الاستذكارُ هِبَةُ الوقتِ والمُفردات
لا تُكتب المذكرات، دوما، للشهادة، أو لتكريم أشخاص واعتقادات ومواقف، أو لتقديم مرويات مضادة، تكتب أحيانا برغبة إثبات أن ما وقع لم يكن وهما أو حلما، و أحيانا لأنها السبيل الأمثل لتركيب وقائع متنائية، مسكونة بالمعنى الروائي، ضمن منطق حكاية تتواتر أقدارها. وكأنما لتجعل المآل أشبه ما يكون بمحصلة نثرية لا مفر منها، خاضعة فقط لقاعدة المفردات وتقديرات اللغة الناقلة ولتأويلات المجاز. وفي أحوال الكتابة المتحققة التي تحبل بالمعابر وحيث تمتزج المذكرات بالرغبة في إعادة استيعاب مآزق التعبير والفعل الممتد من مدارات الأدب والفكر إلى السياسة، فإن طفولة الكاتب قد لا تعني لنا شيئا ولا حتى يفاعته، ننتظر أن نقرأ تفاصيل تلك المرافئ والممرات التي أفضت إلى المتاريس أو إلى المنصات، للملاجئ أو المنافي، بمعنى آخر نحن حين نقرأ سيرة كاتب ممن ساهم في صياغة وعي زمن ثقافي وسياسي، فلنتعرف ليس على البراءة، وإنما على المكر الموجب، على التجربة المنطوية على كل مثالب الشراسة والعنف، ولكي يحكي لنا عن أوج ما وقع، حين كان هناك، يشحذ الحد واللسان. وحين لا نريد قول الأهم في مسار حياتنا فمن الأفضل ألا نكتب مذكرات أو سيرة ذاتية، تفاصيل الطفولة وانتكاساتها وفتنها، وتحققاتها وامتناعاتها اللعبية، قد تكون مستساغة في حالات استثنائية، كحالة اليتم أو الاضطهاد أو الإعاقة، مثلما كان شأن جبرا إبراهيم جبرا أو سلامة موسى أو طه حسين، أو في حالة اقتلاع جحيمي من الأصل والمحتد كما هو حال كل الكتاب الفلسطينيين، حيث كان الشوق إلى سيرهم شوقا إلى فلسطين وإلى وجدانيات البعد والتوق.
إنه الافتراض الذي يتأكد منذ الأسطر الأولى لمذكرات عبدالقادر الشاوي الصادرة حديثا بعنوان “التيهاء” (منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2021)، التي تنجز تأويلا مستحدثا لما علق بالذاكرة بعد متواليات نصوص سيرية تنهض كلها على مفاصل زمنية رسخت في الداخل العميق، وأعيد نسجها لملء فراغات سابقة، ولدرء امّحاء ظلال الصور العتيقة، وأيضا لتقليب بلورة وقائع بدت محايدة بعد ترقرق الزمن، وتصرّم السياقات، وربما لتصفية حساب مع الذاكرات المتقلبة ومع الوعي القديم، ومع اللغة.
تبدأ المذكرات برسالة إلى إيميليو ميسا، إسباني طفر من سديم الوقت، بعد ستة عقود من طفولة مهملة بقرية باب تازة، زامل خلالها السارد في صفوف المدرسة الابتدائية زمن الحماية الإسبانية بشمال المغرب، رسالة مجهول تشعل فتيل التذكر والتوق إلى استعادة ملامح وسجايا هاربة، وتفتح مسارات السرد على “الما بين” و”الما بعد”، تخلُّلات الذاكرة وشكوكها واستيهاماتها، وما استقر فيها من طبقات ثابتة لا يرقى لها شك، ما بين القرية الصغيرة ومن حل بها من إسبان إلى العاصمة سانتياغو زمن السفارة، وما بين صاحب “دليل العنفوان” وبيلار ضونوزو الكاتبة الشيلية، ثم ما بين الكاتب/القارئ النهم للأدب العالمية و نجم روائي هو هاروكي موراكامي. وتدريجيا تسترسل المذكرات في تقليب صفحات وجوه ومدن وتفاصيل سياسية وأدبية وذكريات طلابية، من تطوان إلى الدار البيضاء إلى عمان إلى رام الله. ومن محمود درويش إلى نزار قباني إلى جبرا إبراهيم جبرا إلى علال الفاسي وأحمد بوزفور وإبراهيم الخطيب وإدريس الملياني، ومن مجلة “الثقافة الجديدة” إلى “أنفاس” و”مواقف” و”الأقلام”.. ومن عبدالعزيز المنبهي إلى محمد بويعلى، ومن المؤتمر الثالث لاتحاد كتاب المغرب إلى انقلاب أوفقير، ووفاة الحسن الثاني، شخصيات وأمكنة وأحداث تُجتبى في مراوحة مطّردة بين الحاضر والماضي، وبين الهنا والهناك، لسبر تقلب الوعي بها، بمفردات مصقولة وجمل لا تزهد في تضمين الشكوك، عبر استدراكات متوالية، لا تخلو من نسغ نقدي أثيل، وروح دعابة غير زائفة.
