الإصلاح الديني والتنمية الاقتصادية
بعيدا عن مشاعر الحسد الواضحة وروح التحريض ضد مسيحيي مصر والتعامل مع النجاح الاقتصادي وكأنه جريمة، كان الأحرى بالكاتب الإسلامي أن يتساءل ما إذا كانت هناك علاقة بين الدين وبين السلوك الاقتصادي؟ وهل يمكن للقيم الدينية أن تكون أحد الأسباب التي تفسر هذا الدور الرائد للأقلية المسيحية في قطاع الأعمال المصري؟ بطبيعة الحال لا تكفي الأرقام التي يوردها الكاتب الإسلامي للإجابة على هذا السؤال والتي تتطلّب دراسات ميدانية معمقة وحيادية. مع ذلك يشير محمد عمارة بالفعل إلى ظاهرة لافتة للنظر لوحظت أيضا في بلدان عربية أخرى، منها العراق مثلا حيث كان جزء كبير من الأسماء اللامعة في عالم الأعمال والشركات خلال فترة تأسيس الدولة العراقية الحديثة ينتمون للأقليّتين اليهودية والمسيحية. صحيح أن هذه الظاهرة تكون عادة نتاجا لعوامل متنوعة، لكن مثل هذا التباين في السلوك والأداء الاقتصادي لجماعات تنتمي لأديان مختلفة توصّلت إليه أيضا دراسات وأبحاث في العديد من بلدان العالم. وإذا كان هذا الاختلاف يُلاحظ بين الجماعات الدينية داخل البلد الواحد، فإن الفروق تبدو أوضح عند مقارنة مجتمعات تسود فيها مرجعيات دينية مختلفة الأمر الذي يؤكد أن العوامل المادية لوحدها غير قادرة على فهم العمليات والسلوكيات الاقتصادية.
حظي هذه التباين باهتمام الكثير من علماء الاقتصاد والاجتماع على مدى عقود طويلة. في كتابه الصادر في عام 2017 بعنوان “حكام ودين وثروات: لماذا أصبح الغرب ثريا وعجز الشرق الأوسط عن ذلك” (Rulers، Religion and Riches: Why the West Got Rich and the Middle East Did Not) يرى المؤرخ الاقتصادي الأميركي جاريد روبن أن السبب الرئيسي لتخلّف العالم الإسلامي اقتصاديا بالمقارنة مع الغرب يكمن في طبيعة العلاقة بين الدين والدولة. ففي حين نجحت أوروبا بعد حركة الإصلاح الديني في أوائل القرن السادس عشر في فك الارتباط بين الدين والسياسة، وبالتالي في إقامة نظم سياسية تشجّع التجارة وتحفّز التقدم الاقتصادي، بقي الحكام المسلمون بحسب وجهة نظر جاريد روبن يستمدّون شرعيتهم من الدين الأمر الذي أدى إلى تراجع دور المصالح الاقتصادية.
من الواضح أن جاريد روبن متأثّر إلى حد كبير بأفكار عالم الاجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر (1864-1920)، وإن كان روبن يحاول أن ينأى بنفسه بعض الشيء عن نظرية فيبر. في عام 1904 أصدر فيبر كتابه المعروف “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” والذي حاول فيه أن يجيب على السؤال الذي حيّر مفكرين كثيرين: لماذا نشأت الرأسمالية في غرب أوروبا وليس في الصين أو الهند أو العالم الإسلامي؟ ولماذا حدثت الثورة الصناعية وتراكم رأس المال في هذا الجزء من العالم؟
بخلاف كارل ماركس الذي يرجع التطور في نهاية المطاف إلى العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ويؤكد على أولوية القاعدة الاقتصادية على ما يدعوه بالبناء الفوقي (الفكري)، أعاد فيبر الاعتبار إلى العوامل الثقافية بمعناها الأشمل، وبما فيها العقائد الدينية. بعد الضجة الكبيرة التي أثارها كتابه المذكور أعطى فيبر اهتماما استثنائيا لعلم اجتماع الأديان والذي يعتبر مؤسسه الحقيقي، وذلك من خلال تطبيق نظريته على الأديان الأخرى مثل اليهودية والبوذية والهندوسية والإسلام.
