الاستشراق الموارب

الخميس 2021/04/01
عبقرية غير متناهية

لو سألني أحدهم عن مستشرق يلفت نظري أكثر من سواه لأجبته بلا تردد، إنه ريتشارد بيرتون (1821 – 1890). فهذا الرحالة واللغوي وعالم الأنثروبولوجيا ومترجم النص الكامل لألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية، مدفون في قبر مصمم على شكل خيمة حجرية صلدة أمرّ به كلما عبرت شارعا في منطقة ‘مورتليك’ بالعاصمة البريطانية. وقد نقش عليها بيت المتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفني…”.

ولعل من أهم السير التي كتبت عنه، كتاب ألفه فرانك ماكلين بعنوان “بيرتون: ثلج على الصحراء”. وأعتقد أن هذا العنوان المستمد من ترجمة إدوارد فيتزجيرالد الشهيرة لرباعيات عمر الخيام، يصلح لوصف هذا المستشرق بـ”البدوي الإنجليزي النبيل”.

والواقع أن حياة بيرتون لا تقل أهمية عن كتاباته وترجماته التي اشتملت بالإضافة إلى ألف ليلة وليلة على كتب سجالية يشكك البعض بقيمتها ككتاب “الروض العاطر” للشيخ النفزاوي. فقد كان شاعرا وعالما لغويا ومقاتلا ومنقبا عن الآثار ودارسا للأنثروبولوجيا (علم الإناسة). كما أنه مكتشف بحيرة “طنجانيقا” وأحد المسهمين في رحلة البحث عن منابع النيل. وقد قام بزيارات عديدة للشرق الأوسط وعمل قنصلا لبريطانيا في دمشق. ولعل من المفارقات اللافتة في حياته أن اهتمامه بدراسة علم الجنس sexology سبق كلا من فرويد وهافيلوك إليس. ومع ذلك تزوج امرأة كاثوليكية شديدة التدين. كما عرف عنه كرهه للنساء والسود والاشتراكيين واليهود. لقد كان مجموعة متناقضة تجعله بحق أحد أبرز شخصيات العصر الفكتوري.

ولعل تأثير رحلته إلى الجزيرة العربية يوضح إلى حد كبير الأسباب التي جعلته في رأي بعض كتاب سيرته، شديد الحماسة للعرب والأعراب معا. فقد رأى أن النقد الذي كان الأوروبيون يوجهونه للعرب في القرن التاسع عشر هو من النوع السطحي الذي جاء به رحالة مغامرون لم يحتكوا إلا بالنماذج غير السوية التي تعيش في المدن والحواضر على وجه الخصوص.

أما البدو الذين اعتبرهم من صنف النبلاء، فإنه يكن لهم إعجابا لا حدود له. فأخلاق البدوي كما يصفها: “حرة وبسيطة تجمع بين الخشونة والرقة.. وأما أعشاب الحضارة السامة فهي مجهولة من قبل أهل الصحراء”. ولم يغير بيرتون هذا الرأي بشكل جدري على مدى الثلاثين سنة التي كانت له خلالها علاقات مع العالم العربي.

أما الجانب الآخر من شخصية العربي أو قل سجاياه التي  أعجب بها من خلال عرب القرن التاسع عشر الذين احتك بهم فهو استخفافهم بالعالم المادي، وهو استخفاف رأى أنه يتجلى في شعرهم وفي كتابات المتصوفة الذين كانوا يحتقرون الحياة اليومية ويدركون خواءها وهشاشتها.

وقد جاء تي.إي. لورنس في ما بعد، فاعتبر أن هذه الخصيصة تمثل أحد المفاتيح التي يمكن بواسطتها ولوج الثقافة العربية وفهمها وتقييمها.

ويتساءل مؤلف الكتاب، في هذا السياق بالذات، عن الأسباب التي حالت دونه وهو العاشق المتيم بكل ما هو عربي، ودون اعتناق الإسلام بكليته.. يقول “هل أعتنق الإسلام؟.. لقد قيل في بعض الأحيان أن بيرتون كان مسلما. ومن المؤكد أن المسلمين لم يظهروا عداءهم لهم بعد أن قام بالحج سرا. وبدلا من ذلك فإنه كلما ظهر الحاج عبدالله في منطقة إسلامية، كان المؤمنون يحيونه على أنه واحد منهم”.

