ضمنية تتمثّل في الملف مجهول المؤلف، وأوراقه التي يتم سردها بضمير الشخص الثالث.
ولعل أهم اشتغال ابتكاري مورس في الرواية هو تأنيث المسرود له، الذي جعلته الساردة متمّما لعمل المسرودات، لتكون النصية السردية نسوية بالكامل، محققا الوظيفة السردية التي تسبق التلقي القرائي الافتراضي الضمني والفعلي الخارجي.
وعلى الرغم من الاشتغال التجريبي الموفق في التلاعب ببنية المسرود له، الذي حمل اسم “الخاتون”، فإن ذلك التجريب لم يرتقِ بالرواية إلى مرتبة الاشتغال الميتاسردي، مما حال دون أن تكون النزعة الرمزية أكثر توغلا في كشف الخفي، وفضح المسكوت عنه، أو الحفر في مسارب المجهول والمتداري. ومع ذلك تمكنت الساردة من لملمة شتات المناهضة للآخر مقولبةً معاداتها في شكل قبضة أنثوية تكاشف ولا تخاتل، وتنتقم ولا تهادن.
وبالمسرود لها تدعم الساردة رؤيتها الافتراضية في السيادة والهيمنة، وهكذا تجعلها منافسة لها في السرد حتى أنها، أي المسرود لها “الخاتون” تطلق على الساردة لقب العاشقة الفريدة “تلك السيدة التي تدعى بالخاتون لقبتني بالعاشقة الفريدة، من أخبرها بقصتي؟ لم أخبر أحدا بقصة حبي للحمار” (ص 43)، كما تتدخل المؤلفة في السرد من خلال تمييز كلام المسرود لها عن كلام الساردة بالخط الغامق، وكأنها تلعب معهما لعبة مسلية ليتضح في نهاية الرواية أن “الخاتون” هي مؤلفة الملف، القصة الضمنية، الذي كانت قد عثرت عليه الساردة، وظلت حائرة في شخصياته المؤنثة، متألمة لحكايتهن.
وإذ تتبع المسرود لها “الخاتون” الساردة، متهكمة أو مواسية، وديعة أو متحاملة، فإنها تظهر أيضا من دون إذنها، ما يزيد من حيرة الساردة، والتي هي في الأصل تعاني من النسيان، الأمر الذي يجعلها تشعر بأنها منشطرة في ذاتها، وهذا ما تدركه المسرود لها “الراوية لا تدرك ما الذي يحصل ولا تفهم عم تضحك المرأتان المشهد أمامها تتساءل عن بطلتها التي أحبت حمارا ماذا حدث لها” (ص158). وبالانشطار تتحقق دهشة القراءة، ليغدو التواضع والرضوخ مجسدا في الحمار كمثال للذكورية المهشمة.
ولا شك في أن توظيف ضمائر السرد الثلاثة في الرواية أتاح مجالا أكثر للبوح، لا سيما توظيف ضمير المخاطب الذي توجهه الساردة للقارئ الفعلي، وليس الضمني، منكرة عليه استهجانه لسردها “أيها القارئ توقف عن الضحك رجاء، لا تستهجن العبارة، وهل لديك ما تستهجنه” (ص 13)، وتتعاطف الساردة مع الشخصيات المؤنثة ومن ثم تشمل المسرود لها بعطفها أيضا وتجعلها صديقة ناصحة وطيّبة مواسية حتى أنها تشركها معها في إتمام السرد واستكمال نواقصه، وصنع ترميزاته، من دون ثرثرة ولا غيرة، مفندة النظرية الذكورية التي ترى المرأة ثرثارة تغار من بنات جنسها.
