الأندلس تجربة متفردة في تاريخ الإنسانية
أخرجت الإسبانية إيسيار بويايين سبعة أفلام روائية طويلة، مثلما أخرجت سبعة أفلام تسجيلية، وكتبت سيناريو سبعة أفلام… لكنها، وقبل ذلك أدت دور البطولة في عشرات الأفلام الإسبانية الشهيرة، في 27 فيلما تحديدا، منذ فيلم “الجنوب” للمخرج فيكتور إيرسي سنة 1983 وصولا إلى فيلم “ليلة الأخ” لسانتياغو غارسيا دي ليانيث، ومجموعة من أعمال المخرج خوصي لويس بورو وآخرين. هذه التجربة الزاخرة في التمثيل مكنتها من التقدم إلى عالم الإخراج والوقوف وراء الكاميرا هذه المرة، وهي تدرك جيدا معنى أن تقف أمامها أيضا.
لمع اسم السينمائية الإسبانية إيسيار بويايين في عالم التمثيل، وأصبحت في ظرف عشر سنوات نجمة سينمائية، مثلما دخلت ابنة مدريد عالم الإخراج السينمائي من بابه الفسيح لتقدم لنا أفلاما رائقة من قبيل “أهبك عيني” و”زهور من عالم آخر” و”حتى المطر”، و”ماطاهاريس″، و”السنيورة”، وأفلاما أخرى توجت في العديد من المهرجانات الدولية، كان آخرها فيلم “شجرة الزيتون” الذي أخرجته قبل سنتين، وكرسها واحدة من علامات السينما الإسبانية، ومن ضمن أبرز مخرجات الحوض المتوسطي. وعبر هذا المسار الطويل لصاحبة الفيلم القصير “العشاق القتلة” امتلكت إيسيار بويايين تجربة كبيرة في عالم السينما، كما تحكيها لنا في هذا الحوار مع “الجديد”.
أمام الكاميرا
تألقت إيسيار بويايين في عالم التمثيل منذ شبابها. وهي ترى بأن “الوقوف أمام الكاميرا تجربة إنسانية تعلمنا الكثير، ونحن نتقمص حيوات أخرى، حيث نشعر بقيمة الكيان الإنساني عندما نعرض مشاعره وانفعالاته، ارتباطا بوقائع وقصص متخيلة، لكنها شديدة التعبير عن الوجود الإنساني برمته”. وترى بطلة فيلم “سقف العالم” أن أحلامها في عالم التمثيل “ظلت بلا سقف، رغم أنني انتقلت إلى عالم الإخراج في حدود 1992، مع تجربة فيلم قصير، ثم مع أول أفلامي الروائية الطويلة، وهو فيلم ‘هل أنت وحدك؟’ سنة 1995″.
كما تؤكد السينمائية الإسبانية أنها أفادت الكثير من تجارب المخرجين الذين اشتغلت تحت إدارتهم وخبراتهم في مجموع الأعمال السينمائية التي شاركت في بطولتها.
وهذه التجربة التي امتدت على مدى 27 فيلما جعلتها على دراية بمختلف مدارس السينما الإسبانية وتياراتها، وهي تتنبأ لها بالأفضل، خلال السنوات المقبلة، بسبب تطور الصناعة السينمائية في عالم اليوم. لكن النجمة الإسبانية تحذر من ممثلات الأضواء والإغراء، معتزة بتجربتها في عالم التمثيل، والتي حرصت فيها على “النفاذ إلى عمق الشخصيات التي كنت أجسدها من أجل كسب تعاطف المشاهد، وانغماسه في عوالم التجربة الفيلمية إلى درجة ينسى فيها أنه بصدد عمل سينمائي”. ذلك لأن قمة التمثيل في نظر بويايين هو “أن لا يظل تمثيلا، بحيث يصبح شكلا من أشكال الحقيقة وتجلياتها في حركات الممثلين وسكناتهم ومشاعرهم، وعلى محياهم، وفي تفاعلهم مع القصص التي يحيونها”.
خلف الكاميرا
سرعان ما تألقت إيسيار بويايين عندما وقفت وراء الكاميرا لتقدم لنا أعمالا سينمائية مثيرة. وقد برزت تجربتها السابقة في التمثيل حين استطاعت اكتشاف مواهب سينمائية جديدة أدارتها بإحكام وبثت فيها روحا سينمائية قوية. وهي تؤكد فضل التمثيل في نجاح تجاربها في الإخراج مع الممثلات والممثلين، من الجيل الجديد، منذ تسعينات القرن العشرين.