ولع الاستئناف
تتألف المذكرات من خمسة وعشرين فصلا، دونما عناوين ولا أرقام، فقرات متجاورة تضم شذرات تلتمع في الذاكرة منفصلة عن بعضها في الزمن وعبر الفضاءات، لكنها تتقاطع في استنادها إلى إدراك مؤرق بمضمرات ما جرى، وعلى أيّ نحو حدث فعلا؟ وأي حقيقة يُمثّلها؟ وأيّ معنى لكل تلك التفاصيل المتداعية بعد عقود من التحولات الصاعقة والمصائر المتنائية؟ فتبدو الاستطرادات المرتابة، الحائرة والمترددة في الحسم، والمتسائلة عن حقيقة الأشياء، بمثابة رهاب تعبيري تجاه اليقين. من هنا كان الاستئناف قدر الاختيار السردي للكاتب، بحيث تتجلى الوقائع المنجمة من قرية المنشأ “باب تازة”، إلى مرحلتي الدراسة في تطوان والرباط، إلى الاشتغال بالتدريس في الدار البيضاء، والانتماء إلى اليسار الجديد فتجربة الاعتقال السياسي، وما يوازيها من تولُّعات كتابية وقرائية في فنون الرواية والشعر والفكر والسياسة، تتجلى كلها بمثابة قاعدة لاسترسال الاسترجاعات والتمثلات الذهنية، المنزاحة بفعل الزمن عن طراوتها البدائية، وتخلصها من تأثير حواضنها العاطفية والحسية التي أنبتتها تفاصيل العيش واشتراطات لحظاته وتقاطعاته مع مسارات الأصدقاء والأقارب والأباعد. في مقطع من الفصل الأخير من نص “التيهاء”، وقد مَثُل بوصفه مقدمة مؤجلة، نقرأ ما يلي “الحكايات تتحول بفعل مرور الزمن، ولا تموت في الذاكرة، وفي ذاكرات قد تموت أيضا. إنها تتحول معنا بمختلف أشكال التحول وعيناها أم لا… وإلا لما طاب لها أن ترتاح في مخزون تلك الذاكرة، إذا لم يعبث بها النسيان أو المرض الفتاك، إلى أن يأتيها الاستذكار فيوقظها (…) حكاية جديدة هي، أقصد حكايات، قد تبدو مفتعلة لأنها لم تعد أصلية في الكلام الذي أخرجها من الذاكرة وحبّرها على الورق. ولهذا وجدت أن في كتابتها ما قد يكون فيه إحياء لها وعلاج لتضخمها وتورمها على نحو سردي قد يقضي على أصلها كحكاية” (ص ص286 – 287).
هل الماضي، المختزل في التماعات أصول دارسة في الذهن، إلا أطياف معان تبحث عن تحقق؟ ذلك ما توحي به “التيهاء” حين تجعل المفردات المنتظمة في مدار التخييل، المخترق بالأوهام، منفذا وحيدا لتملك ذلك الماضي مجددا، ليس مهما أن تعيد الكتابة هنا ما جرى وإنما أن تبرزه عبر مسافة الزمن والوعي، وبما أن الأمر يتصل في النهاية بمعنى حكائي، فإنه يظل محفوفا بالتزيد الأسلوبي وبالقيم المضافة التي تهيلها التمثيلات التعبيرية على الوقائع والوجوه والسجايا والصور، لذا كان الانتقال من التذكر إلى التدوين مقرونا بجوهر روائي تكون فيه الكتابة عملا غير منته، عملا مستأنفا دوما ومحفوفا بأسئلة تتخطى حقيقة ما جرى وعلى أيّ نحو حدث، وتستحضر في المقابل سؤال: بأي صيغة يمكن أن يسرد اليوم؟
لا جرم بعد ذلك أن تتردد في مقاطع عديدة من المذكرات مراجعات شتى لصور كتاب ومناضلين ونصوص وأحداث سياسية، سبق للكاتب أن ضمنها مذكرات سابقة، وتم تركيبها مجددا ضمن اختيار سردي/استعادي مختلف، حيث الوعي يستأنف تقليب أوج حقيقة غير منتهية، ولا مستقرة على حال في الداخل العميق. الاستئناف هنا جسر بين الذاكرة والكنه التخييلي، المفتوح على التجربة الإنسانية، الجديرة بأن تروى عبر سنن نثرية، يقول المتلاشي في خلايا الذهن، ويعيد ربطه بقاعدة الأدب. وهي السمة التي تجعل المذكرات التي يكتبها الروائي والناقد والسياسي أبعد ما تكون عن مجرد تدوين مسار أو تسجيل تجربة، أستحضر هنا تحديدا ماريو فارغاس يوسا، الذي شكلت مذكراته معالم طريق في الكتابة الروائية، مثلما أستحضر فاكلاف هافل وآخرين عديدين ممن تحول استذكارهم لتفاصيل مسارهم الأدبي والسياسي إلى امتحان لكفاءة الخروج من دائرة الأحكام المتواترة إلى إعادة تشكيل الوعي بها، وسبر قدرتها على الصمود وإنتاج الأثر.
