الإنسان مركز الكون
الفن والعلم وجهان لعملة واحدة، بل إنهما ضرورتان متلازمتان للوصول إلى الكمال التقني في الإبداع، وهما من دلائل التقدم الحضاري للأمم ومؤشر عليه، وما من أمة تنهض دون تلك المكونات، وهذا ما نجده جليّا في فنون النهضة الأوروبية وعلومها، ونجده أيضا في الفترات الذهبية للإشعاع العربي والإسلامي، كما في الفترات الأموية والعباسية والأندلسية، ومن هنا أقيم مقاربة بين فن التصوير (الرسم) الغربي وفن الخط العربي، كنموذجين لفترات الإشعاع الحضاري لدى تلكما الثقافتين، وتتكون هذه الدراسة من سلسلة ملاحظات ومقارنات عن هذين الفنين وعن الاشتراكات والتقاطعات في الفكر الخاص بك منهما، والبحث في مرجعيات كل منهما متى يتقاربان ومتى يبتعدان.
في الجزء الأول من الدراسة عقدت مقارنة بين الرجل الفيتروفي التي قام بها ليوناردو دافنشي ودائرة الخط المنسوب للخطاط ابن مقلة (وهي رسم لدائرة وفيها تقع أو تتموضع الحروف ضمن نظام اشتقاقي مدهش لأشكال ومفاصل الحروف العربية) وفيه تتجلى العلاقة العضوية والتشريحية بين الحروف، بينما في رسم دافنشي يكون الرجل فيها هو الحروف الآدمية التي تتموضع بالدائرة على نحو يتيح القياس والمقاربة مع الرسم الأول.
حاول دافنشي إيجاد علاقة بين الإنسان والطبيعة والكون من خلال التأمل والقياس في سعي لإيجاد هندسة تثبت نظريته، وفيها يبحث عن نظام رياضي لإيجاد الشكل الأمثل لجسم الإنسان ككل، وعن علاقة الأجزاء ببعضها البعض. من هنا أتى مفهوم “النسبة الذهبية” كوحدة أساسية للقياس وإنشاء نظام علاقات معين يضبط تلك العلاقات ويحدد نسب الجمال والكمال. وهذا الإيمان بوجود تجانس وتناسب ما بين جسد الإنسان والكون دفعه إلى الاعتماد على شكلين هما أهم الأشكال الهندسية في الطبيعة ونعني بهما المربع والدائرة. فالمربع يرمز للمادية من خلال أضلاعه الأربعة التي ترمز إلى العناصر الأربعة والجهات الأربع. أما الدائرة فترمز إلى الروح وترمز إلى اللانهائية. فالمربع يرمز إلى الثبات والسكون والدائرة ترمز إلى الحركة المطلقة. وقد أخذ دافنشي رسمين لرجلين ووضعهما داخل رسم الدائرة، لكن الدائرة كانت ترمز للرجل الذي يفتح ذراعيه وساقيه، والمربع للرجل الثابت وبقيت نقطة تلاقي قطري المربع والدائرة متمثلة هي سرّة الإنسان. وهنا تنبغي المقاربة والمقابلة وأعني أن الخطاط ابن مقلة رسم الدائرة التي يشكل حرف الألف قطرها، وأخذ حروف خط الثلث (وهو أهم الخطوط العربية على الإطلاق لأن النسبة الذهبية تنطبق عليه تماما وهو الخط الذي طبق عليه ابن مقلة نظريته) لكن ابن مقلة استعان بالخط الكوفي في رسمه، أقصد بحرف الألف، بعد أن جعل شكله هندسيا منتظماً، واشتق النقطة التي أصبحت وحدة القياس. لكن نظريته التشريحية على الخط طبقها على خط الثلث، وبالتالي اعتمد الخط المربع الكوفي كرمز للثبات والمادة (وهو يقابل الرجل في المربع في دائرة دافنشي) بينما الدائرة، والتي وقعت فيها الحروف في تقاطعاتها وعلاقاتها العضوية كانت في خط الثلث، وبالتالي فهي مشتقة من الخط الروحاني واللامتناهي الحركة عكس الخط الكوفي المادي الثابت.