ينطلق ماكس فيبر، وكما فعل بعده بأكثر من 100 عام جاريد روبن، من حركة الإصلاح الديني التي أطلق شرارتها القس الألماني مارتن لوثر في الـ31 من أكتوبر 1517 عندما علّق أطروحاته الخمس والتسعين باللغة اللاتينية على بوابة كنيسة مدينة فيتنبيرغ الألمانية. لم يكن الدافع وراء نشر هذه الرسائل الموجهة لقيادة الكنيسة الكاثوليكية الألمانية دينيا بحتا فقط وإنّما كان أيضا اقتصاديا وماليا، وذلك لأنها تضمّنت نقدا لاذعا لتجارة صكوك الغفران السائدة آنذاك في أوروبا الكاثوليكية حيث كان المؤمنون “يشترون” مغفرة الربّ لذنوبهم من خلال اقتناء هذه الصكوك. ويرى العديد من المؤرّخين أن الأمراء الألمان المحليين دعموا حركة لوثر لأن الجزء الأعظم من عائدات تجارة صكوك الغفران كان يتسرّب من مقاطعاتهم ويذهب إلى روما مركز الكنيسة الكاثوليكية. مهما كانت الدوافع يبقى نشر هذه الرسائل قبل 500 عام حدثا تاريخيا بالمعنى الحقيقي للكلمة لأنه أطلق حركة تغيير وجدل واسعة تجاوزت جدران الكنيسة وشملت المجتمع والسياسة والثقافة والاقتصاد.
في تلك الحقبة عاش أيضا المصلح الديني السويسري من أصل فرنسي جان كالفن (1509-1564) الذي انتشرت تعاليمه الدينية عن القدر وأخلاقيات الزهد وقيم الجد والمثابرة وفصل الكنيسة عن الدولة في هولندا وسويسرا وبريطانيا وانتقلت لاحقا إلى العالم الجديد أميركا الشمالية. ففي الولايات المتحدة الأميركية لقيت الكالفينية التي اعتبرها فيبر أكثر جذرية من اللوثرية، أرضا خصبة وسط الأغلبية البروتستانتية وأنجبت أتباعا متحمّسين من بينهم السياسي والكاتب ورجل الأعمال العصامي بنيامين فرانكلين (1706- 1790)، الذي لعب دورا رئيسيا في تأسيس الدولة الجديدة وصياغة إعلان الاستقلال الأميركي. ومن خلال اقتباس نص طويل نسبيا لبنيامين فرانكلين حاول فيبر أن يوضّح ماذا يقصد بـ”روح” الرأسمالية الحديثة والتي يلخّصها في وجود عقلية (ثقافة) تحبّذ الجدية والانضباط والنزاهة والسلوك العقلاني والنفعية والحرص على كسب المال وتستهجن التبذير والكسل وإضاعة الوقت وتنظر لتعظيم رأس المال كهدف بحد ذاته.
بحسب فيبر فإن هذه العقلية كانت نتاجا لعملية تربوية طويلة الأمد لعب فيها الدين دورا كبيرا، وانعكست على سلوك رجال الأعمال والحرفيين والعمال على حدّ سواء، وأدّت إلى نشوء مشاريع ومؤسسات تُدار بطريقة غير تقليدية. بطبيعة الحال لم يكن هدف فيبر من ذلك عرض صورة وردية للرأسمالية، وإنما أشار أيضا بوضوح إلى مظاهر الجشع والاستغلال الفاحش للعمال في الرأسمالية. غير أنه رأى فيها سلوكا لا يتفق مع العقلانية الاقتصادية التي تتميز بها الرأسمالية الحديثة بحسب مفهومه.
يبدأ ماكس فيبر كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” بملاحظة تشبه ملاحظة محمد عمارة بخصوص الأقباط المصريين في كتابه المذكور. فيبر أيضا يشير إلى اهتمام الصحافة والمنظمات الكاثوليكية في ألمانيا بحقيقة أن البروتستانت يساهمون في الحياة الاقتصادية وفي ملكية رأس المال بحصة تفوق كثيرا نسبتهم السكانية. لكن فيبر، وبعكس عمارة، لا يستغل ذلك لتأجيج المشاعر الطائفية وإنما لبحث تأثير الانتماء الديني (الطائفي) على السلوك الاقتصادي للجماعات ولتفسير أسباب الفارق الكبير في مستوى التطور الاقتصادي بين شمال ألمانيا ذي الغالبية البروتستانتية وبين الجنوب الكاثوليكي للبلاد في تلك الحقبة.
