الاستبداد المستحدث

ثقافة التضييع ومهاوي التمييع
مباصرة في النظرية الكواكبية
الثلاثاء 2020/09/01
لوحة: اسماعيل الرفاعي

مشروع فلسفي كبير كرّس عبدالرحمن الكواكبي حياته كلها له، فأنجزه أطروحةً فكريةً تقبض على المسببات وتضع المحصلات في موضوع “الاستبداد” الذي وصفه بالداء وحدد طبائعه المرضية ومصارعه التطبعية الاستعبادية، ورسم لأبعاده الخفية والجلية تصورات على وفق مفاهيم هي بمثابة علاجات ناجعة وشمولية على مختلف صعد الحياة الدينية والسياسية والتربوية والاجتماعية.

فلم يرتهن الكواكبي في تنظيره لأطروحة الاستبداد بمقتضيات تحصر نطاق هذا الداء بالعصر الذي عاشه وتقصره على النظام السياسي والاجتماعي الذي كان سائدا آنذاك؛ بل تعامل معه مفهوما عاما وداء مستعصيا لا خلاص لأيّ جيل أو مرحلة من آفات علله. وهو ما يصيِّر أطروحته عالمية، ويجعل شخصيته فلسفية تجتمع فيها صفات المفكر السياسي والمصلح الديني والناقد الاجتماعي والشيخ الداعي والقائد التربوي والمثقف الشمولي.

فكيف نظَّر الكواكبي لأطروحة الاستبداد؟ وأيّ استبداد قصد؟ ومتى عرف الإنسان الاستبداد؟ وهل كان تنظير الكواكبي للاستبداد آنيا مرهونا بمتغيرات مرحلة زمانية سياسية واقتصادية وجغرافية؟ وهل يوّرث الاستبداد ولماذا نظر له الكواكبي نظرة نسليّة بوصفه يبيض ويفرّخ؟ وإذا كان كذلك فيا ترى ما الذي تفرّخ عن الاستبداد في زماننا؟ وإذا كان للاستبداد لبوسه في كل زمان ومكان؛ فما شكل الاستبداد في عصرنا اليوم؟ وما الذي استبد ببعض قراء الكواكبي المثقفين فصاروا إسقاطيين يتصيدون وهم متطبعون بالطغيان والإجحاف؟ ولو كان الكواكبي بيننا فماذا سيقول وهو يجد فكره يقرأ قراءات ناقصة ومتشجنة تهتم بالقشر وتنبذ اللب، تتعلق بأطراف الأذيال وتترك القمم والهامات متغاضية عن الكل والأصل متمسكة بالجزء والفرع؟

إن الإلمام بأطروحة الكواكبي الفلسفية والإحاطة بحقيقة مشروعه في دراسة الاستبداد كطبائع ومصارع يقتضيان تحديد الإطار النظري الذي كان قد بدأ بكتاب “أم القرى” وفيه وضع الكواكبي قواعد انتشال الأمة من التأخر.

وليس الكتاب مجرد تأليف ارتأى الكواكبي تدوينه؛ بل هو تسجيل توثيقي لوقائع مؤتمر سرّي جرى عقده في نهايات القرن التاسع عشر في أحد البيوتات بمكة المكرمة قبيل موسم الحج وبعيدا عن أنظار السلطات العثمانية. وحضره مندوبون من مختلف بلدان العالم الإسلامي في المشرق والمغرب. وكان هدفهم إنشاء “جمعية النهضة الإسلامية” وسميت بـ”أمّ القرى”. وقد أدى الكواكبي دور المنسق المقرر والمحاور البارع الحاض على تجاوز الاختلافات المذهبية ونبذ التخالف والعمل على التقارب.

 ولأهمية هذا المؤتمر وسريته قام الكواكبي فيما بعد بتوثيق يومياته، مقدما للكتاب بخطبة وجهها إلى أهل التبصر من أبناء الأمة، مستنهضا فيهم الهمم، مبتغيا منهم أن ينفضوا عنهم سباتهم الذي جعل الشلل يستولي على كل أطراف جسم الأمة الإسلامية (ينظر: أم القرى، السيد الفراتي عبدالرحمن الكواكبي، المطبعة المصرية بالأزهر، القاهرة، 1931، ص 9) وأكد الكواكبي أهمية الأخلاق والعلم مقدما الأولى على الثاني فإذا كانت مدة حضانة العلم عشرين عاما فإن مدة حضانة الأخلاق أربعون سنة (ينظر: المصدر السابق، ص 14).