عند دافنشي يكون طول الذراعين ممدودتين مساوياً لطول الإنسان، وعند ابن مقلة طول حرف الألف يساوي قطر الدائرة، وبالتالي فإن طول الإنسان عند دافنشي يساوي طول حرف الألف عند الخطاط ابن مقلة.
الرجلان المتراكبان في رسم دافنشي يقابلان حرفي الألف واللام عند ابن مقلة.
عند دافنشي الدراسة كانت بمثابة كوزموغرافية للعالم المصغر، ويقصد أن الإنسان عالم مصغر تنطبق عليه الهندسة الكونية في ترابطه مع الكون، ويشبه دافنشي عمل جسم الإنسان لآلية عمل الكون:
وأفرض ذاتي بالتوهم مركزا وأبعث مني للمحيط أشعتي
فما الخط إلا السطح، والسطح لا يَرى سوى الخط والمجموع عين لنقطتي
ابن مقلة يشتغل على المجرد والروحاني، ويحاول ربطه بالإنسان، وبالتالي؛ فالإنسان عند دافنشي هو جزء من الكون ويقع تحت نظامه ضمن علاقة رياضية هندسية أساسها الدائرة ووحدتها الأساسية هي المستطيل الذي يمثل النسبة الذهبية، بينما ابن مقلة يحاول أنسنة الحرف وتطبيق ذلك عن طريق اعتماد الدائرة أساسا لتلك الهندسة، والنقطة (نقطة الحروف في الخط العربي) لها الأبعاد ذاتها في النسبة الذهبية عند الفنانين في عصر النهضة الأوروبية في فن الرسم، وفي الفن عموما.
دافنشي وابن مقلة يلتقيان عند مركزية الإنسان في الوجود، وكلاهما يعتبر الإنسان مركز الكون، مركز الدائرة ومن هنا تنطلق الهندسة والقياسات.
يحضر هنا مثال مدهش ويجمع فكرتيهما معا دفعة واحدة، وهو رسم تشريحي لحرف الألف في “كتاب النقط” لأبي عمر الداني، وفيه رسم الإنسان بطوله الكامل في وضعه الجانبي، ووضع حرف الألف من خط الثلث مقابلها، وأخذ يقارن ويطابق، إلى أن توصل إلى أن طول الحرف هو 7 إلى 8 نقاط، وهذا يقابل طول الإنسان بالنسبة إلى أبعاد الرأس في رسوم فن النهضة. أعني أن الرأس والنقطة هما وحدتا القياس لتحديد طول (وباقي أبعاد) الجسد/الحرف.
يقول المفكر والشاعر ابن عربي:
أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
هنا أجدها مصادفة بل مقاربة عجيبة بينها وبين دراسة دافنشي التي تعتبر جسد الإنسان ككوزموغرافية للعالم المصغر (الإنسان). ابن عربي يدعو الإنسان كعالم مصغر وعالم يعكس العالم الكبير.
تلتقي الهندسة الكونية والهندسة المجردة في جسد الإنسان، الأولى ترمز إلى العالم المادي، والأخرى ترمز إلى عالم الروح، وبالتالي فإن الإنسان الكامل هو من جسد وروح.
كان ليوناردو يكتب ويرسم باليد اليسرى، وكانت كتاباته مقلوبة يمكن قراءتها على المرآة، وكان ابن مقلة يكتب باليمين ثم أصبح يكتب باليد اليسرى، في النيجة كان دافنشي يكتب بنظام الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار، وكأن كتاباته هي انعكاس لكتابة ابن مقلة.
كان طول الإنسان الذكر البالغ عند ليوناردو هو أربعة أذرع أي 24 مرة من طول كف الإنسان.
أصبح ابن مقلة يكتب بـ24 نوعا من أنواع الخط العربي، وهو الذي كان يعرف الموسيقى والفلك والشعر تماما مثل ليوناردو.
نستنتج أن الإنسان هو مركز الكون عند ذينك الفنانين، وأن الإنسان هو وحدة القياس لهذا الكون، وهو بحد ذاته كون مصغر والإنسان الكامل. ومن النقطة/الرأس تنتظم هندسة اللغة والكون معا.
كل العلوم والفنون في فترة عصر النهضة الأوروبية اعتبرت أن الإنسان هو أساس الكون هندسيا وروحيا، وهذا أيضا ما حصل في فترة ابن مقلة وهي الفترة العباسية والتي تعتبر من أهم فترات الازدهار في الفن العربي والإسلامي، حيث كان المتنبي والنفّري واللغويون الكبار وعدد لا يحصى من العلماء والأطباء والمفكرين.