ومن اللافت للنظر أن هذه الهوة بين الجنوب والشمال تمكن ملاحظتها في أوروبا حتى يومنا هذا. وممّا أثار استغراب فيبر هو أن أتباع الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا كانوا أقلية (أقل من ثلث السكان) في بداية القرن العشرين. ولهذا يتساءل عن سبب عدم تصرف الكاثوليك كما تفعل عادة الأقليات في بلدان عديدة حيث يدفعها التمييز بحقّها وعزلها كرها أو طواعية عن المناصب السياسية في الدولة لمحاولة تعويض ذلك عن طريق التفوق في المجال الاقتصادي والتجاري.
بناءً على بيانات إحصائية وأبحاث ميدانية قدم بعضها طلابه توصل أستاذ الاقتصاد فيبر إلى أن القوى الدافعة لتطور الرأسمالية بشكلها الحديث الذي ازدهر في أوروبا الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر ترتبط بشكل وثيق بالذهنية البروتستانتية، وبشكل خاص صيغتها الكالفينية التي تدعو لتبنّي قيم ومعايير وسلوكيات عقلانية تمجّد التفاني في العمل والتقشف والانضباط واحترام الملكية الخاصة وتراكم رأس المال وترفعها إلى مصاف العبادة والتقرب إلى الرب الأمر الذي ساهم بدوره في انتشار مناخ فكري منفتح يشجع المبادرة الحرة والمخاطرة والإبداع والنمو.
بالنسبة إلى فيبر تستند أخلاقيات العمل البروتستانتية إلى مفهوم الحرفة أو المهنة (بالألمانية Beruf) الذي صاغه لوثر وأضفى عليه تصورا دينيا. لقد دعا لوثر أتباعه للنظر إلى المهنة وكأنها إيحاء أو واعز وشعور داخلي طاغٍ (بالألمانية Berufung) لأداء مهمة معينة في حياتهم. وكان يردّد في عظاته بأن الرب خلق الإنسان للعمل، كما خلق الطير للتحليق.
كانت هذه النظرة أشبه بتمرّد على تعاليم العهد القديم التي ترى في العمل شرّا لا بد منه وعقوبة من الرب لآدم عندما خاطبه بعد أن عصى أمره وأكل من ثمر الشجرة المحرمة “ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك. وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل عشب الحقل” (سِفر التكوين، الإصحاح الثالث). مع حركة الإصلاح أعاد لوثر الاعتبار للعمل مهما كان بسيطا واعتبر تأديته فريضة دينية ووسيلة لخدمة الربّ والتقرّب إليه. في نفس الوقت نأى فيبر بنفسه بوضوح عن الفكرة السائدة حينذاك بأنّ تقلّد منصب ديني كراهب أو راهبة يلقي تقديرا أكبر من الرب مقارنة بالأعمال الدنيوية العادية. ولم يتردّد لوثر مثلا في القول بأن عمل المرأة في البيت أكثر قيمة من تحمل مشاق الحج أو التبرع لبناء كنيسة. بهذا لم تعد المهنة امتهانا وإنما رمزا للمكانة الاجتماعية والدينية.
بخلاف كارل ماركس الذي يرجع التطور في نهاية المطاف إلى العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج ويؤكد على أولوية القاعدة الاقتصادية على ما يدعوه بالبناء الفوقي (الفكري)، أعاد فيبر الاعتبار إلى العوامل الثقافية بمعناها الأشمل، وبما فيها العقائد الدينية
تبدو هذه الأفكار بأوضح أشكالها لدى المصلح السويسري كالفنّ الذي قام بإعادة صياغة ما يدعى بعقيدة القدر المسيحية التي ترى بأن الربّ يحدّد منذ الولادة قدر الإنسان ومصيره وأنه يقرّر سلفا الخلاص لبعض البشر واللعنة الأبدية للبعض الآخر. لكن ما يبدو استسلاما للقضاء والقدر أعاد كالفن تفسيره من خلال القول بأن الإنسان الذي لا يعرف لأيّ طرف ينتمي، يمكن أن يستشف ذلك عبر نجاحه في الحياة. بهذا يصبح التفوق في العمل وفي ممارسة المهنة على الأرض المؤشر الوحيد للخلاص في السماء. فمن يفوز بالدنيا الفانية مرشّح أكثر من غيره للفوز بالآخرة، أو بكلمات تشبه المعني الوارد في القول المنسوب للإمام علي بن أبي طالب “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.
