الإعلان وثقافة الاستهلاك

بصريات مدن ساكني الهامش
السبت 2019/06/01
الموسيقى لطرق أبواب الصفيح في العشوائيات

كلما حضرت محاضرة موضوعها ثقافة الاستهلاك أو قرأت كتاباً أو مقالاً عنها تذكرتُ كيف كنت أدخل إلى الدار في السبعينات القرن الماضي كاللص وقد أخفيت كتاباً جديداً غالي الثمن تحت قميصي، خوفاً من تقريع أمي ووصفها لي بالتبذير.

كان والدي يرحمه الله ينصحني -بلطف- أن أذهب إلى المكتبة العامة، وهي قريبة من بيتنا، مسافة شارعين، لا أكثر لكي اقرأ أيّ كتاب مجاناً. ولكن حبّ الامتلاك لديّ، وخصوصاً للكتب، جعلني لا أعبأ بنصيحته كثيراً، وأجمع خلال فترة الثانوية أكثر من ألف كتاب.

لكنني وجدت بعد ذلك حلاً موفقاً مع من هو مثلي من محبي القراءة، وليس إكراماً لنصائح أبي أو تقريعات أمي بل لضيق ذات اليد الذي عانيته في ذلك الوقت. وهذا الحل يتلخص بتبادل الكتب بيني وبين أصدقاء من أمثالي من محبي الكتاب. وهذا الحل لم ينجح كثيراً معنا لوقت طويل، فروَّجنا وقتها وصيّة تقول “أحمق من يعير كتاباً وأكثر حمقاً من يعيده!”.

وعدنا بعد ذلك لعادتنا السابقة -شراء الكتب- وقد ابتكرنا حيلاً جديدة لطمس معالم الشراء والإيهام بأنه كتاب قديم، استعرناه من صديق أو وجدناه مرمياً على قارعة الطريق. ولم يكن يصدقنا لا الأب ولا الأم، وكانا يسكتان رحمة بنا، وهما يدعوان لنا بالشفاء من داء شراء الكتب، وتحميل الأسرة مصاريف يمكن أن تحلَّ بها مشكلة من مشاكل احتياجاتنا الكثيرة، كشراء ثوب أو قرطاسية أو إنفاقها في أيّ شأن آخر يفيدنا خلال السنة الدراسية، ويبدو لهما معقولاً ونافعاً.

رأسمالية متوحشة

كان ذلك في سبعينات القرن العشرين زمن القناعة والطيبة والعيش في الستر، وما أدراك ما كان في السبعينات تلك: الراديو الترانسستر، والتلفزيون بالأبيض والأسود، والأثاث القديم من تاريخ عرس أمك وأبيك، ولا يزال جديداً تلمعهُ الوالدةُ بقطن تبللهُ بقليل من زيت الزيتون، وحتى سريرك، الذي وضعوك فيه يوم ولادتك تراه يستخدم لإخوتك بالتتابع، وأنت قد تجاوزت العاشرة من عمرك.

إن تناول ثقافة الاستهلاك في المجتمعات العربية في دراسة أو بحث أكاديميّ أو مقال قصير، قراءة أو كتابة، يذكرني بكل ما عشناه في طفولتنا من قناعة ومقدرة على ابتكار الحلول لاحتياجاتنا واحتياجات أسرنا من دون أن نضطر إلى الذهاب إلى السوق لاقتناء سلعة جديدة ترهق ميزانية الأسرة.

استخدام الموسيقى لجذب الزبائن
استخدام الموسيقى لجذب الزبائن

إن ما نقرأه ونشاهده يومياً في أسواقنا وأسرنا، وما ينفق من أموال لشراء حاجات، هي موجودة في بيوتنا، ويمكن أن نستغني عن شرائها وكل هذا إسراف يجعل الكاتب قبل القارئ يسأل نفسه ويحاسبها عن العديد من الممارسات الخاطئة، التي مارسناها خلال شهر واحد.

