الإنسان عدوّ ما يجهل
المؤسسة النقدية تعترض على قبول الرواية البوليسية كجنس أدبي لأسباب في مقدمتها تحقيقًا لمبدأ: الإنسان عدوّ ما يجهل، فالسائد بين أعضاء المؤسسة تكرار ما يعرفون أو ما يستطيعون معرفته والأخذ من العلم بأطراف الأصابع وهو ما جعلها مؤسسة سطحية باقتدار (هذا إذا سلمنا أصلا بمفهوم المؤسسة النقدية بوصفها شخصية افتراضية لها حدودها الواضحة، فالغالب هو غياب المؤسسة بهذا المفهوم وما نعايشه ما هو إلا جهود فردية يتباين تأثيرها قدر جهدها وقدرتها على ذلك)، ثم تأتي بعدها أسباب تتعلق بجمود المؤسسة وتكلّسها واجترارها المقولات القديمة اعتمادا على العمل بعدة الناقد الجاهزة دون محاولة استكشاف النصوص ومحاورتها وقوفا على خصوصياتها والتعامل معها بمفاتيحها الخاصة وليس إجبارها على الخضوع لأدوات معدة سلفاً.
ويرجع التباس الحدود الفاصلة بين أدب الجريمة والمغامرات إلى غياب الرواية البوليسية بمعناها المعروف وهو غياب يرجع إلى عدة أسباب منها ضبابية مفهوم الرواية البوليسية لدى كتاب الرواية أنفسهم، واعتقاد الروائيين أنها جنس يستهدف التسلية بما يعني خروجًا عمّا جبلوا عليه من تضييق لمفهوم السرد، فضلًا عن سلطوية الرواية بمعناها التقليدي ممّا جعلها تفرض نفسها متجاهلة تشكيل الذائقة بما هو أوسع من مفهوم الرواية التقليدية، ومشاركة الكُتّاب في تقديم النمط المجترّ دون محاولة تطويره تحت ضغط الوهم بأن القرّاء يريدون ذلك.
يمكن القول إن الرواية من هذا النوع بوظيفتين أساسيتين: التشجيع على القراءة استثمارا لإمكانيات النوع الروائي وفي مقدمتها التشويق حيث يمكن استثمار النوع لتشجيع الشباب على القراءة في ظل عدم الإقبال عليها وهو ما ينعكس على ضعف الخيال العربي راهنا، وتشكيل ذائقة القراء عبر توسيع مساحة الذوق وتنويع مصادرها فليس كل القراء يفضلون المنتج الروائي المفروض عليهم عربيا وهو يكاد يكون قالبًا واحدًا أو مجموعة قليلة من القوالب ضيقة الأفق.
أما عن رواج هذا الجنس في الغرب فله أسبابه، ففي ظل طغيان الصورة الذي كان له تأثيره السلبي على نموّ الخيال اتجهت المؤسسة الغربية إلى الاعتماد على الأعمال ذات التأثير الإيجابي على تنمية الخيال وتوسيع أفق الأجيال وهو ما يتجلّى في مظاهر دالة مثل النسبة المرتفعة لتوزيع ألف ليلة وليلة في أوروبا وتصدّرها المستمر لقوائم التوزيع، واستثمار سلسلة هاري بوتر ورقيا وسينمائيا وتوظيفها لخدمة الخيال المستهدف تنميته، وتطور الرواية البوليسية وقدرتها على أن تحافظ على مكانتها منذ نشأتها جنسًا أدبيًا على يد إدجار ألان بو في روايته “حوادث القتل في شارع مستودع الجثث” 1841، وتطورت على يد عدد من مشاهير الكتّاب ممّن عملوا على ترسيخ مفهومها وتطويره مما كان له أثره في تشكيل الوعي بها نوعا أدبيا حقق كثيرا من النتائج في طريق تنمية الخيال ورواج النوع بين القراء حيث لم يمارس أحد الإقصاء على النوع الروائي كما حدث في الرواية العربية.
وعلى المستوى العربي، تواترت مجموعة من الأسباب التاريخية التي تشير إلى عدد من الجهات المسؤولة وعلى رأسها النقد والمؤسسة الأكاديمية وقد رسخا للمفهوم التقليدي الضيق للرواية دون محاولة توسيع المفهوم أو تطويره تغذية بروافد متنوعة، والصحافة الأدبية ضيقة الأفق في وقوفها عند ما هو مستقر دون محاولة اكتشاف كتاب جدد أو صناعتهم غير الاقتصار على ما يمكن تسميته بالكتّاب الجاهزين، فضلًا عن غياب دور المؤسسة الثقافية في التشجيع على القراءة أو التشجيع على الكتابة عبر الجوائز الأدبية النوعية تحت تأثير التفكير النمطي للمؤسسة.
من جهة أخرى، نلاحظ افتقاد الدور المؤسسي للكاتب، فالكاتب الغربي مؤسسة تفرض نفسها على المجتمع خلافا للكاتب العربي الذي يفرض عليه المجتمع ما يكتب، وهو ما يبدو جليّا في تأثير كل منهما على واقعه، كما أن المجتمع العربي المتمسك بماضيه يجعله قابضا على النوع التقليدي متجنبا ذلك الوعي المتطور، وهو ما يجعله أحادي الذائقة، أحادي التفكير غير قادر على الخروج عن النمط مهما اكتشف فيه من جمود.