اذا فترة توهج في الفنون والعلوم في أوروبا وأقصد في عصر النهضة تقابلها مرة مثيلة في العهد العباسي في التاريخ العربي
في فني الرسم الأوروبي والخط العربي كانت تلك الفترة التأسيسية لعلم الجمال الرياضي والهندسة والتي كانت الركيزة لتحول هذين الفنين إلى فنون علمية أعني تلاحم الفن والعلم بغية الكمال والجمال في أوجها بل في مرحلة التأصيل.
في المراجع العربية الموثقة وهي كثيرة يعتبر ابن مقلة مهندس الخط العربي حيث يقول كتاب “صبح الأعشى” (وهو كتاب مهم عن علم الخط والكتابة): انتهت جودة الخط وتحريره إلى الوزير ابن مقلة، وهو الذي هندس الحروف وجاد تحريرها وعنه انتشر الخط في مشارق الأرض ومغاربها.
وقال عنه ياقوت الحموي إنه أوحد في الدنيا، وبالتالي دافنشي وابن مقلة كلاهما أوحد في عالمه.
وكما هي مشيئة كل فن وعلم بل مشيئة الحياة نفسها، أنه كلما اكتملت حلقة بدأت أخرى، وكلما وصل فن إلى عتبة خلق له أفقا آخر أوسع، أو أدى إلى تجاوز السابق لاجتراح تحد جديد، وفهم آخر للفن والحياة، وهكذا توالت مدارس فن الرسم أو فن التصوير، لتمر بتأويلات وتنويعات كلها تستند بشكل أو بآخر إلى النسبة الذهبية كمقياس ضمني للجسد، لكنها تضعه ضمن معادلات مختلفة، أكان ذلك في محيط اللوحة أو شكلها أو موضوعاتها، أعني مثلا التنوع في موضوعة التكوينات الفنية التقليدية، أو السياقات اللونية، أو حتى الانحرافات الطفيفة في شكل الجسد، أو الموضوعات، فها هو الباروك (تيار فني جمالي) يضع نظرية اللاّتجانس والتضخيم والمبالغات، وها هي الكلاسيكية الجديدة تدعو إلى رصانة الموضوعات وفن الروكوكو يعيد التناغم والرقة، أكان في الشكل أو في الموضوعات، لكن مع مرور الزمن حدثت ثورات على صعيد الفن التشكيلي الغربي تمردت على النسبة الذهبية، بل أطاحت بها في النهاية وخلقت توازنات جديدة شكليا وفكريا، أعني المدارس الفنية الحديثة كالتعبيرية والتكعيبية. ففي الفن الغربي بعد أن كانت الدائرة رمزاً للكمال، والنسبة الذهبية هي منطلق البناء في عملية الرسم، غادرها الفنانون، وأصبح عمل الفنانين على البعد الثالث بشكل أوضح وأكثر تفصيلا. وكان الفنانون الحديثون، ومنهم جورج براك وبابلو بيكاسو، قد ساهموا في تحطيم الأشكال المثالية وإيجاد نظريات جديدة يستند إليها البناء الفني، فعمدت التكعيبية إلى إرجاع الأشكال في الطبيعة إلى وحدات أساسية هندسية، واختصرتها بدراسة تستند إلى الخط المستقيم والخط المنحني وما ينتج بينهما، فصارت الدائرة كرة في الشكل الفراغي، والخط المستقيم أصبح عموداً، وتم إرجاع الأشكال إلى دائرة/كرة، مربع/مكعب، ومثلث/هرم، وهذه الأشكال أصبحت أساس البناء والتحليل في فن الرسم، وتتجلى في أعمال المدرسة التكعيبية، وكذلك أعمال بول سيزان وماتيس أيضاً، فهي تصبّ في هذا التيار، ومن ثم أصبح التركيز على الهدم والبناء، أقصد التفكيك وإعادة بناء الأشكال حسب النظرية التكعيبية، وهذا ينطبق أيضا على أعمال بعض النحاتين، وأعمال بيكاسو خير دليل.