وما محمومية بحث الساردة عن حريتها إلاّ قرين رغبتها في اقتناص الحقيقة المتمثلة في الرجل المثال الذي تخلَّص من التعالي، وتنكر للتسيد والمركزية ليكون الحمار هو بغيتها، فتحبه وتظل دائرة تبحث عنه في أنحاء مدينتها بغداد، وأثناء بحثها تصادف مواقف تعلن فيها عن تضامنيتها مع النساء، مناصرة قضاياهن، معبرة عن وجهة نظرهن المتبرمة من الذكورية “نحن الأكثرية تسودنا الأقلية ليس هنا فحسب بل تمادوا وغيروا اسم هذه البلاد مختطفين أنوثتها التي تحملت الكثير من حماقاتهم. تبكي العراقية منذ ذلك اليوم بكاء لم ينقطع وتئن أنينا يشبه أنين حماري المفقود” (ص 16).
أما مشروع طيران النساء للقمر، الذي هو في الأصل قصة قصيرة تضمنتها المجموعة القصصية “سايكو بغداد” للمؤلفة نفسها، فإنه تهويم فنتازي تتهكم عبره الساردة من الحرية الجوفاء التي جاءت بها الذكورية، مموهة إياها بالديمقراطية كي تعزز قبضتها على النساء، وتزيد من مظاهر التقييد والاحتجاب، قامعة حرياتهن أكثر.
والنتيجة أن الرجال مازالوا ديوكا وطواويس فاقدي الإنسانية، آذانهم بلاستيك، وهم إما دمى متحركة لا حول لهم، وإما أغوال يسير الشر معهم أينما ساروا، باستثناء شخصيتين ذكوريتين تقف منهما الساردة موقفا إيجابيا، الأولى شخصية البقال “زكي” الذي قتله انفجار طارئ، وبمقتله يضيع حماره لتقع الساردة في حبه كمعادل موضوعي للذكورة الضائعة، والشخصية الثانية المجنون “بابا نوئيل” العراقي الذي وقع ضحية حرب طويلة أفقدته صوابه، وجعلته معتوها كترميز أليغوري إلى أن الرجولة الحقة إما قضت نحبها فلا طائل من البحث عنها، وإما فقدت وعيها وتاهت ضائعة في خضم واقع مرير لم يدع للحقيقة، ممثلة بالمرأة من بدء الظهور أو الانكشاف.
وعلى الرغم من أن الشخصية النسوية غالبة في الرواية وليست هامشية، فإن بعض الشخصيات الثانوية بدت مقموعة، ومتشظية، وضحية للذكورية، تتحمل المنغصات، وتجابه شروخ الواقع ومأساويته الضاغطة على كاهلها، مثل “هيلة” الفتاة التي باعها ابن عمها لإحدى العصابات التي تتاجر بالنساء، ومثل “دموع″ الفتاة المتسولة التي قضت نحبها بشكل مأساوي، وكذلك “شروق” التي قُتلت على يد أخيها إرضاء لتقاليد العشيرة، و”شهرزاد” التي كُسرت ذراعها فظلت صامتة. علما وأن بعض الشخصيات النسوية تستدعيها الكاتبة من الواقع العراقي الراهن، كشخصية “لهيب” المحامية التي فقدت عقلها فكانت ضحية الذكورية.
وعلى الرغم من هذه المعاناة، فإن بعض الشخصيات ظلت تواصل البوح غير صامتة، وهذا ما تعبّر عنه مقصدية جعلتها متضادة مع الواقع، فالجدة “بسعاد”، التي تنقل الساردة عنها كثيرا من الحكايا مصابة بالزهايمر، والطفلة “لطيفة” الفاقدة للذاكرة تتكلم الإنكليزية، و”أم مظلوم”، و”أم صابر” امرأتان تعيشان في قاع المجتمع، حيث المزابل والمطامير، لكنهما تظلان تبحثان عما يديم حياة عائلتيهما.