كما قدمت هذه المخرجة الإسبانية أعمالا سينمائية تحكي تجارب إنسانية فاصلة، تثير دهشة المتلقي أكثر مما تهادنه، “لكن هذا الجانب الإنساني لا يعني أن تكون السينما ملتزمة بقضايا إنسانية معينة، ما دامت السينما نفسها قضية جمالية إنسانية في نهاية المطاف”، تشدد محدثتنا. وهي ترى أنها لا تشتغل في أعمالها السينمائية تحت وطأة فكرة الالتزام حيث تقول “أعتبر أنني ملتزمة مع المتفرج، وملزمة باحترام ذكائه وعدم التحايل عليه”. لذلك، تضيف المخرجة، فإنني “أحرص على أن أحكي وأصور له حكايات تشبه تلك التي يروقني أن يحكيها لي الآخرون، عن فضاءات وعن عوالم مختلفة ومغايرة للمألوف واليومي العادي”. من هنا، فإن “التزامي إنما يكمن في تقديم قصص جذابة وإخراج أفلام تضيف شيئا ما وتكون مؤثرة”. وهو تأثير جمالي، بالأساس، في نظر المخرجة دائما.
وعن معنى الإخراج في رؤيتها السينمائية تقر بويايين بأن “الإخراج تمرين يعلّم التواضع، لأنه يجعلك تكتشف قدرا هائلا من المسؤولية عليك تحمله”. وإلى جانب كونها ممثلة ومخرجة وكاتبة سيناريو، تصر محدثتنا على أنها “متفرجة”، قبل هذا وذاك. وهو “ما يشجعني على طرح الأسئلة على أفلامي نفسها، من قبيل: هل يمكن لها أن تصل وتتواصل مع متفرجين من مجتمعات أخرى؟ وهل ظلت أسيرة نزوع محلي؟ وما هو الشيء الهام والجديد الذي سيحمله معه المتلقي بعد نهاية العرض…؟”. وأما الإجابات التي تلتمسها المخرجة لهذه الأسئلة فما هي إلا ذرائع، حسب رأيها، من أجل مواصلة فتنة السينما، ومهنة الإخراج.
كتابة السينما
تتحدث إيسيار بويايين هنا عن قضية أساسية تحكم تجربتها في الإخراج، وهي أنها لا تبحث عن موضوع ما لكي تجعل منه فيلما سينمائيا، بل إن هذه الأفلام هي التي تبحث عنها، كما تقول، باقتراح من صديق أو صديقة، أو عن طريق المصادفة. وهذا ما يتحقق لها بفضل خبرتها في كتابة السيناريو أيضا، بما يمنحها القدرة على تحويل أيّ حدث عابر أو واقعة أو فكرة إلى حكاية مكتوبة، ثم إلى حكاية بصرية ترويها للعين. وبرغم تعاملها مع نجوم مكرّسين مثلما تتعامل مع ممثلين صاعدين أو تكتشفهم هي لأول مرة، تؤكد المخرجة، بل كاتبة السيناريو، هذه المرة، أن “السيناريوهات التي كتبتها لم أكتبها وأنا أفكر في ممثلين محددين. بحيث يتساوى لديّ أن يكون الممثل محترفا أو يؤدي أول أدواره. وأنا أثق في الممثلين المحترفين، لأن لديهم مهارات وتحكما في تقنيات بعينها، وبإمكانهم أن يجددوا طرائقهم، وأن يعبّروا بشكل جيد عن مختلف الانفعالات. ولكن، حينما يتعذر العثور على ممثل محترف، أو حين تراهن على وجه سينمائي جديد، فإن هذا الأمر يتطلب وقتا طويلا وعملا شاقا ومضنيا وممتعا في الآن نفسه. وهذا الاشتغال المكثف في هذه الحالة قد يصل بك إلى تجسيد أمثل للشخصية المطلوبة”.
وعن علاقتها بالعالم العربي ومعرفتها بالسينما والفن في هذه الضفة الجنوبية من المتوسط، ترى بويايين أن ثمة “الكثير من الأحلام المشتركة بين الضفتين، لأننا جميعنا كائنات إنسانية بنفس الآمال والطموحات. كما أننا نحلم بطريقة متوسطية، ونفكر بطريقة متوسطية، ونبدع بهذا العمق المتوسطي والأفق الإنساني المشترك”. وفي هذا السياق، تستحضر المتحدثة “الأندلس″ باعتبارها تجربة متفردة جمعت الإسبان بالعرب، عبر قرون من التاريخ المشترك. وهي تعتبرها تجربة متفردة في التاريخ الإنساني، يمكن أن تكون نموذجا للتعايش بين الكائنات الإنسانية، والتكامل بين تجاربهم في الواقع والخيال.