بالمقابل في فن الخط جرى إرساء قواعد متنوعة على أنواع الخطوط، فتم اعتماد الدائرة والمثلث في خط الثلث، والمربع والمستطيل والدائرة في كل أنواع الخط الكوفي، والشكل البيضوي في أربعة مستويات في خط التعليق والأشكال (المعيّن، وشكل الدمعة، والشكل البيضوي في خط الديواني الجلي، وتم إنشاء نظام معقد في بناء شكل الكلمة والجملة واللوحة. ولا ننسى دوما أنها كلها تخضع لنظام القياس النقطي، قياس أبعاد كل حرف بالنقط، وحتى الكلمة والتقاءات الحروف كلها خضعت لميزان نقطي دقيق، ويجدر الذكر أن لكل خط نقطة تختلف في قياسها وأبعادها وزاوية كتابتها من خط إلى آخر، وبالتالي فكل خط يتخذ من نقطته وحدة قياس. وتم إنجاز أعمال غاية في الانسجام والتناغُم في الخط الكوفي بأنواعه، والخطوط في قصر الحمراء في غرناطة، والخطوط في قبور السعديين في مراكش، يمكن اعتبارها خير مثال على الهندسة المستندة على المربع وتولد أشكاله ضمن أنظمة دقيقة ومدروسة بعناية فائقة.
وتم اعتبار الشكل الدائري في اللوحة الخطية التقليدية في خط الثلث تحديداً أكمل الأشكال وأجملها، ولكنها أيضا أصعب الأشكال لإتمامها فنيا.
النصوص الخطية لم تكن كلها مأخوذة من النصوص المقدسة: قرآن، إنجيل، أو توراة، بل إنها تعدّتها إلى نصوص شعرية وأدبية، كما في أشعار ابن زمرّك في نصوص لوحات قصر الحمراء. ويعد الخطاط سامي أفندي أفضل من أنتج لوحات بالشكل الدائري في خط الثلث الجلي، وتعد الآن مرجعا من كلاسيكيات الخط كما لوحات “فالله خير حافظا” وغيرها. كما ويعتبر الخطاط الفنان المعاصر داوود بكتاش هو خير وريث للخطاط سامي أفندي، تحديداً في لوحته “إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه”. لكن الخطاطين المعاصرين لم يقفوا عند ذلك، فقد أنتجوا أعمالاً خطية مدهشة تستند إلى نصوص أدبية، ولا تزال حتى الآن تُنتج أعمال بهذه الصيغة، لكن بعض الفنانين ذهبوا أبعد من ذلك، فصاروا يشتغلون على ثيمة أو موضوعة، وبالتالي تحولت اللوحة الخطية الدائرية تدريجياً إلى لوحة تجريدية بحتة، وتم تحريرها من اللغة ودفعها إلى لغة الحرف الجمالية والتشكيلية، وصارت اللوحة الخطية العربية توازي اللوحة التجريدية في الفن الأوروبي، وأكثر من ذلك تم إنتاج اللوحات بالألوان، وظهر الاهتمام بالملمس والايحاء في شكل الحرف، وتم إعطاء الفضاء والفراغ قيمة أخرى، كما لوحات منصور بدوي ونجا المهداوي* وغيرهم وأصبحت هذه الأعمال توازي أعمال كاندينسكسي * (التجريدية الغنائية). ولأقف هنا عند نجا المهداوي، وهو فنان يعتمد الحرفَ بمفهومه المجرد مادته الأساس في إنتاج أعماله، وهذا الفنان اعتمد الخط القيرواني، والخط الكوفي القاجاري، وروح خط الديواني، والخط المغربي، وأعاد إنتاجها في منظومة مبتكرة، تجريدية جرافيكية مدهشة تتيح له، على الدوام، إنتاج صيغ جديدة لأشكال الحرف، أعني هنا حرف نجا الذي ينتمي بصريا وحركيا إلى شكل الحرف لكنه، لا يمثل الأصوات والحروف المتعارف عليها باللغة العربية، ولا حتى طريقة إنتاج الجمل والوحدات الخطية، لغة تجريدية بحتة هي أبجديته الخاصة، وبها استمر في إيداع الأعمال الفنية على مدى عشرات السنين، فنان عرف كيف يستخلص من الحرف إمكانات جديدة ومغايرة، والأهم أن يبتكر إبداعه الخاص، فالمتتبع لأعماله سيرى التنوع الكبير في الطرح البصري للحرف، والذي تبناه على مدى أكثر من 50 عاما، وكيف أن كل مرحلة عنده لها سماتها وتمايزها.