بناء على ذلك رأى كالفن في تدبير الإنسان لقوته عبادة وشيئا مقدسا وليس عقابا من الرب. ودعا أتباعه للعمل بجدّ والعيش بتواضع لأنه كلما كان النجاح على الأرض أكبر كانت فرص الخلاص في السماء أحسن، الأمر الذي يتطلب التصرف بعقلانية وذكاء وإعطاء الأولوية للعمل بدلا من الانغماس في متع الحياة. لكن ماذا يفعل البروتستانتي بهذه الثروة المتراكمة التي تغري بحياة باذخة؟ هنا يجيب كالفن “ليس من الخطيئة أن يكون المرء ثريا ولكن فقط منْ يخلد للراحة اعتمادا على ماله ومن يسيء استخدامه لإشباع رغباته الآثمة يقع في الخطيئة”.
من هنا يرى فيبر بأنّ روح الرأسمالية تحتاج لفضيلتين هما: الإرادة القوية للعمل وإعلاء شأن الزهد وحياة التقشف كما تفعل الكنائس الإصلاحية. فقد انتقد لوثر حياة الرهبنة في الأديرة واعتبرها نوعا من التكبّر المستتر، وأكد في الوقت ذاته على أهمية الورع الديني الداخلي. ثم جاءت التعاليم الكالفينية لتشدد على مبدأ التنسك والحياة العصامية والنزعة التطهيرية. غير أن رجل الأعمال الناجح من وجهة النظر الكالفينية لا يكتفي بتجنب التبذير والإفراط في الاستهلاك والتركيز على الادخار فحسب، وإنما يقوم أيضا باستثمار أرباحه وتعظيم رأسماله الأمر الذي يشكل أهمّ لبنة لقيام مشاريع ومؤسسات كبيرة تُدار بطريقة عصرية والتي لا يعتبرها فيبر شرطا لتطور اقتصاد السوق فقط، وإنما أيضا إحدى السمات الجوهرية للرأسمالية الحديثة.
ولهذا يؤكد فيبر بأن الدافع الشخصي للكسب ولتحقيق الأرباح موجود في كل المجتمعات ولا يقتصر على حضارة دون أخرى، ولكن القضية بالنسبة إليه “تتعلق بالظروف التي تجعل من هذا الدافع شرعيا وعقلانيا بحيث يخلق كيانات عقلانية كالتي نراها في المشاريع الرأسمالية”. هنا بالذات يرى فيبر ميزة للبروتستانتية بالمقارنة مع المذاهب والأديان الأخرى، ومنها الإسلام الذي يحضّ كما هو معروف على الإنفاق ويذم الادخار، الشرط الأهم لقيام مشاريع حديثة.
يندرج ضمن هذا السياق الموقف من الفائدة على القروض. صحيح أن مارتن لوثر كان يلعن الربا وفقا للتعاليم المسيحية السائدة حينذاك ويرى فيه تجسيدا للجشع والاستغلال، إلا أنه كان يتساهل مع بعض أشكال الفائدة ونفى عنها صفة الربا شريطة أن تكون بين طرفين متكافئين وألاَ تزيد عن ستة بالمئة. ثم جاء تلميذه كالفن المقيم في جنيف ليخطو خطوة أبعد من ذلك من خلال إباحة أخذ الفوائد بشكل عام في الصفقات المالية، لكنه أيضا اعتبر نسبة 5 بالمئة مؤشرا على عدالة الفائدة. بيد أن أهم ما توصل إليه كالفن هو تفنيده لنظرية أرسطو القائلة بأن النقود عقيمة ولا تتكاثر والتي تغلغلت إلى جميع الأديان تقريبا. في المقابل بقيت الكنيسة الكاثوليكية متمسّكة بنصوص الإنجيل التي تحظر الفائدة حتى عام 1830 عندما قام البابا بيوس الثامن بإلغائها من الناحية الرسمية على الأقل. ومن المؤكد أن السبق في إلغاء حظر الفائدة في المناطق البروتستانتية ساعد في تطوير القطاع الائتماني وبالتالي ولادة الرأسمالية الحديثة.
من جهة أخرى وقف المصلحون الدينيون ضد الإكثار من المناسبات والعطل والأعياد الدينية من قبل الكنيسة الكاثوليكية، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن البابا غريغوري التاسع (1145-1241) قرر في عام 1232 زيادة عدد العطل الدينية إلى 85 يوما لكي “يتفرغ” البشر للتقرب من الرب. هذه الظاهرة في القرون الوسطى (التي تُذكّر بما يحدث في يومنا هذا في العراق حيث تتوقف الحياة لعشرات الأيام لإحياء ذكرى مصرع الإمام الحسين وأربعينيته وذكرى وفاة بقية أئمة الشيعة وغيرها من المناسبات الدينية) حاربها لوثر من خلال التأكيد على أن يوم الأحد هو يوم الاستراحة الوحيد للرب والعباد، بل وذهب إلى القول بأن أيام العمل هي الأيام المقدسة حقا.
