الإثم والمنافع
فرضت وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة نفسها على حياتنا اليومية، وأصبحت جزءا من سلوكاتنا بعدما مسّت كل مجالات حياتنا، سواء كانت شخصية أو اجتماعية أو مهنية، وأمسى الفرد من لحظة استيقاظه من نومه إلى لحظة دخوله فراشه يمسك بهاتفه الذكي بيده، ويبقى منتبها لأيّ رنة تنبعث من هاتفه للرد عليها والتجاوب مع محتواها.
لا ينكر أحد أنّ الإنترنت كوسيلة اتصالية خلقت معها ظواهر جديدة، منها وسائل التواصل الاجتماعي التي تسمح للمتصلين عبر شبكة الإنترنت بفتح حساب أو صفحة بهدف ربط علاقات صداقة ونشر أخبار والتعبير عن أفكار، أو المساهمة بصور أو فيديوهات مع الأصدقاء أو محيطهم، وأضحى عدد هذه الوسائل في تزايد مستمر وفاق المئات، حيث تشهد الشبكة العنكبوتية من يوم إلى آخر ميلاد اسم جديد في دولة ما، وأيّ نظرة سريعة على أهم وسائل التواصل الاجتماعي، تكشف لنا عن مدى انتشارها وهيمنتها على عالمنا الافتراضي الذي أصبح امتدادا لعالمنا الواقعي.
جمهوريات افتراضية مارقة
الانتشار المذهل كلّ يوم لوسائل التواصل الافتراضية، جعل العديد من الباحثين في ميادين شتى سواء كانت مرتبطة بالإعلام أو علم الاجتماع أو علم النفس أو التربية يدقون نواقيس الخطر بعدما تعاظمت التهديدات التي تشكّلها هذه الوسائل، واستفحل خطرها إلى حدّ إنشاء الدول لمديريات خاصّة بالجريمة الإلكترونية، تقوم بمهام مراقبة محتوى هذه المواقع، وتعقّب آثار مرتكبيها، مثلما عمدت الكثير من الدول إلى تكييف قوانينها بإضافة مواد قانونية جديدة تسمح لمحاكمها بمجابهة كل ما يصدر عن هذه الوسائل ويمكنه إلحاق أضرار معنوية أو مادية بفرد أو جهة ما، لتتحوّل وسائل التواصل الاجتماعي إلى وسائل مارقة تنبعث منها كل الشرور.
أهي صناديق باندورا؟
كثرت الدراسات مؤخرا حول مواقع التواصل الاجتماعي، وتنوعت بين متكالب ومتواثب عليها مركزا دراسته على مساوئها، وبين حريص ومتهافت على إبراز إيجابياتها، وقصد وضعها في الميزان، أحاول تقديم مزاياها الفريدة، ومناقبها العديدة، مع مناقشتها بكل موضوعية للوقوف على أضرارها من منافعها.
أوّل سمة تتسم بها وسائل التواصل الاجتماعي، استهدافها خلق أو تمتين العلاقات بين الأفراد فيما بينهم، فهي تساعد الأشخاص على إنشاء علاقات اجتماعية جديدة من خلال التعرُّف على الأصدقاء، وتحسين التواصل مع الأشخاص، وبالأخص مساعدة الأشخاص الخجولين على التواصل مع غيرهم، ودفعهم إلى الخروج من عزلتهم والتخلص من مشاعر الانطواء.
إيجابية هذه النقطة لا تخفي سلبية متمثلة في أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت منذ انتشارها في التقليل من مهارات وفرص التواصل وإنشاء علاقات صداقة في الحياة الاجتماعية الواقعية، مثلما قللت حتى من التواصل الفعلي بين الأشخاص المنتمين إلى عائلة واحدة بعدما أصبحت المعايدة تقتصر عبر الرسائل الإلكترونية عوض الزيارات، وأمسى أصحاب المواقع الإلكترونية مدمنين عليها إلى حد الانعزال عن المجتمع، دون تجاهل ما يترتب عن هذه العلاقات الافتراضية من انتهاك لخصوصية المستخدمين وما ينجر عنها من فضائح أخلاقية.
