الإنترنت والأدمغة.. أي علاقة وأي نتائج
في عام 2010 نشر الكاتب الأميركي نيكولاس كار كتابه الموسوم بـ”السطحيات ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا؟”، وجاء في فقرة من فقراته “إن الإنترنت نظام للمقاطعة والإعاقة، كونه يستحوذ على اهتماماتنا فقط، لكي يقوم بتشتيتها” وتأكيدا على ذلك القول، فقد أظهر التصوير بالرنين المغناطيسي أن أدمغة مستخدمي الإنترنت، الذين يلاقون صعوبة في التحكم بتوقهم الشديد إلى التواصل الدائم مع الإنترنت، تتعرض لتغيرات شبيهة، كالتي ظهرت في أدمغة الأشخاص المدمنين على المسكرات والمخدرات، وفي دراسة أجريت عام 2011 نشرت نتائجها جريدة “التلغراف” البريطانية، ظهر أن الانقطاع عن الإنترنت ليوم واحد لا أكثر، قد أظهر عوارض انسحاب وانكماش جسدية وعقلية لدى بعض مستخدميه!
على عكس الاعتقاد العلمي السابق، الذي يعود إلى فترة القرن التاسع عشر، والقائل بأن هيكلية الدماغ تراتبية، أي أنها تعمل من فوق إلى تحت أو العكس، ومن خلال الدراسات العلمية، ظهر أن أجزاء وخلايا الدماغ تتفاعل على نحو شبيه للغاية بعمل وتفاعل شبكة الإنترنت، وأوضحت دراسة قام بها علماء أميركيون بأساليب حديثة في نجاحهم بالتقاط إشارات، عبر مناطق فائقة الصغر في الدماغ، مسؤولة عن أمور عدة، مثل الضغط النفسي أو الكآبة أو الشهية، قد ألقت الضوء على طبيعة تفاعلها وتواصلها.
ولأن أجهزة الكمبيوتر، تعمل بإشارات ثنائية، فذلك يعني أن المعلومات تعرض في شكل آحاد وأصفار فقط، أما الدماغ البشري فيتميز بعدة مليارات من الإرسالات الكهروكيميائية الحيوية، التي ترتبط بالأفكار والأفعال، لذا ففي حالة الرغبة في توصيل الدماغ البشري بالكمبيوتر، فلن يحتاج العلماء فقط إلى جهاز لتحويل البيانات، ولكنهم سيحتاجون إلى وسيلة بالغة الصعوبة.
ربط الأدمغة بشبكة الإنترنت!!
كان من نتائج تصغير حجم الشرائح الإلكترونية، وزيادة سعتها التخزينية بشكل كبير مع مرور الأعوام، إلى جانب حجم انتشار المعالجات والشرائح بكافة الأمور الإلكترونية، وضوح أن الإنسان بلغ درجة إيجاد التناغم بين الآلة والأدمغة البشرية، إلى درجة تسمح بربط الأدمغة بشبكة الإنترنت، وفي مدينة جوهانسبرغ عاصمة جنوب إفريقيا، نجح فريق متخصص، ولأول مرة في ربط الدماغ البشري مباشرة بالإنترنت، وهي التجربة التي أطلقوا عليها “مشروع براين نت”، حيث استخدم فريق علماء الأعصاب ونفر من الخبراء، جهاز رسم المخ الكهربائي والذي يمكنه الكشف عن الإشارات الكهربائية في الدماغ، لنقل النشاط العصبي إلى جهاز كمبيوتر “راسبيري” آخر، والذي يُعدّ في حجم البطاقة، ثم بث تيارات البيانات إلى برنامج يعمل على موقع على شبكة الإنترنت، ليسهل على أيّ شخص عرضها في أيّ وقت.
