الإنفتي

 تيار فني أم فقاعة اقتصادية؟
الثلاثاء 2022/03/01

تفتح كل ثورة تكنولوجية الباب أمام حدود جديدة تمامًا للإبداع والابتكار، فقد جعل اختراع المطبعة الكلمة المكتوبة متاحة للعامة، بينما ربط البث الإذاعي شتى أرجاء العالم ببعضها البعض، أما الإنترنت فقد أعادت رسم حدود العالم واقتصاداته. وقد شهدت السنة الماضية، انتشار العديد من الظواهر الرقمية، من عملات افتراضية، وعالم الميتافيرس، وتقنية «الإنفتي» (NFT) التي تعتبر أحدث التوجهات التكنولوجية الحالية، وأكثرها انتشارا في العالم الافتراضي.

قبل بضعة أشهر باع الفنان الأميركي مايك وينكلمان، المعروف أيضًا باسم بيبل، صورة «إنفتي» عبارة عن «لوحة فنية رقمية» مركبة من خمسة آلاف صورة مجمعة داخل إطار واحد، بسعر قياسي بلغ 69.3 مليون دولار، وهو ثالث أعلى سعر يحققه فنان على قيد الحياة، حتى أنه يضاهي قيمة الأعمال الفنية المادية لكلود مونيه وويليم دي كونينج وبابلو بيكاسو.

تمت عملية البيع في دار كريستيز للمزادات، وقد اعتبرت الصفقة آنذاك إحدى أقوى المؤشرات على أن «الإنفتي» سوف تجتاح سوق الفن مثل العاصفة. الجدير بالذكر أنه يمكن لأيّ شخص عرضُ صورة مايك وينكلمان، ورؤيتها كاملة عبر الإنترنت، فلماذا قد يرغب، أي شخص، في إنفاق الملايين على شيء يمكن بسهولة تنزيله أو رؤيته بالمجان؟

الأصل والرؤية

«الإنفتي» اختصار لمصطلح «الرموز غير القابلة للاستبدال»، وهي عبارة عن محتوى رقمي، قد تكون صورة، لوحة، مقطع فيديو، أو حتى أغنية. ما يجعلها فريدة من نوعها مقارنة مع باقي المحتويات الرقمية على الإنترنت، هو أنه يتم تسجيلها بشكل مشفّر في قواعد بيانات لامركزية، ممّا يضمن حفظ أصلها وختمها بعلامة تشفير للأصالة، والحصول على سجل دائم لملكيتها، مما يعني أساسًا أنها تخص شخصا واحدا فقط.

يمكنك نسخ ملف «الإنفتي»، ولكن لا يمكن تزوير توقيعه الرقمي المسجل في قاعدة البيانات، الشيء الذي يتيح إمكانية شرائه وامتلاكه وأيضا إعادة بيعه كأصل رقمي. مَنَحت التقنية الفنانين وهواة جمع السلع الرقمية النادرة بعض الراحة، ويعتقد البعض أنه يمكن استخدام التكنولوجيا مستقبلا لتتبع وختم جميع أنواع البضائع الافتراضية، مثل عقود المنازل والسيارات واتفاقيات العمل والوصايا.

على الرغم من زيادة شعبيتها في الأشهر الأخيرة، إلا أن تقنية «الإنفتي» ليست بالأمر الجديد، فقد ظهرت لأول مرة سنة 2014، لكنها لم تشهد الشهرة التي تعرفها الآن حتى الربع الثاني من العام الماضي، إذْ عرفت زيادة كبيرة في نسبة التداول من بيع وشراء، حتى أن وسائل الإعلام العالمية وصفتها آنذاك بفقاعة اقتصادية ضخمة على وشك الانفجار، إلا أن التقنية استمرت في الانتشار لتعرف اهتماما أكبر من مختلف الشرائح المجتمعية، لاسيما بعد الإعلان عن انتقال فيسبوك إلى الميتافيرس في نوفمبر الماضي. وفقا للموقع الرسمي لصحيفة الـ«بي.بي.سي»، فالقيمة الإجمالية لتجارة «الإنفتي» قُدرت بنحو 40.9 مليار دولار العام الماضي، ومن المتوقع أن تبلغ 3.5 تريليون دولار بحدود سنة 2030.

مايك وينكلمان باع صورة «إنفتي» عبارة عن «لوحة فنية رقمية» مركبة من خمسة آلاف صورة مجمعة داخل إطار واحد
مايك وينكلمان

يجب ألا ننسى، أنه على مدى عقود، كافح الفنانون والموسيقيون، وغيرهم من المبدعين، ضد قرصنة أعمالهم الرقمية على الإنترنت نظرا لسهولة الأمر. مع تقنية «الإنفتي»، قد نشهد بداية عصر جديد من الحرية الإبداعية، بما تتيحه التكنولوجيا للفنانين ومنشئي المحتوى من فرص فريدة لاستثمار بضاعتهم الرقمية التي كانت رخيصة أو مجانية في السابق. تستجيب التقنية أيضًا لحاجة عالم الفن للمصادقة والمصدر في عالم رقمي لا محدود. لم يعد الفنانون مضطرين إلى الاعتماد على المعارض أو دور المزادات لبيع أعمالهم الفنية، بدلاً من ذلك، يمكن للفنان بيعها مباشرة إلى المشتري على شكل «إنفتي»، مما يتيح لهم أيضًا الاحتفاظ بمزيد من الأرباح. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للفنانين أن يحصلوا على نسبة مئوية من المبيعات كلما بيعت أعمالهم الفنية لمالك جديد، وهي ميزة أخرى قدمتها التقنية، لأن الفنانين عمومًا لا يتلقون عائدات مستقبلية بعد بيع أعمالهم الفنية لأول مرة.