تأويلات النسيان
ولأن المذكرات، بحسب منظور السارد، واعتقاده، تولع بالاستئناف، فهي حيز مثالي لتشكيل الاحتمالات، والمتاهات السردية، التي قد لا تفضي إلى محصلة، بقدر ما تستهدف تأويل النسيان، ولعل هذا النهج هو ما نحا بمبنى السرد إلى أن يتجلى بوصفه استذكارا وتبيينا لمتاهات الاستعادة؛ تصويرا وتحليلا في آن، ونسجا لتماثلات تستدعي الأشباه والنظار في عوالم الكتابة، تصل بين الكائن المسكون بالرومنيسك وتحققات التعبير الروائي، ذلك ما نجده حين ينتقل صوت الذات من إدراكها لحقيقة مصيرها الخاص، إلى تأويل مغزى الانتشار في الحديث عن هاروكي موراكامي، وكيف يتقاطع معه في الوجود خارج الأمكنة الأصلية، وفي هواية الركض، وفي ازدراء الوقار الزائف، وتبجيل الهجانة والوجود البرزخي لينتقل الخطاب تدريجيا إلى تخييل أثر هذا المثال الروائي في توجيه قراءات السارد، لـ”مشيما” و “كواباطا” و”بانانا يوشيموطو” إلى التوغل في مجاهل الثقافة اليابانية القصية. وسرعان ما تتداخل على نحو مباغت أصوات آخرين مقتبسين لتمثيل موراكامي، الشبيه الغريب، والمولّد لالتباسات دون حد. وهي المساحات التحليلية التي تنقل التذكر من الوقائع إلى الخطاب والصور الذهنية والمعاني، التي تجعل النسيان قاعدة للتأويل ومفارقة تكلسات الزمن والأحداث والشخوص، في أفق قول ما يثقل الذاكرة الأخرى خزان النصوص والصور والتخاييل.
في الفصل الثاني من المذكرات، نقف على مثال بديع لهذا الانتقال من مكابدة التذكر واعتصار الذهن لتمييز ملامح إميليو ميسا (زميل الدراسة في باب تازة زمن الحماية) إلى الحديث عن سيرة الكاتبة الشيلية بيلار ضونوزو، وما حفلت به من كشف صاعق لتفاصيل عائلية موجعة. يضع السارد عتبة تخييلية لتسويغ هذا الانتقال من صورة شمسية قديمة لتلاميذ الفصل أرسلها “إيميليو”، إلى متاهة كتاب ضونوزو، عبر حلم يرى فيه السارد نفسه يجالس الكاتبة ليروي لها تمنعات شظايا الأثر القديم على اللّمْلَمَة، يقول “رأيت في منامي أنني أروي هذه الواقعة لـPilar Donoso ونحن نحتسي القهوة، التي دون سكر، في الفيراندا ببيتها في (لاراينا). لم تستجب، فيما بدا لي، لروايتي لما فيها من قدم وغرابة أولا، وما فيها من عواطف وتاريخ وأحاسيس استثنائية طاغية لم يسبق للكثيرين أن أحسوا بها ولا شعروا بوخزها في ذاكرتهم ثانيا. وستون سنة وأنا الحامل والمحمول، وإميليو ميسا، ومختلف التداعيات المتفاعلة في الوجدان وفي الذاكرة” (ص19). كل هذا في معبر رؤيوي تلتبس حقيقة وجوده وتمثله لظلال الماضي مع كاتبة يبدو أنه جالسها بالقعل بعد ذلك، ليعوض الحديث عن كتابها السيري شروحات معقدة عن تيهان صورة وجه قديم في ذاكرة الطفولة، وشيئا فشيئا يتداخل تأويل النسيان مع صيغة تبيين سردي كل ما فيها يحيل على بلاغة الرواية.