فما حقيقة اعتناق مترجم ألف ليلة وليلة للإسلام؟

Thumbnail

يرى مؤلف “ثلج على الصحراء” أن الحقيقة تكمن في ما قاله أحد كتاب سيرة بيرتون المبكرين واصفا شخصيته على النحو التالي “لقد كان مزيجا من اللاأدري والمؤمن بالله دون التعلق بتفاصيل الديانات المنزلة أو التصوف الشرقي”. بل إن المؤلف يرى في موقف بيرتون والتزامه بالإسلام نزوعا عاطفيا قبل أن يكون عقلانيا.

غير أن هذا الحكم يقدمه كاتب السيرة دون أدلة كافية، وهو يسارع إلى التأكيد على أنه “كان بلا جدال أشد تعاطفا مع الإسلام بكثير منه مع المسيحية.. منافسته كدين عالمي”. وأكثر من ذلك فإن كتابات بيرتون عن الأدب والثقافة العربيين كانت على حد تعبير المؤلف: “مفعمة بالملاحظات السلبية تجاه المسيحية.. وقد اعترض تحديدا على فكرة الخطيئة الأصلية وكراهية الجسد. فمنذ القرن الرابع للميلاد والمفكرون الذين درسوا اللاهوت المسيحي يحطون من شأن الإنسان بشكل منهجي.. ويضعون الملائكة في منزلة تفوق البشر. كما أن نخبة من رجال الدين أصبحت تفصل بين الفرد وبين الله”.

ولكن كيف ينظر بيرتون إلى المرأة؟

لقد كان محافظا في نظرته إلى النساء. ويعتقد مؤلف الكتاب أن قبوله شبه الكامل بوجهة النظر الإسلامية تجاه المرأة مؤشر منهم على شخصيته الداخلية كرجل. بل إن دلالة هذا القبول تنطوي على مغزى يزداد وضوحا عندما يتأمل المرء في حياته الخاصة. ففي القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لم يكن اعتناقه لوجهة النظر العربية (هكذا يصفها المؤلف الذي يستعمل الصفة كرديف للإسلامية) تجاه المرأة وإنما ادعاؤه بأنه المستعرب الحقيقي الذي يفهم العرب بالمقارنة مع ادعاءات رحالة ودارسين بريطانيين آخرين من أمثال بلنتن ودوتي وبلغريف هو المسألة التي كانت تمثل جوهر النقاش الذي دار آنذاك.

وهكذا يلاحظ فرانك ماكلين أن بيرتون هو النقيض الكامل لبلنت الذي كان مؤيدا للفكرة الوطنية العربية ومدافعا عن عرابي باشا.

واعتبر أن انتصار كيتشنر في أم درمان بمثابة انتصار في مجزرة. كما أنه اتهم اللورد كرومر بارتكاب مذابح وجرائم حرب خلال حكمه لمصر الذي امتد قرابة ربع قرن.

أما بيرتون فقد كان على الرغم من ولعه بالعرب وحبه لهم (إمبرياليا بريطانيا) على حد وصف مؤلف سيرته. وهو يروي وقائع لقاء طريف بين بيرتون وبين الرحالة البريطاني بلغريف، يشير فيه تحديدا إلى أن الرجلين لم ينسجما في ذلك اللقاء. ولم يتردد بيرتون في وصف غريمه في ما بعد بأنه نصاب ودعي. وقد ارتد بلغريف عن الأنجليكانية إلى الكاثوليكية ثم صار من الجزويت ليصبح قنصلا. ولهذا فكتابه “وقائع رحلة العام عبر شرقي الجزيرة العربية ووسطها” الذي كتبه في عامي 1862 و1863 كان مفعما بروح الكراهية تجاه الإسلام وسكان البادية.

هذا التطرف جعل مراجعي الكتاب البريطانيين أنفسهم يتهمونه بالتعصب وضيق الأفق.

دفاع عن العرب

----

إذن ليس من المستغرب إطلاقا أن يشن بلغريف في كتابه الأنف الذكر، حملة شعواء على ريتشارد بيرتون الذي يصفه بقوله إنه “نصف رومانسي”.

غير أن بيرتون لم يكن من النوع الذي يصمت على إهانة. وقد سارع إلى شن هجوم مضاد قال فيه “هذا الهجاء يأتي من رحالة ولد بروتستانتيا متحدرا من أصول يهودية.. ولم يلبث أن أقسم يمين الولاء للجزويت فأصبح مبشرا منشقا على أفكاره السابقة. إن الشيطان بعينه يبشر ضد الخطيئة”.