ثم ألف الكواكبي كتابه “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” وفيه أكمل تشييد البنية الاستراتيجية لنظرية الاستبداد بالاستناد على القاعدة التي أسسها كتابه “أم القرى”، ولم يكن هذا التشييد بالأمر الهيّن، بل هو خلاصة لعناء عمل طويل تعدى الثلاثين عاما من البحث والنظر والتشخيص ليقف على الغرض وهو تشخيص أصل الداء الذي وجده يتمثل في الاستبداد السياسي الذي هو “أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال.. الاستبداد عهد، أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء” (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبدالرحمن الكواكبي، تقديم أسعد السحمراني، طبعة كاملة ومنقحة، دار النفائس، بيروت، ط3، 2006، ص 105).

وما يجعل هذا العمل أطروحة فكرية هو لا محدودية نظر الكواكبي للاستبداد كاستراتيجية كليانية، لا تُعنى بحاضر آني ولا ترتهن بماض منته، غير قاصدة حكومة معينة ولا مخصوصة في شخص أو سلطان. وهذه الكليانية هي مطلب مهم من مطالب أيّ مشروع فلسفي رسالي، وهي واضحة في قول الكواكبي “أنا لا أقصد في مباحثي ظالما ولا حكومة أو أمة مخصصة إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل وتشخيص مصارع الاستعباد.. ولي هناك قصد آخر هو التنبيه لمورد الداء الدفين عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل وعسى الذين فيهم نبيه ومؤمن بالحياة يستدركون شأنهم قبل الممات” (المصدر السابق، ص 31).

 ولوعي الكواكبي بهول الاستبداد وآفاته حدد أولا الحقل العلمي الذي يشتغل فيه وهو السياسة، مبينا أنْ إذا كانت السياسة هي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة؛ فإن الاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى وأكد ثانيا أن سعة البحث في الاستبداد تجعل الإحاطة به غير ممكنة (ينظر: المصدر السابق، ص31، 34).

وكان للنظر الطويل والتفكر العميق في أحوال الدين والدنيا دور مهم في ما وقف عليه الكواكبي من صور الاعتساف وأسرار غياب الانتصاف في الحياة، ولماذا القوي يستعبد الضعيف وكيف أن جهالة الأمة والجنود المنظمة هما أهم معائب الإنسانية وأكبر مصائب الأمم التي بها تصبح حكومة الفرد الواحد مستبدة وخطرة لا تنفع معها مقاومة ولا يمكن استرداد حق منها. وبسبب ما تقدم يكون البدو وحدهم الناجين من نير الاستبداد لاستقلاليتهم عن أيّ حكومة.

وقد أفاض الكواكبي في تحديد أنواع الاستبداد فوجد أقبحها هو الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل. ولأن الاستبداد يبيض ويفرّخ، تتعاظم آفاته التي بها تتفرق الأمة لاسيما حين تكون للمستبد ألوهية وصفة قدسية تعينه على ظلم الناس باسم الله ومن الأمثلة على ذلك الجبابرة نمرود وفرعون. ثم مثّل الكواكبي على تاريخية الاستبداد؛ فبدأ باليونان الذين أحيوا عقيدة الاشتراك في الألوهية التي أخذوها عن الأشوريين ومزجوها بأساطير المصريين فكانوا أول من سلك مسلك الإصلاح السياسي عن طريق الإصلاح الديني متمكنين من إقامة جمهوريات أثينا وإسبارطة وتبعهم في ذلك الرومان. وإذا كان الطراز السياسي للحكم هو الطراز النبوي المحمدي المتمثل بالشورى؛ فإن بعض أمم الغرب اهتدت إليه مستفيدة من الإسلام أكثر مما استفاده المسلمون.