لأنتقل إلى أعمال الفنان المغربي محمد بستان حيث يتجلى بعد آخر لعمل لوحة الدائرة، هنا تأخذ اللوحات بعداً روحانياً يستند إلى الفكر التأملي الصوفي، بالاعتماد على تقنية مختلفة وهي تقنية الكتابة على الرق بالأحبار والألوان والأصباغ الطبيعية، وقد أخذت هذه الألوان مسحة تعبيرية روحانية، وعمد الفنان إلى كسر الدائرة في معظم تكويناته، وكأنها تفتتح علاقة الإنسان بالطبيعة أو الخالق، ولكنها أيضا تقترح علاقة جديدة بين الفضاء والكون والإنسان، حتى لكأنها صدى لتأمل الإنسان في الفضاء والمجرّة حيث يتحول الإنسان فيها إلى حرف، جرم صغير في هذا الفضاء اللامتناهي، وكأن حشود حروف لوحاته هي رموز للبشر على تنوع الأشكال والحجوم، وعلى تنوع مشارب البشر وهيئاتهم. الحرف في بعض تعريفاته هو الحافة، أو الفاصل بين عالمين، عالم التجريد وعالم الواقع، العالم الروحي والعالم المادي، ولكن الحرف أيضا هو في حدّ ذاته عالم يحتوي على صفات العالمين الروحي والمادي معا، فأصحاب الحضرة لا يقفون في الحرف، بل يعبرونه صوب المعنى الخالص.
على أن تجربة أخرى هامة هي تجربة الفنان محمد بديع البوسوني من المغرب تأخذ بعدا كونياً مدهشاً، فتتحول الحروف عنده في تركيباتها الدائرية والكروية إلى كواكب تسبح في الفضاء: وكأنها انفلتت من الهندسة ثنائية البعدين إلى ما هو أكثر من ثلاثي الأبعاد، تحول من العالم الذهني إلى المادي حيث يرسم كينونة مادية افتراضية، ولكل كتلة، أو كرة، خواص مختلفة، وكأنها تعيد تمثيل الكون في صيغ مبتكرة تستند إلى حس صوفي ومادي في الوقت نفسه، وإلى نظام هندسي دقيق وكأنه ارتسام وتقفٍّ لحركة الكواكب منظورة من عالمنا الأرضي. وتلك الأعمال أعطت الحرف العربي بعداً كونيًا متجلياً تماماً كما يقول المفكر ابن عربي “إن الحروف أمة من الأمم”.
ولا يكتفي الفنان البوسوني بأعمال ثابتة، أقصد لوحات لكنه يتجاوز ذلك إلى كل ما هو متاح ومتخيل وممكن في الفن والمادة، حيث عمل على إنتاج أعمال فراغية وأعمال aminationوأخرى ثلاثية الأبعاد، وغيرها فيديو حركية فيها الحرف وكأنه يقوم برقصات كونية في الفضاء، وكأن الفنان هنا يتمثل قول التوحيدي * “إن للحرف حركة مثل حركة الراقصين”.
يسمي الفنان التشكيلي المغربي محمد بديع أعماله بـ”شمسيات”، وهذه خير دليل على اقتناص الأفكار الكونية لعمله، فتبدو الكتل الكروية الهندسية المؤلفة من حروف وهي تسبح في الفضاء كأنها شموس وكواكب، والكون كله يقوم بالحركة/رقص، وهي تسبّح خالقها .
وهناك فنان رائد اشتغل على الحرف بشكل مدهش، وكأنه يحاكي التكعيبية بلغة الحرف العربي، ولكن بسنديه اللغوي والتشكيلي، وأعني به الفنان سامي برهان ابن حلب، والذي اشتغل على طاقة الكلمة ومآلاتها كمفتاح لمعنى كبير، أو كإشارة بعيدة لقول أو حكمة، على الرغم من ذلك فقد بقي ماسكا بزمام لوحته كعمل فريد تتحقق فيه عناصر العمل التجريدي بأمانة، ضمن هندسة روحانية فراغية أعطت للحرف بعدا جديدا.
