الأوديسة الجديدة
لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تفرض تحديات هائلة، مع حالات طوارئ متعددة ومعقدة على نطاق غير مسبوق. الوضع الإنساني في سوريا وبعد أكثر من ثماني سنوات يقترب الرقم الإجمالي للاجئين مما يزيد على الستة ملايين لاجئ. وفي أماكن أخرى مثل العراق واليمن وليبيا يتسبب العنف وعدم الاستقرار بموجات جديدة من النزوح، إلى عشرات الآلاف من الأشخاص الذين مازالوا يحاولون الوصول إلى أوروبا التي يتفق الجميع على أنها بحاجة إلى إصلاح عاجل لقواعد اللجوء والهجرة. مؤخراً صدر في الولايات المتحدة كتاب جديد تحت عنوان “الأوديسة الجديدة” تناول قضية اللاجئين نحو أوروبا بوصفها قضية العصر. مؤلف الكتاب هو باتريك كينغسلي، صحافي بريطاني ومراسل دولي يعمل لجريدة نيويورك تايمز-قسم برلين.
حصل الكاتب على جائزة الصحافة البريطانية في الشؤون الخارجية للعام 2015. يضع نفسه وسط هذا الإعصار في كتابه “الأوديسة الجديدة”، الذي يغطي مساحة جغرافية لا يستهان بها وبأسلوب “شاهد العيان” يدوّن تفاصيل العائلات والأشخاص الذين التقى بهم وشاركهم هذا الرحيل الكبير.
يفتتح كينغسلي كتابه بقصة اللاجئ السوري هاشم السوقي وعائلته، وهي قصة شائعة بشكل مأساوي، حيث يواصل الضحايا اليائسون من بلدانهم القيام برحلات مميتة بحثاً عن الحرية. كما يسلط الكتاب الضوء على شبكات التهريب الغامضة التي سهّلت أكبر هجرة جماعية عبر أوروبا، وسيضع نفسه جنباً إلى جنب مع اللاجئين في ظروف مختلفة من الشظف وظروف الطقس والعواصف مع أطفالهم المربوطين على ظهورهم خوفاً من المجرمين وتجار البشر الذين يتجاهلون بشكل خطير حدود المسافة بين ما هو إنساني وغير إنساني.
يقدم لنا تجربته الشخصية في مسألة بالغة التعقيد وهي هجرة ولجوء عائلات بأكملها هرباً من الحرب والقمع والصراعات المفتوحة على مصراعيها، وما يتبع ذلك من الحصار والعنف الطائفي الذي أخذ أبعاداً خطيرة جداً. يرسم الطرق التي يتبعها اللاجئون من سوريا والعراق وليبيا وإرتيريا ونيجيريا ومصر وتركيا ثم إلى اليونان وإيطاليا وكرواتيا وصربيا والمجر والسويد وألمانيا. السوريون ليسوا لوحدهم في هذا العبور الأسطوري نحو الشمال. احتشدوا وتجمعوا جميعهم في قوارب مطاطية صغيرة قطعوا فيها البحر المتوسط، ومن ثم مشياً على أقدامهم وعلى طول مسارات السكك الحديدية عبر أوروبا الشرقية.
من المؤكد أن ما حدث على الحدود الجنوبية لأوروبا يحتوي على نسب ملحمية مليئة بالأبطال والوحوش، لكن أوديسيوس تحدى الوحوش حتى وجد طريق عودته إلى المنزل، وفي النهاية قام بذلك. فرّ هؤلاء المهاجرون، يقول باتريك، من بلادهم ليحرموا في أكثر الأحيان من فرص العيش، إنها ليست فكرة أسطورية، بل جريمة، ولا إيثاكا تلوح في الأفق القريب.
المزيد من القوارب، يعني المزيد من المهاجرين المعدمين الذين يصلون إلى ليسبوس، كوس، ولامبيدوسا، والمزيد من حطام السفن والقوارب والخسائر البشرية.
كيف تحولت جنة المصطافين إلى أعظم كارثة إنسانية في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ أطلق الرومان على البحر المتوسط لقب “فرس البحر”، حيث يحتضنونه كحيوان أليف في أذرع أوروبا القوية، وأفريقيا تغرق في الإطار مثل قبضة عملاقة. وبموجب الحقوق الجغرافية يعدّ البحر المتوسط بحر أفريقيا، والكارثة التي نشهدها الآن أن الحق يفتقر إلى القوة.
تم تعيين باتريك كينغسلي من قبل صحيفة الغارديان البريطانية ليكون “مراسل الهجرة “. سيرصد في النيجر كيف يقوم المهربون بشحن المهاجرين عبر الصحراء إلى حدود المتوسط. أجرى مقابلات معهم هناك، ومن ثم سيبحر في سفينة تجارية مستأجرة من قبل فريق “أطباء بلا حدود” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويزور مقر خفر السواحل الإيطالي الذي دعّم برنامجاً للبحث والإنقاذ كان ناجحاً جداً، يحمل اسم “ماري نوستروم “. سيكتب عن مفهوم اقتصاد الهجرة ومصطلحات السفر والطريق الشائكة، والفرق بين استخدامات قوارب الصيد والقوارب المطاطية، أو رشوة شرطي على حدود النيجر، أو وكيل جمارك في مصر، أو شراء سترة نجاة في إزمير. يبذل قصارى جهده لالتقاط اللحظات الهاربة لأناس حقيقيين يمكنك التعرف عليهم. يكتب عن امرأة سورية أيضاً اسمها “حنان” وهي من طبقة فوق متوسطة مع أربعة أبناء حاصلين على شهادات جامعية، وكانت لديها خادمة منزلية، حين بدأت الانفجارات تشتعل قرب بيتها في دمشق، كان من المستحيل البقاء، فدفعت مبلغاً وقدره 32000 دولار إلى المهربين كي يبحروا بها مع أولادها إلى اليونان، ثم دفعت باثنين من أولادها ومبلغ 3000 دولار على كل منهما بنفس الطريقة على متن شاحنة نقل إلى النمسا، ومن ثم ستدفع مبلغاً بقيمة 1500 دولار ثمن أوراق مزورة للّحاق بأبنائها. وبعد أربع سنوات على الفرار من سوريا لا تزال الأسرة مفككة ومبعثرة.