والنظر الموضوعي الذي تمتع به الكواكبي جعله يقف على أسباب تحكم الاستبداد بحياة المسلمين؛ بيد أن بعض أفكاره تبدو أميل إلى الاصلاح منه إلى الفلسفة مثل حديثه عن أسباب الإهمال وكثرة التفريع والتوسيع في الدين، ولوم النفس والتقصير المطلق وتقليد رجال الكهنوت والبراهمة والبدع التي شوشت الإيمان وشوهت الأديان وأوصلت الناس إلى الاستعباد (ينظر: المصدر السابق، ص47، 60).

ولا يتوانى الكواكبي في تشخيصه لداء الاستبداد من تأكيد أهمية العلم في طرد الجهل والغباوة والخوف، فـ”العلم قبسة من نور الله بها ترتعد فرائص المستبد” (المصدر السابق ، ص 66)، بينما تقوى شكيمة المستبد بأمرين: الأول هم العوام الذين إذا جهلوا خاضوا وإذا خاضوا استسلموا، وهم قوة المستبد، عليهم يصول ويطول. والأمر الثاني المتمجدون الذين يؤلهون المستبد فيكونون سماسرته في تغرير الأمة بدعوى خدمة الدين أو باسم الوطن والأصالة والانتساب (ينظر: المصدر السابق، ص67، 78).

ولأن الكواكبي نظر للاستبداد كأطروحة وليس كبرنامج إصلاح نجد تشخيصاته الفكرية منطبقة على كل الأزمنة بشمولية حيث آفات الاستبداد شاملة للمال والأخلاق والتربية والترقي والوظائف والصنائع والقانون، يقول الكواكبي “إن الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفراش إلى كناس الشوارع” (المصدر السابق، ص83).

وأن من العوامل التي تحمل العوام على الثورة ضد المستبد هي الأحوال المخصوصة المهيجة والفورية كمشهد دموي مؤلم/حرب مغلوبة/إهانة الدين/تضييق ومقاضاة/مجاعة أو مصيبة/التعرض للأزمات… الخ. ويجد الكواكبي أن المخرج من الاستبداد هو بثلاث قواعد:

ننن

1 –  الأمة التي لا تشعر بالاستبداد لا تستحق الحرية.

2  – الاستبداد لا يقاوم بالشدة وإنما يقاوم باللين والتدرج.

3 –  لا بد قبل مقاومة الاستبداد من تهيئة ما يستبدل به الاستبداد.

بهذا يكون كتاب “طبائع الاستبداد” درسا فكريا وأطروحة عملية في الثورة على الظالم فردا كان أو حكومة. وهذه هي سمة المثقف الشمولي والعضوي، يقول إدوارد سعيد “المثقف دائما ما يتاح له الاختيار التالي: إما أن ينحاز إلى صفوف الضعفاء والأقل تمثيلا في المجتمع ومن يعانون من النسيان أو التجاهل وإما أن ينحاز إلى صفوف الأقوياء” (المصدر السابق، ص72، 73).

الاستبداد المستحدث ثقافياً

من الطبيعي أن نتساءل بعد أكثر من مئة وعشرين عاما على وضع نظرية “الاستبداد” عن أثر فكر عبدالرحمن الكواكبي التنويري على الأنتلجنسيا العربية؟ والطريقة التي بها تعامل مثقفو القرن العشرين مع نظريته؟ هل استطاعوا البناء عليها؟ ولماذا نجد أفكار الكواكبي قبل أكثر من قرن منطبقة على حالنا اليوم؟ أ لأن الاستبداد كما وصفه داء مستعص لا يسلم منه عصر ولا جيل أم لأن عوامنا هم كمثقفينا طالهم التمجد ونسوا التحرر؟ وما الذي يحول دون أن تكون النظرية الكواكبية مدرسة فكرية لها مريدوها؟ أهو جمودها الفكري وصعوبتها التطبيقية أم أن السبب هو نحن الذين فينا أصل الداء؟

لننطلق في الإجابة عمّا تقدم من آخر تساؤل نقول إن في الذات العربية بما فيها الذات المثقفة استبداد خفي وعليها يبدو استعباد وتذلل ظاهري والمفارقة أنه متى ما صارت لها قوة أو سلطة انعكس الأمر فصار الاستبداد بادياً عليها ظاهريا وغدا الاستعباد والتذلل خفيا كتبعة استعمارية وعقدة نفسية بها تزدوج ذواتنا إسقاطاً وتعالياً.