فعلى سبيل المثال أنك اشتريت هاتفاً جوالاً أكثر ذكاء مما كان لديك، بينما هاتفك الذكي السابق لا يزال يعمل بكفاءة، أو غيرت أثاث مكتبك، وقديمك لا يزال جديداً، ولكن موديلاً أكثر جدة زهيد الثمن عُرض في الأسواق، فلم يكن من مهرب لك غير الشراء.

وهناك ما هو أكثر هدراً للمال، كشرائك موديلاً جديداً لتلفزيون بلازما أكثر دقة، وتجسيماً للصور من تلفزيون بلازما سابق اشتريته قبل سنتين، ولا يزال يعمل بكفاءة عالية في بيتك، أو تبديلك سيارتك ولم يمض على موديلها سوى سنة أو سنتين، أو أن تشتري موديلات جديدة من الملابس من ماركات أجنبية لأنها فقط مُنتجة من تلك الماركات من دون الحاجة الحقيقية لها.

ومن اللافت للنظر في الدول العربية أن التلفزيون والإنترنت والإذاعات المختلفة تقوم بمهمة جبارة في إشاعة ثقافة الاستهلاك، وتشارك في ذلك الشركات والبنوك والمؤسسات، فهي تنشر ليلاً ونهاراً، وقبل المناسبات الدينية، كعيد الضحى والفطر، وافتتاح المدارس في كل سنة دراسية جديدة، إعلانات لقروض ميسرة لمحدودي الدخل، فهي تقرض من ليس لديه المال لشراء كبش العيد، وأخرى تقرض لتبديل أثاث البيت، أو إعلان أخر لتبديل بانيو الحمام القديم بحمام آخر جاهز، أو لتجديد ديكور المنزل، وكل ذلك يدخل ضمن” ثقافة الاستهلاك” وما تنشده “الرأسمالية المتوحشة” لخلق جمهور مستهلك لما تنتجه وتسوّقه في دولنا التي هي دول فقيرة ولم تزل مستويات دخل أفرادها منخفضة، وأغلبها في حدود الفقر، وبعض شرائحها الاجتماعية تعاني من الفقر المدقع، ودخل الفرد اليومي فيها أقل من دولار واحد.

الدقيقة الواحدة

الشركات الكبيرة ووكالاتها في الدول العربية، التي وصلت إلى زبائنها عبر إعلانات التلفزيون والراديو والصحافة الورقية والإلكترونية، ابتكرت ما تسمّيه ” الإعلان المتنقل” و” الإعلان البديل” لشرائح فقيرة واسعة في الدول العربية لا تتابع الإعلانات في التلفزيون أو الإذاعة ولا شبكات الإنترنت، ومن ابتكاراتها للوصول إلى مدن الصَّفيح والعشوائيّات في المدن العربية والتي هي أكثر سكاناً بالرغم من فقرها وعدم قدرتها المالية إلا أن ميزتها الرئيسية أن الناس فيها أكثر عدداً ويمكن إغراء عدد كبير من سكانها بشراء البضائع بالدفع بالتقسيط.

والسبب في ظهور الطرائق الجديدة في الإعلان عن بضاعة ما أو خدمة معينة ما يسميه المعلنون بالإعلان المتنقل والإعلان البديل، أن وسائل الإعلان في التلفزيون والإذاعة والجرائد والإنترنت صارت غير مرغوبة لدى المعلن، فهي إما لا تصل للزبون المطلوب، أو لأنها صارت غالية الثمن على المعلن، ولذلك فهو يختار طرقاً لا تكلفه مادياً الكثير.

فقد ابتكر الوكيل الموزع لشركة ASUS المتخصصة بأجهزة الكومبيوتر المحمول على سبيل المثال، طريقة جديدة في الإعلان بواسطة “دراجات هوائية” تحمل يافطات ملصقة عليها صور منتوجات الشركة، ويقودها شباب ذهاباً ومجيئاً في أحياء المدن العشوائية والفقيرة وأسواقها ولمدة ثماني ساعات يومياً ابتداء من الساعة الثامنة والنصف صباحاً وحتى الساعة الرابعة والنصف عصراً.