ثاني ميزة تتميز بها وسائل التواصل الاجتماعي، تحولها إلى مدارس افتراضية، ومساعدتها التلاميذ والطلاب على رفع مستوى تحصيلهم الدراسي والعلمي من خلال الاستفادة من الدروس والتمارين التي ينشرها بالأخص الأساتذة، كما سهّلت التواصل بين الطلبة وهيئاتهم التدريسية وبين أولياء التلاميذ والمعلمين، كما يسرت الوصول إلى مصادر المعرفة عبر نشر كتب علمية إلكترونية ربما يصعب على أيّ طالب أو أستاذ الحصول عليها من المكتبات.
هذه الميزة جد رائعة، لكن الكثير من أولياء التلاميذ يشتكون اليوم من تدني مستوى التحصيل الدراسي لأبنائهم بسبب إدمانهم على مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مكانا مغريا لقضاء ساعات طويلة على حساب الدراسة والمراجعة، والأدهى والأمَرّ، أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تستخدم كإحدى طرق الغش في المواد الدراسية، وذلك من خلال نشر مواضيع الامتحانات أو غيرها من الأمور التي تُساعد على الغش، ووصل الحد في الجزائر إلى حدّ حجب وسائل التواصل الاجتماعي عشية إجراء امتحان البكالوريا بعدما تحولت هذه الوسائل إلى أهم وسيلة لتسريب مواضيع الامتحان.
فضاء الفكر
يعتبر فتح فضاء الفكر واسعا أهم صفة حسنة لوسائل التواصل الاجتماعي، حيث جعلت هذا المجال دون قيد وكسرت كل حدوده، وجمعت بين أهل الفكر والمتعطشين له على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم للتعبير عمّا يجول بخاطرهم ومناقشته دون أيّ نزعة أو وازع، والاشتراك في تبادل المعلومات والبيانات، وطرح القضايا الفكرية ومناقشتها بكل سهولة ويسر.
يرى الكثير أنه لا يوجد أخطر أو أفتك من سلاح الفكر، حيث يمكن استغلاله من أجل التأثير بطريقة سلبية في المتلقي الذي يذوب عن جهل أو قلة وعي منه في فكر معاد، وينجرّ وراء أفكار قد تسيء له ولمجتمعه في حال تبنيها والانتصار لها، فالكثير من الفكر الملوّث يحمل لباس الحرية والتحرر، وكم من فكر مشوّه يرتدي ثياب العصرنة والتقدم، وكم من فكر ممسوخ يتحلّى بزي العزة والكرامة، كما أن الانفتاح على أفكار الشعوب الأخرى وثقافاتها يساعد كثيرا في نقل الأذواق السيئة والقيم التي تتنافى وقيمنا ومبادئنا، ولعلّ أسوأ نتيجة تمخضت عن عدم التحكم في هذا المجال، الانتهاك الصارخ للملكية الفكرية وحقوق النشر من خلال عرض الكتب والفيديوهات والمنشورات دون إذن أو رخصة من أصحابها الأصليين.
النقطة الأخرى التي تحسب لوسائل التواصل الاجتماعي، مساهمتها في ترقية الحياة الاجتماعية عبر تشجيعها للأعمال الخيرية والتطوعية بشكل إيجابي في المجتمع، كما تعمل على توعية الأفراد ببعض المعوقات والمشاكل التي يجابهونها وتوجيههم إلى كيفيات معالجتها بطرق سليمة وسريعة، بالإضافة إلى دأبها على نشر ثقافة صحية باطّلاع المستخدم على الأمراض وسبل الوقاية منها، وتشجيعه على التحلي ببعض السلوكات التي توفر له بيئة صحية مثل ممارسة الرياضة والإقلاع عن التدخين والابتعاد عن الكحول والمخدرات.
غير أن كل هذه الإيجابيات، لا يمكنها أن تُداري أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت مفهوما جديدا اسمه التنمر الافتراضي أو الإلكتروني بعد تعرض العديد من المستخدمين إلى سلوكات عنيفة وعدوانية عبر رسائل أو صور بغية تخويفهم والتسلط عليهم من أجل ابتزازهم، كما أن هذه الوسائل منحت تربة خصبة لبعض الجماعات العنصرية لنشر أفكارها وإثارة النعرات والسلوكات التي تساعد على التزمت الفكري والتعصب الديني أو العرقي.