وفي الغالب لا تظهر استبدادية المثقف إلا وهو مدعوم بمنصب حكومي أو موقع سيادي أو موال لمنظومة ما أو كيان رسمي سياسي أو مادي. أما المثقف الذي هو بلا انتماء ولا ولاء ولا دعم فمستبعد ومستعبد لا يملك الإمكانيات التي بها ينافس مثقف السلطة وحتى لو امتلك الإمكانيات فلن يكون مؤثرا في العوام الذين هم تحت رحمة السلطة وطوع بنانها على وفق الازدواجية التي ذكرناها.

فكيف بعد الدعم وإعلان الولاء يمكن لمثقف السلطة أن يكون واقفا من أطروحة الاستبداد موقفا محايدا، والأطروحة تنطبق أول ما تنطبق على الذين يدعمونه ويمنحونه القوة والإمكانية؟

هذا بالضبط ما حصل مع بعض المثقفين الذين تناولوا فكر الكواكبي، فكانوا أول المستبِدين بمُنظّر الاستبداد عبدالرحمن الكواكبي؛ إما بتجزئة فكره أو بتحجيم أطروحته أو بالانشغال بشخصيته تحرجا من الخوض في فكره، متعاملين معه مصلحا اجتماعيا علمانيا يفصل الديني عن السياسي أو واصفين إياه مجرد ناقد داعية يتقوقع على مسلمات الدين. فهل بعد هذه الطبائع من استبداد شخَّصه الكواكبي ولم يدر أنه سيكون مصروعاً به ذات يوم.

وإذا كان للاستبداد أن يبيض ويفرّخ؛ فإن في الثقافة نوعاً من الاستبداد سنسميه “الاستبداد المستحدث” وفيه يكون المستبِد في الأصل مستعبَدا لوجهة بعينها أو لمنظور معين، فلا يهمه إن هو زيّف التاريخ أو شوّه رموز الأمة وأعلامها. ولن يسعنا في هذه الورقة المقتضبة إلا أن نمثل بنموذجين نقديين لهذا الصنف من الاستبداد الأول هو عباس محمود العقاد والثاني علي حرب. فأما العقاد فتمثل استبداده المستحدث ثقافيا في مسألتين:

الأولى: أنه نسف أطروحة الكواكبي من الأساس حين عد المؤتمر السري الذي تناوله الكواكبي في كتابه “أم القرى” مجرد تخييل أدبي، فرغ من كتابته في بلدته حلب قبل هجرته منها (عبدالرحمن الكواكبي، عباس محمود العقاد، مؤسسة هنداوي للتعليم والنشر، القاهرة، 2013، ص 82).

 وفيه ألقى الكواكبي على لسان كل مندوب من مندوبي العالم الإسلامي خطابا معتمدا طريقة الحكاية وليس النقل والرواية (ينظر: المصدر السابق، ص 76).

ولم تكن للعقاد من حجج بها يثبت صحة دعواه سوى روايات نقلها عن حفيد الكواكبي وأخرى ذكرها صديق من أصدقاء الكواكبي. وهذا الادعاء مردود للأسباب الآتية:

1- لو كان المؤتمر متخيلا بالفعل؛ لكان الكواكبي مدلساً وكاذباً لا لأنه لم يقدم نفسه لقرائه أديبا أو قاصا وحسب؛ بل لأنه المعلم صاحب الرسالة والقائد المعروف بالصدق والنزاهة والجرأة والشجاعة فكيف بعد ذلك يكذب على قرائه ولا يكاشفهم بحقيقة الأمر؟

وهو الذي واجه الأهوال والمحن التي اعترضت حياته مصمما على مواصلة السير متحديا كل الصعاب متخذا من الترحال طريقا به يطارد الحقيقة مبتعدا عن الانحطاط باحثا عن الحرية حتى سمّى نفسه “الرحالة ك” مهاجرا من دياره سارحا في بلاد الشرق حتى انتهى به المطاف بمصر مركزا يغتنم ما فيه من عهد الحرية.

2- اعتماد الكواكبي على الرموز في تسجيل المحاضر في الكتاب واستعمال أسلوب النثر التوثيقي فطبيعي أولا لسرية المؤتمر وثانيا لمقصدية الأرشفة لوجه التاريخ.