قال لي أحد الدراجين الشباب في إحدى هذه القوافل في تحقيق لي للصحيفة التي أعمل فيها “كل قافلة للإعلان تتكون من ثلاث دراجات تحمل أفيشات –بوسترات- للإعلان، ونتوقف في أمكنة مزدحمة، ليشاهد الإعلان أكبر عدد من الناس، ونجيب على تساؤلاتهم، فلدينا عروض للبيع بالتقسيط المريح”.

وأكمل “ونقف أحياناً في تقاطعات الطرق، لأخذ راحة قليلة ثم نواصل سيرنا، لنغطي مسافة معينة في المدينة حددها لنا وكيل التوزيع، ولنا أيضاً ساعة نتوقف فيها عن العمل، لتناول طعام الغداء، وأجرتنا اليومية، لكل واحد منا -اثنا عشر دولاراً- ومن يعمل في الوجبة المسائية يزداد أجره إلى الضعف”.

ويبدو أن مؤلفي كتاب “المدير ذو أسلوب الدقيقة الواحدة” د. كينيث بلا نتشارد وسبنسر جونسان سيغيران رأيهما بالإعلان التلفزيوني الناجح الذي اقترحاه في الكتاب، حيث يقولان فيه “إذا أردت أن تحصل على قرض طويل لأجل شراء سيارة ينبغي ألا تشتري سيارة قصيرة الأجل!”.

أغنيات الراي

الإعلان التلفزيوني لم يعد يصل إلى الزبون المطلوب في الكثير من الدول العربية، وصار من الواجب الوصول إلى الزبائن المحتملين عبر طريق مباشر وبأجر زهيد، فقد صار الإشهار عبر التلفزيون مكلفاً للمعلن وغير اقتصادي، كما أنه لم يعد مؤثراً في الناس بعد أن تَعَدَّدت قنوات العرض العالمية، وصار المواطن العربي يبحث في قنوات أخرى غير قنوات تلفزيون بلاده.

وارتأت شركة اتصالات في مثال ثان، كسب المزيد من المشتركين في شبكة اتصالاتها بتسيير قوافل من الشباب اليافعين راجلين، وهم يرتدون ملابس خاصة بهذه الشركة في الأسواق، ويطرقون أبواب الصفيح في العشوائيات، وعند مفترقات الطرق في ضواحي المدن الكبيرة، عارضين على الساكنين كارتات الاشتراك بشركاتهم للاتصالات.

ملابس خاصة للدعاية
ملابس خاصة للدعاية

يقول محمد، وهو أحد العاملين الشباب في إحدى هذه القوافل الراجلة “إن كل واحد من زملائه يعمل لفترة دوام كامل من الثامنة والنصف وحتى الرابعة عصراً بأجرة مقطوعة قدرها عشرة دولارات للتأثير على الساكنين للانخراط في شبكة شركتنا للاتصالات”.

وكل كارت جديد يبيعه محمد يعني منخرطاً جديداً في هذه الشبكة من الاتصالات الهاتفية، وخدمة رسائل “SMS”، وتابع قائلاً “العمل ممتع مع الزميلات والزملاء، ونحن بالعمر ذاته تقريباً، ونسكن في المنطقة العشوائيّة ذاتها، ولذلك فإن المنافسة بيننا قائمة لجذب أكبر عدد من الزبائن، وهذا بالطبع يدفعنا لبذل المزيد من الجهد  لكسب المزيد من المنخرطين”.

وعلى بعد عدة كيلومترات من ذلك الموقع، قريباً من وسط المدينة، نجد نوعاً آخر من الإعلان البشري الثابت لشركة اتصالات أخرى، وهي جهة منافسة لشركتين مماثلتين تعملان في المدينة أقامت كرفاناً ثُبتت فوقه أجهزة تسجبل ضخمة، ومكرفونات تذيع أغنيات الراي الشهيرة، الراقصة، كأغنية “سي لافي” للشاب خالد و”عيشة” و”ياالرايح” يغنيها الشاب مامي، وفضيلة صحرواي، وعدد آخر من المطربات الفرنسيات.