ولأن الساردة تعاني النسيان يظل بحثها عن حبيبها الحمار بلا جدوى، وتعيش حالة من التضاد بالعمى والتشتّت، وقد انتابها الاضطراب والتذبذب. وينعكس التضاد عندها في شكل تهويمات وأحلام فنتازية، كأن تسرد حدثا ثم سرعان ما تفنده، كاشفة عن زيفه وعدم مصداقيته، محققة بذلك نوعا من الاستفزاز القرائي “أهوى الشعوذة السردية. هل قلت لك إن جدتي خرساء لا لم تكن كذلك.. نصحتني أن أتوجه نحو السرد كلما شعرت بخلل في المنطق لأننا نحن النساء لم تبق لنا إلاّ سلطة الثرثرة بعد الانقلاب الذي أحدثه الذكور علينا في المجتمعات الأمومية” (ص 23).
لكن حلمها يظل مشرعا بإمكانية أن يحقق بحثها جدواه “سأنتظر عودته لأتجول على ظهره، رافعةً العلم، وأعلن للأقلية أنها الجمهورية العراقية” (ص17)، وكأن مناهضة الآخر في نظرته الاستعمارية المتعالية لن تتحقق إلاّ إذا ناضلت المرأة لتكون مركزية.
وقد رمزت المؤلفة لهذا بالتعريف “أل” في كلمة “الجمهورية العراقية”، وليس التنكير “جمهورية العراق”، وهذه الفكرة متناصة مع عبارة وردت عند الروائية عالية ممدوح في روايتها “الأجنبية”، وفيها تقول “فبعدما كان البلد يعرف باسم الجمهورية العراقية بمسحة من الغنج الأنثوي الزاخر بالتوريات السرية عدنا إلى جمهورية العراق ذات الطاقة الذكورية المكهربة بالعبوس والتزمت والاكفهرار” (رواية الأجنبية، ص187).
ويعمل توظيف الاستباق على تحقيق تلفيق ثقافي توهم فيه الساردة الأنثى نفسها بتحقق المراد، وهو استعادة أنثويتها الضائعة التي قمعها الذكر “سأصحبه في شوارع بغداد ستغار النساء مني.. ستتخلى كل حبيبة عن حبيبها وكل زوجة عن زوجها سيكون إضرابا عاما عن حبهم وستبحث كل امرأة عن حمارها الخاص” (ص 263).
وبالجنون، وفقدان العقل تتمكن الساردة من تجاوز الإعاقة إلى ما ضدها بحثا عن أنثوية جديدة، وتكون مفارقة الاعتراف والتبشير في نهاية الرواية صادمة برمزية عالية، فالمثال/الحمار، الذي أضرب عن الطعام حبّا للساردة ومات للأبد، سيتضح أنه مازال حيّا من خلال رسالة تبعث بها المسرود لها “الخاتون” إلى الساردة تعترف فيها بأنها صاحبة الملف، وتبشرها بأن الحمار موجود، وهو يدور في مكان معلوم تحدده لها. وما اختيار اسم “أمل” للساردة إلا دليل على أن الأمل بوجود مثال ذكوري يظل قائما كاستشراف رؤيوي نسوي للفالوس (رمز العضو الذكري) الذي لن يكون فيه الرجل طاووسا لا ديكا، كما لن نستغرب أن يكون حمارا، وفي هذا دحض لنظرية الاستعلاء والانتصاب، وتوكيد لهرمية ثقافية قمتها تعتليها النسوية وقاعدتها تتربع فيها الأبوية، وإظهار لنسقية كانت مضمرة، وانفتاح على خطاب ما بعد كولونيالي يهيمن فيه النظام الأمومي على النظام الأبوي مفككا إمبرياليته.
صحيح أن هذا يظل واحدا من تطلعات بعض النظريات النسوية المعاصرة، إلا أن الحاجة إلى التوازن ضرورية، فالهيمنة للمؤنث ومركزية موقعها لا تعني مصادرة الآخر تطرفا واستعلاء ونبذا، وإنما المشاركة التي تستبدل الاستقطاب بالتوازي والتطرف بالمناصرة، تعاضدا ومساندة.