3-  ما ذكره عن ذكاء الكواكبي وموهبته اللذين مكناه في كتابة مباحث يعبر فيها عن تجربة شخصية يستوحيها من مكانه وزمانه؛ كان مجرد ظن وتخمين لا أكثر وكان بإمكان العقاد أن يخمن مثلا قدوم الكواكبي للحجاز في موسم الحج وإفادته منه في عقد اجتماع يجمع فيه علماء الأمة على أمر فيه صالحها.

ثانيا: أن العقاد تغافل عن مسألة السرية والتكتم التي أكدها الكواكبي في كتابه وانشغل عنها بالتركيز لا على الأسلوب الأدبي بل أيضا بالتغاضي عن الأطروحة التي هي محور المؤتمر والمتمثلة بالداء الذي سببه التهاون في الدين واختلاف الآراء والجهل والفتور الذي لازم المسلمين قرونا حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان (ينظر: المصدر السابق، ص19، 20).

ثالثا: الانشغال غير المبرر بالتشابه بين الكواكبي والايطالي ألفييري صاحب كتاب “ما هو الاستبداد” من ناحية السيرة والمنزع وظروف الحياة متتبعا التشابه في رؤوس الموضوعات بينهما (المصدر السابق، ص92، 93).

وبالرغم من أن العقاد نفسه يعترف أن منهج الكواكبي ينطبق على حياتنا الشرقية والتعمق في أحوالها؛ فإنه يعلق على سؤال أحمد أمين كيف وصلت الرسالة الإيطالية إلى علمه تعليقا متحاملا هو صورة واضحة للاستبداد المستحدث “وهو سؤال لا جواب له غير الحيرة أن لم تكن للكواكبي وسيلة أخرى للعلم بألفييري غير العلم بلغته إلا أن هذه الشهرة لا تُستغرب مع كثرة الإيطاليين في حلب ورغبة الكواكبي في الاستفادة من معلومات أصحابه الأوروبيين المثقفين وهو كثير الاتصال بهم” (المصدر السابق، ص 93).

رابعا: لا يرى العقاد الكواكبي صاحب مذهب فلسفي والسبب برأيه أنه كان مصلحا دينيا ولم يكن في أبحاثه وتنظيراته مطلق التفكير غير محدد بزمان ومكان. وهذا التعليل مردود بما كان يمارسه أرسطو نفسه في تصوراته النظرية لمسائل فيزيقية وميتافيزيقية جامعا بين الموقف النظري والموقف التقني العملي فضلا عن مقصدية العقاد في التغافل عن مناقشة الاستبداد بالحديث عما يضاده. ولذا تكررت عنده عبارات “الحكومة الصالحة/قادة الأمة/علامات الحكومة الصالحة التي يتعذر عليها الاستبداد/النظام الصالح/السلف الصالح/صور الحكم حسنة ونافعة” مما لم يطرقه الكواكبي بتاتا.

ولو كان الكواكبي مجرد مصلح لما اتخذ من الكتابة مشروعا ولما تطبع بالترحال منهاجا ولما تصارع مع دياجير الواقع الجامد والمتحجر بأنوار الفكر الواعي بالعالم الموضوعي مواصلا العمل عاما بعد عام منتقلا من بلدة إلى أخرى حتى أتم أطروحة الاستبداد بعد عناء بحث دام ثلاثين عاما، اختمرت خلالها مباحث الداء وأصل الدواء ممثلا بكتابه “طبائع الاستبداد” وتحصيلها الحاصل “مصارع الاستعباد”.

ومما تقدم يتضح أن الاستبداد المستحدث تمثل في ترجمة العقاد لسيرة الكواكبي كمصلح ديني وليس مفكرا صاحب نظرية، مركزا على أدبية الأسلوب فحسب، صارفا أنظار القراء عن فلسفية المشروع الكواكبي.

وإذا كان العقاد قد حجّم الكواكبي في صورة المصلح الديني، فإن علي حرب ـ المثقف الثاني الذي به نمثل على الاستبداد المستحدث ـ كان قد حجّم فكر الكوكبي في صورة الشيخ الداعية من خلال:

أولا: التعتيم على أطروحة الاستبداد بالبحث في تاريخيته أولا وبتجزئته ثانيا وبالتفريق ثالثا بين الكواكبي المفكر المتنور والكواكبي الشيخ الداعية.