هوس «الإنفتي»

مع مطلع هذه السنة، وبعدما لاقت شهرة كبيرة، صارت هذه الصور الرقمية تُصمّم وتُباع بشكل لا محدود، بعضها بملايين الدولارات، حتى من لا علاقة له بالفن والتصميم، من أناس بسطاء باحثين عن الربح السريع، أغرتهم أرقام هذا العالم الافتراضي وارتموا بحثا عن الغنى من خلف شاشات الحاسوب، فصارت هذه التقنية بمثابة «إلدورادو رقمية»، دون أن ننسى بأن الهوس المتزايد حول «الإنفتي» والقدرة على إنشاء العديد من هذه الصور بسرعة وسهولة باستخدام برامج سهلة الاستعمال، لهما نفس تأثير الإفراط في طباعة النقود: فقدان قيمتها.  فهل تستحق كل هذا المال والضجيج؟ هل هي حقا فقاعة على وشك الانفجار، أم أنها سوف تغير الفن والاستثمار مستقبلا.

هذا الجنون واللغط العالمي قد يذكرنا ما جرى، في واحدة من أكبر الفقاعات الاقتصادية والمالية في التاريخ العالمي، أو ما عُرفت بفترة «هوس التوليب»، حين ارتفعت أسعار زهور التوليب الهولندية في القرن السابع عشر، حتى وصلت قيمتها إلى مستويات مبالغ فيها، لتقترب من سعر منزل كامل. خلال تلك الحقبة، أصبح شراء زهرة التوليب وبيعها صفقة استثمارية كبيرة، مما أدى بالكثيرين إلى بيع كل ما لديهم من أجل شراء أكبر عدد ممكن من النبتة، قبل أن ينهار ثمنها بشكل كامل في فبراير 1637، مُفضية إلى إفلاس الآلاف من الأشخاص في أوروبا.

لمجرد أنك تستطيع، مثلما يفعل الجميع، شراء «الإنفتي»، فهل هذا يعني أنه يجب عليك ذلك؟ هل الأفضل الاستثمار في «الإنفتي» أم العمل الفني المادي؟ هل سيعوض الأول الثاني؟ أيهما سيكون الاستثمار الأكثر قيمة؟ بعض أعمال «الإنفتي» تجلب مبالغ كبيرة من المال، لكن ليس جميعها، كما أن قيمتها تعتمد بالكامل على ما يرغب شخص آخر في دفعه مقابل ذلك. لذلك، سيقود الطلب السعر بدلاً من المؤشرات السوقية الاقتصادية والفنية، لذا من الصعب التنبؤ بما سيحدث خلال السنوات القليلة المقبلة، كما أن أيّ شكل فني جديد أو تكنولوجيا، دائمًا ما تكون غير كاملة في طرحها، يمكن أن تحقق طفرة كبيرة، كما يمكن للناس إساءة استخدامها..

هل يتحول الفن إلى منتج استهلاكي؟

أثار ظهور هذه التقنية جدلا آخر، هل يمكننا اعتبار «الإنفتي» فنا حقا؟ ما مقدار القواسم المشتركة بينها وبين عالم الفن الكلاسيكي؟ نلاحظ أن أغلب أعمال «الإنفتي» خالية من أيّ معنى أو رسالة، قيمتها الفنية لا تتجاوز كونها صورة لشيء ما، وهو الأمر الذي يتعارض مع أخلاقيات ومفاهيم الفن التي عرفها العالم منذ الأزل، فمنذ متى لم يعد الفن متعلقا بشيء ما عدا جني الأموال؟

«الإنفتي» يُحيي الفنان، ويقتل الفن. صحيح، يمكن أن يدور العمل الإبداعي حول كسب لقمة العيش، لكن لا ينبغي أن يكون هذا هو السبب الأساسي لصناعته، يجب أن يكون الفن ناقدًا وذا مضمون ورسالة. أغلب اللوحات الفنية، تبني حكاية، تجسد روحا، أو مأساة، هذا هو هدف الفن الأول والأخير، قبل أن ينتهي به الأمر في المعارض والمزادات. المشكلة الأخلاقية لـ«لإنفتي» أنها تتجاوز كل هذا، إذ يصير الفن بهدف البيع فقط، تماما كما لو كان سلعة.

لا يمكن لأيّ تيار فني أو ثقافي المضي قدمًا في الفراغ، أو في معزل عن سياقه الاجتماعي والثقافي، فهو بحاجة إلى إشراك الفنانين والمؤرخين والفلاسفة والناشطين الاجتماعيين. إن إبداع العقل البشري المصدر الأول لتقدم الحضارة للآلاف من السنين، كان حلم الفنانين منذ لوحات الكهوف في لاسكو أن يمنحوا الناس تجربة إنسانية، أن يكون فنهم شاهدا على حقبة تاريخية، كما هو الحال مع مايكل أنجلو في عصر النهضة، أو جان ميشيل باسكيات في ثمانينات القرن الماضي. لطالما كان الفن صوت عصره ومجتمعه، مما يجعلنا نتساءل الآن، أيكون تحويل الفن إلى منتج اقتصادي هو رسالة عصرنا الحالي؟ أنتوقع إذن، في المستقبل القريب، أن نقتني الشِّعر من السوبرماركت؟ كيف سيُذكر عصرنا الحالي بعد مئة أو ألف سنة؟ ألق نظرة على الأشياء التي نصنعها اليوم، هل هذا ما نريد أن نُعرف به في المستقبل؟ هل نستحق التذكر؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.