وفي سياق آخر يورد مؤلف السيرة أن بيرتون استشاط غضبا إلى حد أنه كان يردد في مجالسه الخاصة أن نزعة بلغريف المناهضة للعرب تعود في حقيقتها إلى حادث اعتداء يزعم أن الآغا خان حسن علي، نال به من رجولته، بعد أن أغضبته نزعة التبشير الجارفة إلى حد الجنون.

أما لورنس العرب فإن عداءه لبيرتون لم يكن من النوع الذي يثير الاستغراب (على حد تعبير المؤلف)، فلورنس لم يكن مهتما بالنساء العربيات وعاداتهن، وهو موضوع يكتب عنه بيرتون بإسهاب.

لقد كان ولع بيرتون بالعالم العربي ولع أستاذ باحث ومعلم عظيم، ملاحظ يتفحص المشهد عن كثب، متمرس بأسرار اللغة، وعالم أنثروبولوجيا عبقري. لم يكن مهتما بالعرب على صعيد شخصي وهو الصعيد الذي شغل لورنس. كما أنه لم يكن هناك “الأمير فيصل” و”عودة” في كتاباته عنهم، بل إنه لم يكن مأخوذا بالعرب كما هو لورنس الذي خاب أمله بعد النتائج الكارثية التي انتهى إليها في نهاية حياته العملية.

وتظل عبقرية بيرتون المستعرب، هي التي زودت إنكلترا العصر الفيكتوري بأكمل صورها عن العالم العربي من الداخل. فهو نفسه الذي اخترع أسطورة شعرية لحاضرة كاملة تمسك بها خلال سلسلة من الهزات اللاحقة التي عصفت بحياته الخاصة.

ولعل الفصل الذي يورده المؤلف عن الفترة التي قضاها بيرتون في دمشق قنصلا لبريطانيا، لا يعادله من حيث معرفته باللغة والثقافة العربية أيّ مستعرب آخر في القرن التاسع عشر، أن يكون من أشد فصول هذه السيرة إثارة للانتباه. ذلك أنه يؤرخ فيه لعلاقة بيرتون بالأسر السورية واللبنانية ويكشف عن جانب من خلفيات الصراعات الطائفية التي كانت ناشبة آنذاك. وهو يشير تحديدا إلى الفتنة الطائفية التي نشبت في عام 1860 فيقول إنه في السادس والعشرين من أغسطس (آب) من ذلك العام وصل إلى مقر إقامة بيرتون في مصيف بلودان السوري رسول يحمل أخبار المذبحة التي تعرض لها النصارى في دمشق.

فقد حاول بعض الدائنين الكاثوليك أن يحصّلوا ديونا لهم على بعض المدينين المسلمين، فتعرضوا للضرب. وعندما زج بالمعتدين في السجن هدد بعض المسلمين بإثارة الاضطرابات مطالبين بإطلاق سراحهم. ولم تلبث هذه الحادثة (حسب رواية بيرتون) أن تفاقمت عندما تم القبض على خادمين عربيين كانا يعملان في خدمة أخوين يهوديين من عائلة دونمبرغ وهما ينقشان علامة الصليب على حائط أحد المساجد. وقد استنتج بيرتون من ذلك أن اليهود كانوا يحاولون إثارة العداوات – على طريقتهم- بين الدينين الرئيسيين، أي الإسلام والنصرانية. بل أوضح في أحد كتبه بصراحة أنه لم يفقد أيّ يهودي حياته خلال مذبحة 1860، كما أن اليهود كسبوا أموالا طائلة من عمليات النهب التي تعرضت لها بعض الأسر المسيحية آنذاك.

وقد استمرت إقامة ريتشارد بيرتون في دمشق مدة عامين، إلا أن كتاب “ثلج على الصحراء” يبرهن على أن هذه الفترة بالذات ربما كانت تستحق دراسة منفصلة يتم فيها استثمار مئات الصفحات التي كتبها وكذلك الوثائق التي تؤرخ لمرحلة شديدة الأهمية من تاريخ الوعي العربي بالهوية المنفصلة على مشارف القرن العشرين.

----

الاستشراق، بحسب هذا العرض، يقدم إضافة للقارئ وتجربة مختلفة إلى هذا الحد أو ذاك، عن الاستشراق سلبيا كان أم إيجابيا. ولهذا لا أملك بعد قراءتي لريتشارد بيرتون وتحديقي في تجربته الفريدة من حيث الكم والنوع، سوى تعليق الحكم أي إرجاء الحسم. وإذا طلب مني تسمية هذا الضرب من الاستشراق فلن أجد سوى القول إنه استشراق موارب. وإذا فهم ذلك على غير معناه، أوضح فأقول إنني أعني بالمواربة شدة الاختلاف والخروج عن المألوف (Quirkiness).