ثانيا: الاستعاضة عن البحث في نظرية الاستبداد بالبحث في حرية الكواكبي متوصلا إلى أن لا حرية فكرية عند الكواكبي الذي يسائل ويجادل وهو واقع أسير مسلمات عقائدية حتى أوصلته عقليته الأصولية الفقهية، كما يرى حرب، إلى “الوقوع في التكرار والخواء أو مسخ مآثر الماضين وأعمالهم أو الخروج عليها وادعاء التطابق معها أو السطو على منجزات الغربيين ونسبتها إلى الإسلام” (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، علي حرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص 78). والمتحصل أن الكواكبي شيخ أوقعه دفاعه وتبريره لمرجعيته الدينية في فخ الاستبداد.

وحجة علي حرب في التحصيل أعلاه هو منهجيته التي تقوم على “مضاعفة نص الكواكبي بالتأويل والخرق والتجاوز” متصورا أنه بهذه المنهجية يمارس دور الناقد الديني التفكيكي وهو الذي لم يمثل بنص ديني واحد للكواكبي يؤكد فيه صدق دعواه.

والمفارقة الأدهى أن هذا التحصيل الذي لا يليق بمفكر تقام لفكره مئوية احتفائية من جهة ومن جهة أخرى يستبد بفكره استبدادا مستحدثا حتى استكثر عليه حرب كما استكثر العقاد قبله وصفه بالفيلسوف أو المفكر.

ويبدو أن للاستظلال تحت غطاء دعوة رسمية أو سلطة مجتمعية دورا في جعل المثقف متعملقا، لا تجري على لسانه سوى أوصاف “التسليم والأصولية والتكرار والخواء والمسخ والسطو”.

والسؤال لماذا تجاهل علي حرب فكرة الاستبداد نفسها ولم يناقشها؟ وكيف يكون الكواكبي خاضعا للأصول والفقه وهو الذي أرهقه وأقضّ مضجعه التفكير في الاستبداد حتى وضع يده على عيوب الحكومات التي تتخذ من تأليه الآحاد ستارا به تستعبد العوام فاستنهض الهمم منورا العقول، وهو القائل “إن المستبِد فرد عاجز لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين”، وإن “الأمة ليس لها من يحك جلدها غير ظفرها ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والاهتداء والثبات” (المصدر السابق، ص 88)، وإن “المستبد.. خائن خائف محتاج لعصابة.. فهو ووزراؤه كزمرة لصوص” (المصدر السابق، ص 84).

لا شك في أن تضييع فكرة الاستبداد وتمييعها أمر متحصل للذين يريدون “أن نصنع ما لم يصنع/نعالج الاستبداد بطريقة مختلفة/كل منا يستبد بقدر ما تستبد به رغباته ونزواته”/أن نتناول الاستبداد من حيث جذوره ومصادره/ يفكر وفي عقله الباطن مشروع مستبد، شبح مستبد غيبي أو بشري” ( ينظر: المصدر السابق، ص78، 79).

والنتيجة عدم البناء على نظرية الاستبداد بما هو موجود في واقعنا الراهن من حاكمية مقيتة وشلل قدرات وتخلف وتراجع وإنما الانشغال بتتبع شواهد ذكرها الكواكبي تتعلق باليونان وفكرة التشريك وعصر الراشدين والحكومة المثالية مع تحاشي الخوض في سياقاتها بحسب ورودها في كتاب “طبائع الاستبداد”، وفي هذا تأكيد للاّرغبة في التصادم المباشر مع أطروحة الاستبداد نفسها التي ميّعها علي حرب وضيّعها مجزئا أبعادها. وقصده إثبات تراجع الكواكبي عن استقلاليته وأنه كان متصرفا بعقلية التسليم ليصل إلى المراد وهو النرجسية الثقافية المتمثلة “بانزلاقه” مشتغلا كداعية همه الدفاع عن إعجاز القران (ينظر: المصدر السابق، ص78، 84).

فلماذا عدّ حرب الدفاع عن الإسلام أصولية، والإسلام “قبل كل شيء دين وثقافة وكل من هذين مركّب من عدة عناصر وأبعد ما يكون عن الكيان الصخري الجامد” (المثقف والسلطة، إدوارد سعيد، ترجمة محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1 ،2006، ص81، 82).