وجد الاقتصاد في وسائل التواصل الاجتماعي مرتفعا خصبا للنمو والتطور، حيث استفادت الشركات من جعلها مساحة إشهارية لتسويق منتوجاتها والترويج لها، وساعدت بالأخص الشركات الصغيرة وذوي الحرف والمهن الحرة على التعريف بعلاماتهم التجارية أو الخدمات التي يعرضونها، وسهل التسويق الإلكتروني من زيادة فرص البيع، كما وفّرت هذه الوسائل كثيرا من فرص الحصول على الوظائف، وقلصت المسافة والوقت بين أرباب العمل والباحثين عنه.
في هذه النقطة بالذات، الخاصة بمجال اقتحام الاقتصاد لعالم وسائل التواصل الاجتماعي، علينا الاعتراف بفضل وسائل التواصل الاجتماعي على الاقتصاد، بالرغم من وجود بعض السلبيات، في مقدمتها فقدان بعض الموظفين لمناصب عملهم بسبب التعليقات أو المنشورات أو الصور التي يمكنها أن تسيء إلى شركاتهم، إضافة إلى لجوء بعض المحتالين إلى استغلال هذه الوسائل للنصب.
نشطاء سياسيون
الأحزاب السياسية والناشطون السياسيون وجدوا هم أيضا بدورهم في وسائل التواصل الاجتماعي ميدانا جد مناسب لنشر أفكارهم وبرامجهم لتعزيز الحياة السياسية أوّلا من خلال نشر وعي سياسي وثقافة سياسية راقية بدعوة الناخبين إلى المشاركة بكثرة في الانتخابات، وثانيا من خلال إشراك الجميع في مراقبة أداء الوزارات وبقية مؤسسات الدولة بالكشف عن التجاوزات وتناول البرامج بالنقاش، ولعلّ أهم ما ميز وسائل التواصل الاجتماعي ومساهمتها في عمليات التغيير السياسي، استغلالها أثناء أحداث الربيع العربي التي عرفتها كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا، حيث تحولت إلى منصات سياسية لنشر المواقف والشعارات وحتى تنظيم المظاهرات.
هذه النقطة مثل سابقتها، إيجابياتها تعدّت بكثير سلبياتها، اللهم إلا من بعض السلوكات التي تتعرض كثيرا إلى المس بخصوصيات الشخصيات السياسية قصد النيل منهم بطرق غير أخلاقية بغية الإساءة إليهم من خلال نشر الأكاذيب وخلق الإشاعات وتلفيق التهم الباطلة، كما أنه من أشد المآخذ التي تلقاها وسائل التواصل الاجتماعي، هو إمكانية تحوّل أيّ شخص افتراضي إلى زعيم وطني وقائد لحراك شعبي وناشط سياسي كبير، فقط لأنه يضع منشورات سياسية تحريضية وعنيفة على حسابه الخاص أو على صفحته يلهب بها حماس العالم الافتراضي دون طرح أيّ أفكار أو برامج، لكن كل ما يقوم به التركيز بالخصوص على فضائح المسؤولين واستغلال حرمان الناس وبؤسهم ومعاناتهم لغرس مشاعر الحقد والكراهية ودفعهم للانتقام من أوضاعهم أكثر من دعوتهم إلى التغيير بمناهج عقلانية وأساليب علمية تراعي واقع المجتمع وحقائقه.
الجريمة الإلكترونية
عند الحديث عن ايجابيات وسلبيات وسائل التواصل الاجتماعي، هناك أيضا بعض النقاط التي يطغى فيها السلبي على الإيجابي، منها الجريمة الإلكترونية التي زادت من عبء أجهزة الأمن التي وجدت نفسها مجبرة على استحداث قسم جديد مهمته ما أصبح يعرف بالجريمة الإلكترونية التي أصبحت بعدد حوادث الطرقات، بعدما استغلت هذه الوسائل للترويج للجرائم والتحريض على ارتكابها، كما حولت المنظمات الارهابية وسائل التواصل الاجتماعي إلى مكاتب تجنيد، إضافة إلى بعض الجرائم العديدة والمختلفة مثل نقل الفيروسات، والتعرُض إلى الهجمات الإلكترونية، وسرقة الحسابات عن طريق الاختراق أو القرصنة.