في كل حال ربما تتعذر الكتابة عن بيرتون إلا من خلال البحث في موقعه من العصر الفكتوري. ولم تكتسب هذه الصفة شرعيتها كمصطلح أدبي يشمل إنجازات العلوم الإنسانية التي ظهرت خلاله إلا في عام 1870. ونسبة الفكتوري تتصل كما هو متوقع بفترة حكم الملكة فكتوريا بدءا من عام 1837 حتى عام 1901.

وكان ظهور الدراسات المعمقة التي تنتقد الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد) أحد أبرز معالم تلك الفترة. وقد تزامن ذلك مع ظهور كتاب دارون “نشوء الأنواع” في عام 1859. كما تزامن مع حركات الاحتجاج ضد ظاهرة الفقر المدقع التي لازمت الثورة الصناعية، فضلا عن المطالبة بحقوق المرأة. وهذه الأحداث يمكن اعتبارها بمثابة الإطار الاجتماعي والثقافي للتوسع الجغرافي للإمبراطورية البريطانية. ومن أبرز كتّاب العصر الفكتوري، تشارلز ديكنز وإيملي وشارلوت برونتي، وجورج إليوت، وتوماس هاردي، وثاكري، فضلا عن الشعراء تينسون وبراوننغ وجيرالد فانلي هوبكنز، والنقاد والأدباء ماثيو أرنولد ووالتر باتر وجون رسكن وتوماس كارلايل وأوسكار وايلد.

وقد سبق العصر الفكتوري وفاة شعراء الرومانسية الكبار: كتس (1821)، شيللي (1822) وبايرون (1824) قبل بلوغهم منتصف العمر.

ولكن بيرتون الرحالة واللغوي وعالم الأنثروبولوجيا ومترجم النص الكامل لألف ليلة وليلة ينتمي إلى طراز آخر من شخصيات العصر الفكتوري. ولد بيرتون في هرتفورد شاير ودرس العربية في أكسفورد والهندية في لندن والفارسية على أساتذة مسلمين. وفي عام 1853 زار القاهرة والسويس واستقل سفينة إلى ينبع والمدينة ومكة، ثم عاد إلى إنكلترا ومنها إلى أفريقيا الشرقية والحبشة متنكرا بزي تاجر عبيد فأصابته حربة في فكه الأسفل. وفي عام 1858 اكتشف بحيرة تنجانيقا في محاولته اكتشاف منابع نهر النيل. وقد عين قنصلا في البرازيل ثم نقل إلى دمشق (1869).

وعندما أشرف وزوجته إيزابيل أرنديل على دمشق وبدت لهما غوطتها واستنشقا فيها رائحة البرتقال كتب بيرتون فيها القصيدة التالية:

“ما أجملك يا دمشق،

أنت قديمة قدم التاريخ

ندية كأنفاس الربيع

متفتحة كالبراعم

فواحة كالورود

عبقة برائحة زهر البرتقال

ما أجملك يا دمشق

يا لؤلؤة الشرق”.

في دمشق عرف القنصل بيرتون باسم الحاج عبدالله، وكان من أقرب أصدقائه الأمير عبدالقادر الجزائري الذي اختار دمشق مقرا له. كان الأمير في الرابعة والستين يوم حل بيرتون في دمشق. وهناك لبس الملابس العربية وكان بيته ملتقى وجوه القوم وشيوخ العشائر.

وتشير المصادر إلى أنه اكتسب آنذاك عداوة الكثيرين من بني قومه لاعتقادهم أنه مغرور وبه مس من الجنون، بينما هاجمه المبشرون لأنهم اعتبروا أنه يقضي ساعات في مساجد المسلمين، فضلا عن أنه منعهم من توزيع النشرات التبشيرية، وحال بينهم وبين الدخول في جدل مع المسلمين حول الدين. فقد كان يخشى أن تحدث مجازر تعيد للأذهان فتنة عام 1860. ولكن المبشرين سرعان ما نقلوا احتجاجاتهم إلى جمعياتهم في بريطانيا يشكون هذا القنصل الذي يقف في وجه نشاطهم التبشيري.