وعلى أيّ أساس استند حرب في القول إن “المنطق الاصطفائي الإقصائي الاستبدادي” حمل الكواكبي “على الاعتقاد بأنه وحده من دون سواه يقبض على الحقيقة أو يملك مفاتيح الإيمان.. على هذا المستوى لا يأتي الاستبداد من الخارج بل ينبع من الداخل” (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، ص 82).

وكان حريّا بالناقد أن يناقش موضوعة الاستبداد نفسها ليتوصل إلى محصلات أكثر دقة ومقبولية، وأن يتحرى الأسئلة التي بها يقف على تجاوب طبائع الاستبداد مع المتغيرات الحياتية وهل تتبدل صورها؟ وما أمداؤها وتفرعاتها؟ وهل يمكننا ـ كما يقول هابرماس ـ “أن نتابع فهم أنفسنا كما لو كنا من يكتب.. وأن نعترف بأنفسنا أشخاصا يعملون بطريقة مستقلة” (مستقبل الطبيعة الإنسانية، يورغين هابرماس، المكتبة الشرقية، ترجمة جورج كتورة، بيروت، ط1، 2006، ص 35).

وإذا كان حرب قد اعتبر الكواكبي واقعا بين فكي كماشة عقائدية؛ فإن في ذلك إسقاطا نفسيا لحقيقة وقوعه هو بين فكي كماشة الاستبداد المستحدث متعاليا ثقافيا على القارئ ومتحاملا نقديا على المقروء.

وشتان ما بين التفكيك والتغافل كمأزق قرائي يوصل المثقف إلى الاستبداد المستحدث الذي به يكمل افتقاده إلى مرجعيات لو توفرت لكان موضوعيا، ثم أن التفكيك ليس هو الحرية السائبة والتهويمات القرائية، بها يستبد القارئ بالمقروء ناقما عليه بلا مرجعيات، بها يستنير متحريا الدقة بعيدا عن الازدواج والنرجسية.

وإذا ألحقنا بالعقاد وحرب نقادا ومثقفين آخرين استبدوا بفكر الكواكبي؛ فان المتحصل أننا أمام فيلسوف ومفكر سياسي جنت أطروحة الاستبداد عليه قبل غيره.

وما استبداد المثقفين السلطويين به سوى دليل مؤكد على صحة الأطروحة الكواكبية وأن الاستبداد يبيض ويفرّخ ليكون استبدادات بأنواع شتى.

وكان القرن العشرون قد شهد أشكالا شتى من الاستبداد، أما قرننا الحالي بعقديه الأولين فإنه يشهد صورا جديدة مستحدثة من الاستبداد. فالاستبداد الذي كان بالأمس البعيد ذا صور مقرونة بالحاكم وزبانيته أو محددة في الاستعمار وقوته أو مرهونة بالأنظمة السياسية دكتاتورية كانت أم ديمقراطية. هذا الاستبداد صار اليوم يتجلى بصورة مستحدثة ثقافية يمثلها المثقف السلطوي النخبوي الأحادي ناهيك عن صور أخرى تتجلى في الشعوب نفسها وكذلك الحكومات المتخاذلة والرجعية وأكبر صور الاستبداد وأوسعها يمثلها الاستبداد العالمي الإمبريالي. ولعل نواعم القوة السبرانية ستجعل البشرية قطعانا مستعبدة لربوتات التكنولوجيا الفائقة.

دلائل الاستبداد المستحدث

لا شك في أن ممارسة المثقف السلطوي العربي لهذه الصورة من الاستبداد تحتمي بسجف المنظومة الثقافية الرسمية التي تبارك هذا التوجه وتدعمه. وهكذا تضيع الأنتلجنسيا العربية وتتميع أهدافها واستراتيجياتها وتتهاوى مع القطعانية أو القطائعية العوامية بوجود آحاد المثقفين النخبويين السلطويين. وهو ما يحصل اليوم للأسف في مشهدنا الثقافي العربي، ومن دلائل ذلك التضييع ما يأتي:

 – القبول بالتبعية والتسليم للضعف وعدم استنهاض الإرادة الحرة في امتلاك الحق بالكرامة الإنسانية.