ولعل هناك تناصا لتجربته مع تجربة الرائد محمود حماد، الذي اتخذ من الحرف بمعنييه العرفاني والتجريدي رهانا فنيا، فأنتج أعمالا رائدة كانت ملهمة للكثير من الفنانين. هناك تمايز واختلاف بين تجربتي محمود حماد وسامي برهان لكنهما يلتقيان كثيرا في البعد الصوفي والعرفاني، وكذلك في بعض الصيغ الفنية التي تعتمد القوس والدائرة من طرف والخط المتكسر والأشكال المزوية من طرف، وكل ذلك بغية خلق إيقاع حركي في أعمالهم الفنية الرائدة.
ولا ننسى أن فنانين آخرين ذهبوا بالحرف إلى مواضع أخرى، في فن النحت أو الغرافيك، والأعمال التركيبية، وهناك أيضا عدد غير محدود ممن اشتغلوا على طاقة الحرف ضمن سياقات الفن الحديث، كالاتجاه المفاهيمي أو الأعمال الرمزية وحتى الأعمال التركيبية، كأعمال منير فاطمي وللاّ سعيدي وغيرهما.
هنا ابتعد الحرف كما اللوحة عن منطلقاتهم القديمة قد مضى هؤلاء بنظرياتهم وأفكارهم الجديدة إلى معتركات أخرى، فلم تعد المرتكزات الكلاسيكية أساس إنتاج العمل الفني، بل اختطت مدارس وتيارات كثيرة، حتى ليصعب حصر عدد التيارات التي وصل بعضها إلى خط فردي، لفنان خارج التصنيف.
لكن المدهش أن المدارس انفتحت على بعضها ونتجت تيارات جديدة، وأكثر من ذلك فقد اهتم بعض الفنانين الغربيين بالحرف العربي وأنتجوا أعمالا مدهشة، مثل ماريان أماندا من ألمانيا، ونورية غارسيا من إسبانيا وغيرهما، حتى أن هناك بعض أكاديميات أوروبا أخذت تدرّس الخط العربي كما في مدينة زيورخ بسويسرا، والمدهش أن المدرسين والطلبة كلهم غربيون، ولا ننسى أن بول كلي كان ممن التقطوا الإمكانية التشكيلية للحرف العربي وهو الذي عرف القيروان. وفي الغرب هناك تيارات اعتمدت الحرف كركيزة لمناوراتها التشكيلية علامةً، أو شكلاً مجرداً، وحتى كفضاء غنائي تجريدي.
إن ما حصل، هو أن كلا الفنين، فن الرسم وفن الخط التقيا، ضمن دمجات متعددة ومتنوعة في الفن الحديث، معظمها اتخذت الحرف كعلامة سيميائية أو رمزية، أو حتى في بعدها البصري الصرف (أعمال ضياء العزاوي، جميل حمودي)، وبالتالي فإن فن الرسم في توجهاته الحداثية فتح بابا لاستخدامات الحرف/اللغة، ولعل ممن لهم الفضل بذلك التوجه، عدد من الفنانين مثل بول كلي، والألماني هوفر، وخوان، وحتى بيكاسو، ممن تفطنوا إلى الطاقة الحركية التجريدية والروحانية لهذا الفن، لا أعني استخدام الحرف العربي فحسب، بل استلهام الحرف كعلامة ذات عدة مداليل، وبالنتيجة التقى ليوناردو دافنشي مع ابن مقلة، وهما يستمعان إلى موسيقى القانون.
إن الحرف العربي، كمادة تشكيلية بصرية، وإن كان له بعد أدبي ولغوي وروحي، لكنه يستند إلى بنية تشكيلية غاية في الدقة التشريحية والغنى بصيغ وأشكال وبنيات الحروف، وأيضا هو غاية في الثراء لتنوع أشكال ومدارس الخط والتعبير، وهو يقع ضمن هندسة دقيقة وتفصيلية واسعة ما يجعل منه مادة حية قابلة للتجديد وإعادة الإنتاج والاشتقاق والتحوير، ويستوعب بالضرورة هواجس الفنان الممتلك لأدواته، ونزوعه في الخلق والابتكار والتحاور مع الواقع واستشراف المستقبل.