إلى جانب إعلاء شأن المهنة والعمل يشير فيبر أيضا إلى أن اهتمام البروتستانت بالتعليم كان أكبر مقارنة بأتباع المذاهب الأخرى. ويعود ذلك أيضا إلى عوامل تاريخية. فمن المعروف أن لوثر أشرف بنفسه في النصف الأول من القرن السادس عشر على ترجمة الإنجيل بقسميه العهد القديم والجديد. وبخلاف رجال الدين الكاثوليك الذين وقفوا على مدى قرون ضد ترجمة الإنجيل ورأوا فيها تهديدا لسلطتهم على العامة كان المصلح الكبير يعتقد بأن المؤمن العادي قادر على قراءة الإنجيل وفهم معانيه. وترافق ذلك مع تطوّر فنّ الطباعة الأمر الذي ساهم في انتشار الكتب وتحسين مستوى التعليم. ويشير ماكس فيبر في مقدمة كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” بشكل خاص إلى انخفاض نسبة الطلبة والتلاميذ الكاثوليك في التعليم العالي والمهني مقارنة بنسبتهم السكانية. غير أنه لا يرى ذلك بالدرجة الأولى نتيجة لضعف دورهم في النشاط الاقتصادي وإنما كسبب له. وعزا ذلك إلى أن العوائل البروتستانتية تبدي حرصا أكبر على توفير التعليم والتأهيل لأبنائها، وخاصة في مجال الدراسات التقنية والمهن التجارية الأمر الذي أدى بدوره إلى تعزيز ريادتهم لقطاع الأعمال.
هناك جانب آخر لا يرتبط مباشرة بأخلاقيات العمل ولكنه يؤثّر على الظروف العامة المحيطة بعملية التنمية الاقتصادية، ألا وهو العلاقة بين الدين (الكنيسة) والدولة. من المؤكد أن تحرّك لوثر جاء أيضا احتجاجا على السلطة الدنيوية للكنيسة الكاثوليكية التي كان الكثير من أساقفتها يتصرّفون كرجال دولة ويخوضون الحروب ويحيكون الدسائس ضد منافسيهم. لم يتحدث لوثر صراحة عن فصل الدين عن الدولة ولكنه أشار إلى وجود مملكتين، ملكوت الرب وملكوت العالم، ما يعني الكنيسة والدولة. ولكلّ منهما ناسه وسلطاته وقيادته. ينطوي هذه التفريق على رفض واضح للدولة الدينية. وهو ما يراه الكثير من المؤرخين خطوة هامة على طريق تكريس مبدأ فصل الدين عن الدولة لاحقا في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. وإذا كان هذا المبدأ لا غنى عنه لحرية العقيدة وإقامة نظام ديمقراطي فإنه يوفّر أيضا شروطا ملائمة لازدهار اقتصاد السوق ولنشوء فئة من رواد الأعمال وأصحاب المبادرات بعيدا عن السطوة المطلقة للدولة.
بيد أن ماكس فيبر وعلى الرغم من تمسكه بنظريته القائلة بوجود علاقة قرابة بين جوهر العقيدة البروتستانتية وروح وثقافة النظام الرأسمالي، إلاّ أنه كان بعيدا كل البعد عن التعصب لتعاليم مارتن لوثر، لا سيما وأن هذه الشخصية التاريخية تتضمن، وباعتراف الكنيسة البروتستانتية نفسها اليوم، جوانب مظلمة، ومنها معاداة السامية التي وظفها النازيون لاحقا لتبرير أيديولوجيتهم الشوفينية. كما نبه فيبر إلى أن تأكيده على دور أفكار لوثر في التمهيد لقيام الرأسمالية لا يعني القبول بجميع مواقفه وآرائه الدينية والاجتماعية المحافظة. ولهذا تضمن عرض فيبر الكثير من الانتقادات لأفكار لوثر. فهو يقول مثلا بأن “البروتستانتية القديمة للوثر وكالفن ليس لها أي علاقة بـ’التقدم’ كما نفهمه حاليا” ويضيف في موضع آخر بأن “لوثر وتلك الأوساط الكنيسية، التي تمجد بحماس عملية الإصلاح الديني ليسوا هم اليوم أصدقاء للرأسمالية بأيّ معنى من المعاني”. من هنا يمكن القول بأن فيبر يرى بأن المصلحين الدينيين أطلقوا عملية تجاوزت لاحقا الأهداف التي رسموها لتحرّكهم.