 – المثقف الاستبدادي عبد للمركز والسلطة، يستظل بظلهما متبركا بهما لا غيرهما .

– المثقف الاستبدادي عادة ما يكون غاشما نخبويا متسلطا تهويما حالما ناقما على ما هو مستجد وحديث واقعا في مأزق الصنمية الفكرية.

– المثقف الاستبدادي يتحرج دوما من الخوض في موضوعات تمس أول ما تمس المنظومة أو المؤسسة أو الكيان الذي يستظل بظله.

– التعملق بعقلية مؤدلجة وتهويمية لاسيما على عمالقة الفكر العربي أصحاب المشاريع الريادية والنظريات الانقلابية.

– الحداثة والاستنارة علما وفلسفة ليست في أولويات المثقف السلطوي لا لخلو فكره من أي مشروع ثقافي حسب؛ بل لأن أخاه المثقف هو الأولوية التي عليه استبدادها ومناهضتها.

– استئثار المثقف الاستبدادي بالمنابر والهيمنة على المؤتمرات عوائق تحول دون أن يمارس المثقفون غير السلطويين أدوارهم الفكرية التي تتعثر وهي لا تجد طريقها للتعريف والإعلام والترويج.

 – عرقلة إنتاج المعرفة عندنا هو أحد مبتغيات المثقف الاستبدادي أولا بنرجسية تكتله ونخبويته وثانيا بهواجس الولاء لجهة راعية تستخذله وتستعبده.

– الاصطفائية سمة الثقافة الاستبدادية التي تقف حجر عثرة أمام الاندماج والتعايش حائلة دون التحاور والتنوع والتفاعل، مشرذمة أي مشروع يراد له أن يتكامل.

– التسقيط الثقافي قربان أي استبداد مستحدث يجد النظام السياسي الذي يستظل بظله محارّبا بالثقافة ومرفوضا من قبل الأنتلجنسيا.

– مناهضة الطبيعة الإنسانية تجعل المثقف الاستبدادي باردا فكريا وهو يرى الواقع الاجتماعي منقسما إلى حكام ومحكومين.

– مكافحة الذاكرة هي أحد العناصر المهيمنة في الاستبداد المستحدث (ينظر: الأصنام الذهبية والذاكرة الأزلية، داريوش شايغان، ترجمة حيدر نجف، دار الهادي للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2007، ص 31).

– الوهم والتخريف والتزييف أحد شروط  المثقف الاستبدادي الذي ما أن تستقر تزييفاته وتخاريفه حتى تصبح من الصعب إزالتها. والهدف جعل العموم بعيدين عن التفكير، وماذا يبقى سوى إعفائهم من كل مشقة التفكير متحولين إلى قطيع من الحيوانات المرعوية المكدودة، والحكومة فوقهم الراعي. (ينظر: التشكيك في السلطة مفاهيم الليبرتارية وروادها، مجموعة باحثين، تحرير ديفيد بوز، ترجمة صلاح عبد الحق، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ط1، 2008، ص 53، 54).

ختاما.. يخطئ من يتصور أن الكواكبي أراد بأطروحته تغيير نظام بنظام أو إعطاء وصفة جاهزة من باب شخصاني يمتهن فيه أيديولوجية معينة. ولو كان الكواكبي غربيا لبجّله الغربيون ولعدوه فيلسوفا في مصاف ستيوارت ميل وبيكون وفرانز فانون وآخرين وعندها سنبجّله مترجمين وباحثين وناقلين مستنسخين لفكره.

ولا عجب في ذلك وعقدة الكولونيالية متجذرة في أذهان كتّابنا ومثقفينا الاستبداديين حتى إذا ظهر واحد منا مفكرا فلن يهتم الآخرون سوى باستبداده بشتى وسائل القمع مسفّهين طروحاته.

ولقد دلل الكواكبي في كتابه “طبائع الاستبداد” على بصيرة ثاقبة ومنهج علمي، فتعدى بذلك الوصف بالأديب أو المصلح أو المعلم أو الشيخ أو المثقف ليكون المفكر السياسي والفيلسوف صاحب المشروع الأخلاقي الرسالي، الذي غايته الاستنارة بالعلم تبصرا بالعلاج الذي به تستنهض العزائم فتثور على الاستبداد وطبائعه الأليمة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.