وكل تلك الموسيقى والأغنيات تصدر من الكرفان الخشبي، الذي أقيم للإعلان قريباً من السوق الرئيسي، لجذب أكبر عدد من الزبائن للانخراط في شبكتهم للاتصالات.

ويشرف على الكشك عدد من الشابات والشباب، وقد ارتدوا ملابس خاصة بشركتهم حمراء اللون، وهي المعلن عن خدماتها، وهم في نشاط دائم يسجلون زبائن جددا كمشتركين في شركتهم.

ملابس الشيف

أحد وكلاء شركات بيع الأدوات المنزلية الكهربائية بالرباط يقول”إن تكلفة الدعاية للمنتج، والإعلان عنه تصير عبئاً على الشركات التي تقدم المنتج أو تقدم مجرد خدمة، وبالطبع ليس هذا الدافع الوحيد الذي يحركنا لاختراع وسائل مبتكرة للدعاية والإعلان عما لدينا من بضاعة، بل علينا أيضاً مراقبة فعالية وسائلنا في الدعاية، وتصحيح مساراتها طوال الوقت، ونجاح وسائلنا تحدده مقادير مبيعات منتجاتنا وخدماتنا للمستهلك”.

وأضاف “ولدينا كذلك وسائل الإنترنت للإعلان عن بضائعنا وخدماتنا، وهي في الغالب مواقع إنترنت مجانية، ومنها تبثُّ مواقع متخصّصة بالنشاط التجاري الواسع والخدمات”.

ويكمل “مؤخراً منعت الحكومة الإعلانات عن القمار، واليانصيب في جميع إذاعات وقنوات البث التلفزي الخاص والعام. وصدر تعديل قانوني نشر في الجريدة الرسمية منع هذا النوع من الإعلانات.. لذا تركزت جهود المعلنين على هذا النوع من اليانصيب على طبع إعلانات توزع باليد في بوابة أماكن اليانصيب، وسط إقبال محدود من جمهور خاص يتردد على أمكنة سحب أوراق اليانصيب، وطبعاً هم في القريب العاجل سيبتكرون طرقاً جديدة للإعلان في غير التلفزة والإذاعة، فالرأسمال وإشاعته لثقافة الاستهلاك، العامل في هذا الحقل لن يستسلم. سيقاوم ليعيش وينمو في أحلك الظروف وأصعبها”.

هي في الحقيقة “ثقافة الاستهلاك” التي لن يستسلم مروُّجوها لشتى الضغوط، وهي بالتالي ستفرض شروطها وستجعل الكثير من الناس ينفقون أكثر من مداخيلهم، مما يؤدي بالتالي إلى الاستدانة، ويتبعها عدم القدرة على التسديد، مما سيؤدي بالتالي بهم إلى أن يقعوا تحت طائلة القانون، وقد ارتفعت أعداد المسجونين في الكثير من الدول العربية بسبب عدم قدرتهم على تسديد ديونهم.

الثقافة التي تدعو إلى الاستهلاك غير المبرّر أو الزائد عن الحاجة هي أحد المتسببين في الكثير من المشاكل الاجتماعية والجرائم وارتفاع حالات الطلاق في الأسر الفقيرة وانحراف الكثيرين نحو الجريمة، لكسب المال بطرق غير مشروعة لتلبية رغبات استهلاكية غير ضرورية.

ومن يتجول في بعض المدن العربية سيرى المطاعم، ومطاعم الوجبات السريعة، وهي تقدم نوعاً آخر من الإعلان البديل عن خدماتها، فهي تعتمد على ذلك بعرض لوحات دعائية كبيرة الحجم مضيئة ليلاً في الباحات والساحات العامة أو أمام المطاعم مباشرة، إضافة إلى طبع إعلانات صغيرة غير مكلفة يوزعها شباب ارتدوا “ملابس الشيف” أمام المطاعم الكبرى لإثارة انتباه الناس وجذبهم إليها. وقد وضعوا في إعلاناتهم أسعار الوجبات التي تقدم للزبون، وحرص مصممو الإعلانات على وضع أسعار وجبات شعبية زهيدة الثمن لجذب أكبر عدد من الزبائن.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.