فوضى صحافية
من الإيجابيات والسلبيات التي يمكن تعدادها أيضا، اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي منبرا إعلاميا، وهذا بعد ذهاب الكثير من الخائضين إلى القول إن هذه الوسائل تمكنت من الاستحواذ على مكانة الجريدة والراديو والتلفزيون بفضل ميزة السرعة في نشر الأخبار، بالأخص في حال حدوث أزمات وكوارث، باستعمال الكتابة والصورة والصوت، ووصل الحد إلى ظهور تسميات مختلفة لمثل هذا النوع من المنشورات مثل صحافة المواطن والإعلام البديل وصحافة الشارع، وهذا شيء مضحك بالفعل إلى درجة القهقهة، لأن مثل هذا الادعاء يسمح بأن يتحول أيّ شخص مهما كان مستواه التعليمي إلى صحافي، وهذا لا يختلف كثيرا عن مشجع كرة القدم، الذي بمجرد انتهاء مشاهدته لمباراة يتحول إلى مدرب وحكم ومحلل رياضي ويدلي بدلوه حتى ولو لم يمارس طيلة حياته رياضة كرة قدم في أيّ فريق، ولم يقرأ أيّ مادة عن قانون التحكيم في كرة القدم، وكل ما يعرفه عن هذه الرياضة أنه متتبع شغوف. وعليه، من السخافة جدا تقزيم الصحافة إلى مجرد نقل خبر في شكل جمل ومجوعة صور، لأن الأخبار أولا هي من علوم الإعلام والاتصال، وثانيا هي مهنة ومسؤولية.
مجتمعات مترنحة
تناوُل إيجابيات وسائل التواصل الاجتماعي وسلبياتها، لا يشكّل في الحقيقة سابقة في عالم وسائل الإعلام والاتصال، حيث شهدت كل وسيلة عند بداياتها هجومات عنيفة، وجّهت إليها ضربات موجعة للنيل من مصداقيتها والتقليل من شأنها، فوسائل التواصل الاجتماعي ليست وحدها من عرفت الحملات التي تستهدف تشويهها، كما أنه من غير الموضوعية عند دراسة أيّ موضوع التركيز على سلبياته وتجاهل إيجابياته، لأن وسائل التواصل الاجتماعي مثلها مثل بقية وسائل الاعلام والاتصال هناك منها ما يحمل محتواها مضمونا قيما وهادفا، إذ ليس من الإنصاف حصر وسائل التواصل الاجتماعي في مجرد إنشاء أو ربط علاقات صداقة بين مستخدمين أو أكثر، إنما توجد منها من لها أهداف مهنية أو اقتصادية أو علمية أو معرفية أو ثقافية بحثة.
من المجحف أيضا تسليط الضوء فقط على وسائل التواصل الاجتماعي على أساس أنها فقط بؤرة فساد ومصدر لنشر الرذيلة، كما أنه من غير اللائق النظر إلى مستخدمي هذه الوسائل كقصّر وتوجيه نصائح لهم وإرشادات وكأنهم أطفال صغار، كما أنه من الخطأ التعميم، صحيح أن هناك بعض الحسابات التي توحي بأن أصحابها من ذوي الحالات النفسية غير السوية ويحتاجون إلى أطباء نفسانيين، وأن منشوراتهم تعكس حالات مرضية أكثر مما تعبر عن مجرد خربشات، إلا أنه من الخطأ وضع عموم المستخدمين في سلة واحدة.
رب قائل إن وسائل التواصل الاجتماعي ليست إلا حتمية لانحدار مستوى بقية وسائل الإعلام والاتصال التي فقدت سحرها وبريقها بعدما أدخلت المجتمعات في عالم التفاهة، إلا أن هذا ليس بالجديد، فقد سبقنا العديد من المفكرين الذين أكدوا أن وسائل الإعلام غيرت مجتمعاتنا إلى مجتمعات وقحة قابلة للفرجة، وأن الفرد في هذه المجتمعات لم يعد متعطشا إلى الحقيقة بقدر مطالبته بالأوهام.