حتى لا يرسخ الوهم
والظاهر أن نزعة “الروائية” تتخذ لها تجليات شتى في فصول المذكرات ومقاطعها، إذ ثمة صورة لبطل مؤرّق بوقائع وشخوص وأزمنة وفضاءات متوالية، يبدو عبر تمثيلاته المتساندة، والمتنائية في آن، أنه صوت مختلق شأنه شأن فضاءات وشخصيات مختلفة تنأى عن مجرد كونها كيانات تاريخية، إذ تبرز في الغالب الأعم عبر وجهها الخفي أو المفارق أوالمناقض للتوقع؛ مع ربطها بامتداد تخييلي لا يخلو من مضمر درامي، وثمة أيضا الحوارات الداخلية الممتدة، وأحلام اليقظة، والمشاهد المفعمة توتّرا، كل ذلك حتى لا يرسخ وهم لدى القارئ، بأنها مجرد استعادات لشبكة وقائع، هي بالأحرى تأمل في لعبة الاستعادة ذاتها وإعمال للنظر في جدواها، وما الذي من المحتمل أن تفضي إليه غير الحقيقة؟ (في النهاية أيّ حقيقة ممكنة في تقديم حكايات؟ إلا حقيقة النثر الحامل لها). إنه المعنى الذي لا يفتأ السارد ينجمه عبر مختلف صفحات “التيهاء”، بالرغم مما قد يوهم به إيقاع الاستذكار بدءا من الفصل الرابع من استسلام لضغوط تفاصيل ما جرى، حين يشرع مع مشهد العودة إلى كلية الآداب بالرباط، لتقديم رواية “بستان السيدة”، في ربط الممر الرئيسي والقاعات ومقر العمادة بسنوات الدراسة والعمل الطلابي بمعاشرة أسماء ورموز تمتد من محمد عزيز الحبابي إلى المشتري بلعباس… لتتداعى بعدها الفصول النقدية والتأريخية والساخرة والهجائية أحيانا لجيل ومعتقدات فكرية وتولع أدبي، وتعلق بالحياة دوما، ومصادقة لبقاع الأرض المتنائية. ومن غير أن يفسد ذلك الرهان المؤسس على كون ما يقال هو احتمال تخييلي ومجاهدة لتقليب بلورة الزمن، إنه المغزى الذي توجزه فقرة من الفصل السابع عشر، تقول “حتى عندما وجدتني، في المحاولة المربكة والمضنية، أريد استعادة ماض أتخيله أكثر مما أصوغه، وأراه يصوغني بدوره عندما يغالبني ويغلبني الشوق ولا أستطيع التغلب على النسيان. وفي هذه الحلقة اللولبية الملأى بالمصادفات والاستيهامات والترددات، حيث لا يبين مصير ولا موقف ولا اختيار، وحيث أنت والذاكرة فارغان أجوفان سيان، وحيث اعتصر المصير فلا يقطر حنينا، وحيث الوقائع بدون أجنحة ولا ريش، وحيث أنت باهت… وما شئت، فلا أجد ما يسعفني على التذكر. هنا يكون الخيال زادا” (ص 217).
تركيب
غالبا ما تبدو الكتابة عن الذات مسعى لتمثّل الماضي، من أفق الوعي باكتمال المسير أو قربه من مدارات الأفول. تأمل في تجارب لم تمض حتى نهاياتها، وأخرى لم تفسح لها مجريات الحياة الضيقة مساحة للإيناع؛ و برغبة الإفضاء التطهري بحجم الخسائر والسعي لمجاوزة فجوات القساوة واليأس، وربما لإبهار الآخرين بإيقاع نجاح استثنائي، بيد أن تلك الكتابات أيضا تنطوي في العمق، جميعها، على مساحات مواجهة مع الخوف المتأصل من الغياب الموشك. وتشبث صامت بما تبقى من مرافئ العمر. وبالسعي إلى استعادة عوالم منتهية، وقيم التبست بالذاكرة، وعواطف ولدتها سياقات مفقودة، وهو الافتراض الذي تتجلى عبره التخاييل الذاتية ذات الجوهر الروائي بما هي تحايل على الذكريات وامتحان للحنين ووعي بالمعابر والتبدلات. وبقدر ما يبدو هذا التأويل متصلا بالمرجع البعيد في الروايات ذات السند الفنطازي ملتبس الحدود، فإن استعادة الأصول في النصوص التي تقرن الوجود الذاتي بالمعنى الروائي، تتجلى بوصفها علة للحكي، ومحركا للصوغ الأسلوبي، ومقصدا لجدلية الشخوص والفضاءات والمشاهد والأزمنة، ذلك هو الدرس الذي تعلمنا إياه تمثلات “التيهاء”، والذي يعيد صياغته عبدالقادر شاوي مجددا لإعادة تملُّك أزمنة وسياقات ووجوه ولتعريتها أيضا، إنما في كل الأحوال لتجبيل لعبة الاستذكار ورهنها بقَدَر الوقت والمفردات.