وفي بيان منسق المشروع جاء فيه “في نهاية المطاف، نحن نهدف إلى تمكين التفاعل بين المستخدم وعقله، بحيث يمكن للمستخدم تقديم حافز ورؤية الاستجابة، فهناك نقص في البيانات التي يسهل فهمها، حول كيفية عمل الدماغ البشري ومعالجة المعلومات، لذا فالمشروع الجديد يسعى إلى تبسيط فهم الشخص لمخه وأدمغة الآخرين، عن طريق الرصد المستمر لنشاط الأدمغة، وكذلك تمكين بعض التفاعل”، ومن خلال تحسين المشروع آنف الذكر، فهو قد يصبح قادرا على تصنيف التسجيلات، التي يتم الحصول عليها من خلال تطبيق على الهواتف الذكية، مما يساهم في توفير البيانات الخوارزمية للتعلم الآلي، وهو ما يعني أنه في المستقبل، يمكن أن تصبح هناك طريقة لنقل المعلومات في كلا الاتجاهين (المدخلات والمخرجات) إلى الأدمغة.
اختلالات دماغية لمدمني الإنترنت
هناك تغيرات دماغية، تحدُث لدى ما يُعرفون بـ”مدمني الإنترنت”، تشبه تلك التي تحدُث للمدمنين على المخدرات والكحوليات، ففي بحث مبدئي أجراه خبراء صينيون من “الأكاديمية الصينية للعلوم” خلال مسح طبي، على أدمغة سبعة عشر شابا من مدمني الإنترنت، ظهرت اختلالات في بعض الوظائف الدماغية لديهم، والمعلوم أن إدمان الإنترنت يجري تحديده خلال عدد من الاضطرابات الإكلينيكية، التي تجعل مستخدم الإنترنت فاقدا للسيطرة على نفسه، تبعه إجراء لنفس الخبراء الصينيين بمسح دماغي على خمسة وثلاثين شابا وفتاة، تتراوح أعمارهم بين أربعة عشر إلى واحد وعشرين عاما، حيث تم تشخيص سبع عشرة حالة منهم، تعاني من اضطرابات تتعلق بإدمان الإنترنت.
وذلك بناء على إجابتهم بقول “نعم”، على عدد من الأسئلة من أهمها هل قمت بمحاولات متكررة للتحكم في أو التوقف عن استخدام الإنترنت وفشلت في ذلك؟ وقد أظهرت الدراسة التي استخدمت ماسحات الرنين المغناطيسي على الدماغ، أن هناك تغيرات في المناطق البيضاء من المخ، لدى الأشخاص الذين تم تحديدهم بعد التشخيص على أنهم مدمنون للإنترنت، إلى جانب وجود دلائل تشير إلى وجود اضطرابات في الاتصالات الخاصة بتلك المناطق البيضاء في المخ، وهي مناطق تحتوي على الألياف العصبية، التي تربط بين أجزاء المخ المتعلقة بالعواطف، وبين اتخاذ القرار وضبط النفس.
انتحار وصعوبة في التركيز
تؤكد هنريتا باودن جونس الأخصائية النفسية في معهد إمبريال كوليدج في لندن، كونها تتولى إدارة عيادة لمعالجة مدمني الإنترنت، على أن غالبية الأشخاص الذين نراهم من الذين يعانون إدمانا شديدا للإنترنت، هم من ممارسي الألعاب الذين يقضون فترات طويلة في ألعاب متنوعة، مما تسبب في إهمال التزاماتهم، وكلما زادت ساعات استخدام الإنترنت، زادت معها مخاطر الانتحار لدى بعض الفتية في العاشرة من أعمارهم، فبعد إجراء مراجعة لأبحاث ودراسات سابقة تناولت الصبية، استنتج الباحثون في جامعة أوكسفورد ببريطانيا، أن الفترة التي يجري قضاؤها على الشبكة، تترافق مع مخاطر كبيرة للانتحار وإيذاء الذات، بين المراهقين المعرضين لذلك.