من جهة أخرى يشدّد فيبر دائما على أن الترابط بين البروتستانتية والرأسمالية لا يعني بأن تعاليم البروتستانتية في تلك الفترة كانت أكثر انفتاحا أو أقل تزمتا من الكاثوليكية، ولا يعني ذلك أيضا بأن البروتستانت كانوا أقل تمسكا بتعاليم مذهبهم. ويشير فيبر مثلا إلى أن ما يلفت النظر لدى رجال الأعمال التابعين للحركة التّقْويّة (Pietism) البروتستانتية والناجحين اقتصاديا هو “جديتهم المُفرطة والتي لا تعبّر عن سعادة بالحياة الدنيوية وإنما عن موقف ديني صارم”. في هذا المجال يقتبس فيبر عبارة شهيرة لرائد التنوير الفرنسي مونتيسكيو (1689-1755) “لقد تفوقَ الإنكليز على جميع شعوب الأرض في ثلاثة أشياء: التقوى والتجارة والحرية”. بهذا أراد فيبر أن يقول بأنه لا يوجد تعارض من حيث المبدأ بين التديّن وبين العقلانية الاقتصادية ومبادئ الديمقراطية، بل على العكس يمكن للتديّن في ظل ظروف معينة أن يشكل دافعا قويا لتطور اقتصاد السوق كما فعلت الكالفينية في كثير من البلدان، وبالتالي التمهيد لقيام نظم ديمقراطية. من جانب آخر لا يمكن القول بأن فيبر نظر إلى أخلاق العمل البروتستانتية بصفتها العامل الوحيد لذلك، وإنما كان يؤكد على تنوع العوامل وتفاعلها. غير أنه رفض أيضا النظر إلى نشوء الرأسمالية الحديثة كحتمية تاريخية، كما تُبشّر بذلك المادية التاريخية التي تُرجع قيام علاقات إنتاج رأسمالية إلى تطور قوى الإنتاج. وفيما عارض بشدة إعطاء الأولوية للعوامل المادية والاقتصادية في تفسير التطور التاريخي شدد فيبر في الوقت نفسه على أن المؤرخ وعالم الاجتماع لا يمكن أن يستغني عن هذه العوامل.
منذ صدور كتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” قبل أكثر من 110 أعوام جرت مياه كثيرة ونجحت بلدان ذات مرجعيات حضارية ودينية مختلفة في اكتشاف “روح” الرأسمالية من جديد وفي تقديم تجارب تنموية متميزة. لا ينطبق ذلك على اليابان وكوريا الجنوبية وهونغ كونغ والصين وربما الهند قريبا فحسب، بل حتى في مسقط رأس ماكس فيبر ألمانيا أصبحت الآن الآية معكوسة لأن الولايات الجنوبية ذات الأغلبية الكاثوليكية تتفوّق على الولايات ذات الطابع البروتستانتي في الشمال في مضمار التقدم والابتكار وفي معدّلات النموّ الاقتصادي ومستوى المعيشة. غير أن ذلك لا يدحض نظرية ماكس فيبر لأن هذه التجارب الرأسمالية الناجحة لن تغيّر من حقيقة أن “روح الرأسمالية الحديثة” نشأت لأول مرة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، فيما تبقى التجارب الأخرى في نهاية المطاف تقليدا للحضارة الغربية في مجال التنمية الاقتصادية ولم تنجح حتى الآن في تقديم نموذج بديل وناجح على المدى الطويل.
كما أن هذا الواقع الجديد المخالف لنظرية فيبر يشير أيضا إلى أن المرجعيات الثقافية وبما فيها الأفكار الدينية وموقفها من النشاط الاقتصادي ليست خالدة وثابتة كما يتصوّر البعض، وإنما تخضع لمنطق التغيير مثلها مثل المكوّنات الأخرى للثقافة الجمعية للمجتمع.
وبغض النظر عن الجدل المستمر حول منهج فيبر يمكن لإحياء الذكرى الخمسمئة لانطلاق حركة الإصلاح الديني في ألمانيا وبلدان أخرى أن تشكل أيضا حافزا لدراسة العلاقة بين التعاليم والفرائض الدينية وبين التنمية الاقتصادية في العالم الإسلامي، لا سيما وأنه فشل حتى الآن في تقديم تجربة تنموية متميزة على المستوى العالمي.