يفكك كل ما هو خاطئ في مقاربة العالم والمجتمع الدولي لأزمة اللاجئين، كما يقدم أفكاراً بناءة لعلاج هذه الكارثة في إطار واقعي. إذ سنلحظ خط سير المعاناة في هذا الكتاب والمحاولات البطولية لأشخاص يائسين يخاطرون بحياتهم بينما العالم لا يستجيب بطريقة كافية. إنها نماذج كلاسيكية من البشر الذين هم خليط من الأبطال والأشرار في آن معاً، والهزيمة هنا غالباً ما تعني الموت. وسيسافر الكاتب إلى 17 دولة، عبر قارات ثلاث مع أشخاص وأفراد كتب معظم قصصهم أيضاً. ومن إحصائيات الكتاب، على سبيل المثال، أنه في الفترة التي تمتد بين 2014 و2016 عبر ما يقرب عن 1.5 مليون شخص البحر المتوسط في قوارب مطاطية. وفي العام 2015 غادر تركيا أكثر من 850000 لاجئ باتجاه أوروبا، معظمهم سار شمالاً باتجاه البلقان. تلك السنة وصلت أزمة اللاجئين إلى ذروتها إذ غرق ما يقرب من 4000 إنسان أثناء عبورهم لبحر إيجة، ثم وجدت بلدان مثل اليونان وإيطاليا والمجر نفسها غير قادرة على تجاوز المشكلة.
سيتبين أنه من المستحيل إغلاق حدود أوروبا تماماً، وسوف يستمر الناس بالمجيء، والنهج الأوروبي الحالي في الهجرة لا يفيد أحداً، والأزمة لا يمكن تجنبها، فقبول هذه الحقيقة هو مفتاح الحل لإدارة الأزمة.
يرسل هاشم السوقي بعد وصوله إلى السويد رسالة يخبر فيها باتريك كينغسلي أنه اتخذ القرار الصحيح بمغادرة البلاد لإنقاذ أطفاله، فالخيار الوحيد الذي كان أمامه هو الرحيل، يتابع في الرسالة ” لقد تحولت سوريا إلى جحيم كان من المستحيل العيش فيه”، “عليك الانتقال من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان، والحياة السورية آيلة إلى الانهيار بأكملها، وأصبحت المخاطر بحجمها الهائل تحاصرك من كل جانب. حاولتُ إنقاذ أنفسنا من أن نكون بلا مأوى أو في السجن، على الرغم من آلام وصدمات عبور البحر في قوارب قديمة. وعلى الرغم من صعوبة التكيف مع عادات وثقافة البلد الجديد، لقد تعلمتُ أشياء كثيرة: أن أتكلم بحرية حُرمنا منها طيلة أربعين سنة، وأنك ستصادف في طريقك دائماً بشراً يمنحونك الأمل والعزم”.
في الوقت الحالي تتحمل إسبانيا وإيطاليا واليونان معظم الضغط بسبب موقعها الجغرافي على البحر المتوسط. وبموجب قانون الإتحاد الأوروبي فإنه يجب على طالبي اللجوء تقديم طلباتهم في أول دولة أوروبية يدخلونها. بعض هذه الدول تريد تشديد الرقابة على الحدود مثل المجر وبولندا.
ومع تصاعد المشاعر المناهضة للهجرة عبر القارة فإن تواجد حزب الرابطة اليمينية المتطرف، والذي شنّ حملة تعهد فيها بإرجاع ما يقارب الـ50000 لاجئ إلى أوطانهم، وهذا الأمر أصبح محسوساً بشكل دقيق، ونفس الأمر يفعله حزب الحرية الشعبوي في النمسا.
وبموجب سياسة الباب المفتوح التي اتبعتها أنجيلا ميركل فقد رحبت ألمانيا في العام 2015 بأكثر من مليون لاجئ. أما حزب البديل الألماني اليميني فقد وضع برنامج الهجرة على رأس جدول الأعمال السياسي.
كما اختفت حالياً سفن المنظمات غير الحكومية من طرق الهجرة الرئيسية إلى إيطاليا، وتهرّب معظم الزعماء الأوروبيين من أيّ اتفاق رسمي بشأن قضية اللاجئين.
إن مستقبل الإتحاد الأوربي، تقول ميركل، يعتمد على إيجاد إجابات حول الأسئلة الحيوية التي تطرحها الهجرة، منها: مسألة استقبال اللاجئين، وإنشاء مراكز لتقييم طلبات اللجوء مع المحاولة والسعي لبناء منصات المعالجة الإقليمية في كل من الجزائر ومصر وسوريا وليبيا والنيجر وتونس. حتى الآن لم توافق أيّ من دول الإتحاد الأوروبي على المساعدة. وفي الوقت نفسه يقود رئيس وزراء المجر فيكتور لوبان حملة يدعو فيها إلى إقامة حدود قوية لوقف هذا “الغزو”.
كتاب مثير للإعجاب ومروّع وشهادة حارة في التعاطف وتجربة مهمة في الكتابة من الخطوط الأمامية.