وفي تعليقه على ذلك يؤكد البروفيسور بول مونتغمري أستاذ التدخل النفسي والاجتماعي بجامعة هامبولدت بقوله “نحن لا نقصد هنا أن جميع الشباب الذين يتوجهون إلى الإنترنت، تزداد عندهم خطورة الانتحار وإيذاء الذات، بل نحن نتحدث هنا عن شباب صغار معرضين لذلك، الذين يتوجهون إلى الشبكة بالأخص لمعرفة المزيد عن إيذاء الذات، أو لأنهم شرعوا يفكرون في الانتحار من قبل”، إلى جانب احتمالية وجود إشكالات الذاكرة، فمن خلال جلسة نموذجية من التصفح بمواقع التواصل الاجتماعي، فقد تؤدّي إلى تحميل زائد في المعلومات، مما يجعل من الصعب ترتيب المعلومات وتنظيمها في الذاكرة، لأن عقول الأشخاص الذين يتعرضون إلى سيل لا ينقطع من المعلومات الإلكترونية، بدءا من الرسائل الفورية إلى المدونات، إلخ. قد يجدون صعوبة ماسة في التركيز، وعدم القيام بالتنقل من عمل إلى آخر بكفاءة.
الاعتدال يعزز وظائف الدماغ
لم يقف الأمر على ما سبق من دراسات أو تجارب، فقد ذكر موقع “بي.بي.سي”، أن باحثين في جامعة كينجز بالعاصمة البريطانية لندن، وجدوا أن التدريبات العقلية حفزت العقول على العمل، وساعدت الناس على القيام بالمهام اليومية، مثل التسوق وغير ذلك من المهام، إذ أن الاعتدال في استخدام الإنترنت، من شأنه تعزيز الوظائف الدماغية، وقد عززت دراسة في عام 2008 أعدها الدكتور جاري سمول أستاذ العلوم العصبية والسلوك البشري في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس، أن استخدام محركات البحث بالإنترنت، من شأنه تحفيز النشاط العصبي، والوظائف الدماغية لدى البالغين الكبار، وتُعدّ نتائج تلك الدراسة مشجعة لكون تقنيات الكمبيوتر التي تبرز، قد يكون لها تأثيرات نفسية، وفوائد ممكنة بالنسبة إلى متوسطي الأعمار والبالغين الكبار، وجاء في نهاية حديث الدكتور سمول قوله “إن أبحاث الإنترنت، تفرض نشاطا دماغيا معقدا، قد يُساعد على تمرين الدماغ ويُحسن وظائفه”.
وفي تجربة أطلقتها سلسلة وثائقيات “بانج جوز ذا ثيوري” العلمية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية، سجل حوالي سبعة آلاف شخص في الخمسينات من العمر للمشاركة في التجربة التي استغرقت ستة أشهر بالتمام والكمال، وشارك المواطنون في التجربة الذين سُجلوا فيها، أنه لم يسبق أن عانى أيّ منهم من إشكالات في الذاكرة أو الإدراك، وشجع الباحثون بعض المتطوعين على ممارسة ألعاب الإنترنت التي تُنمي العقل لمدة عشر دقائق في كل مرة، كلما رغبوا في ذلك، بينما طلبوا من آخرين القيام ببحث بسيط على الإنترنت، وأجرى الباحثون سلسلة من الاختبارات المعرفية المعترف بها طبيا.
ثم أعادوا الاختبارات المعرفية مرة أخرى في فترة ما بين ثلاثة وستة أشهر، لمعرفة ما إذا كان هناك أيّ فرق بين المجموعتين، ليتضح أن أولئك الذين مارسوا ألعاب الإنترنت احتفظوا بمهارات معرفية أوسع، وبشكل أفضل من أولئك الذين لم يفعلوا، إذ مارست هذه المجموعة الألعاب خمس مرات أسبوعيا، ووفقا لتقارير صحافية، فإن المجموعة التي كانت أعمار أفرادها، أكبر من ستين عاما ومارسوا تلك الألعاب، قد سجلوا درجات أفضل لتنفيذ المهام الأساسية التي يقومون بها كل يوم.