وفي آخر أيامه منحته الملكة فكتوريا لقب سير تقديرا لجهوده في البحث والاكتشاف. كما منحته الأكاديمية الملكية الجغرافية ميداليتها الذهبية. ويمكن لزائر متحف الشمع بلندن أن يشاهد تمثالا له بملابسه التي حج بها إلى مكة.

والواقع أن أهمية بيرتون اليوم لا تكمن بالنسبة إليّ في مدونته الاعتقادية بقدر ما تكمن في بعض تفاصيلها. التفاصيل هنا تنتمي إلى البصيرة أكثر مما تنتمي إلى الباصرة. وكما يشير روبرت إروين أحد أبرز دارسي ألف ليلة وليلة فقد صار من قبيل الدُّرجة (الموضة) في السنوات الأخيرة، مناقشة نتاج بيرتون المؤلف وكأنه ناطق باسم العصر الفكتوري في بريطانيا. ولكن هذا بالنسبة إليّ عامل يسمح باعتباره كاتباً خلافياً (Sontrovercial). بل يمكن القول إنه يغري بالنظر إليه ككاتب من هذا الطراز. وتشير رنا قباني في كتابها “أساطير أوروبا حول الشرق” إلى أن بيرتون مسؤول إلى حد كبير عن رعاية وتعزيز أسطورة الشرق الجنسي (الإيروتيكي) التي تستغل الشرق. ومن الواضح أنها كانت تقصد هنا ترجمة “الروض العاطر” للنفزاوي. كما أنها ربما تشير إلى الهوامش الجنسية التي زود بها ترجمته لألف ليلة وليلة. ولكن النظر إلى بيرتون من منظور يوحي بأنه يتعمد الإساءة للعرب ينطوي في تقديري على غلوّ في التفسير والتأويل. لقد ترجم هذا الكتاب الذي وزع ما ينوف على خمسة ملايين نسخة باللغات الأوروبية، عن الفرنسية وليس العربية. كما اعتمده ناقد مغربي أعتز به هو الدكتور عبدالكبير خطيبي في كتابه البديع: “الاسم العربي الجريح”. وفي أعقاب وفاة بيرتون قامت زوجته إيزابيل بإتلاف الترجمة العربية للكتاب من ضمن أوراق ومدونات أخرى.

في هذا كله ما يؤكد أن نتاج بيرتون يمكن وصفه كما أسلفت، بأنه نتاج خلافي. وإذا كنا نستلهم فرويد في التأكيد على أهمية “الروض العاطر” (الأهمية النسبية على أيّ حال) فإن ترجمته الكاملة لألف ليلة وليلة هي العمل الأهم كما يرى بورخس في أكثر من موضع من مدوناته العديدة.

وما يشير إليه بورخس على وجه الخصوص من أن أحد أهداف بيرتون السرية من ترجمة الليالي هو تدمير ترجمة أخرى من صنع رجل آخر ملوح بالشمس ويملك لحية مغربية على حد قوله. هذا الرجل الذي أعد قاموسا ضخما بالإنجليزية وتوفي قبل أن يدمره بيرتون، هو إدوارد لين، المستشرق البريطاني المدقق وكثير الوساوس والشكوك.

وفي حين أنجز ترجمته على نحو مناهض لترجمة الفرنسي غالان، فإن بيرتون أنجز ترجمته مناهضا لنص إدوارد لين. وكما هو معروف فإن جان أنطوان غالان كان مستعربا فرنسيا عاد من رحلة إلى إسطنبول حاملا مجموعة من النقود، ونصا حول انتشار القهوة، ونسخة عربية من الليالي.

كما أن غالان كان يحمل معه ذاكرة حنا دياب الحلبي الماروني الذي أضاف لليالي حكايات لم تكن متضمنة في النص الأصلي: قصص علاء الدين والأربعين حرامي، والأمير أحمد، والنائم والمستيقظ، ومغامرة الخليفة هارون الرشيد ونصوص أخرى. ويرى بورخس أن مجرد ذكر هذه العناوين يبين أن غالان هو مؤسس النص المُعتمد لليالي (The canon). فقد أدخل فيها حكايات لم يعد بالإمكان حذفها. وبعد مرور تسعين عاما على وفاة غالان ولد مترجم آخر لليالي هو الإنكليزي إدوارد لين الذي عاش في القاهرة خمس سنوات، ينصت ويسمع. وفي حين يحذف غالان ما يراه غير لائق من نص الليالي، يصر لين على تضمين النص بهوامش غزيرة. ومع ذلك فإن بعض النصوص اعترض عليها لأنها “لا يمكن تنقيتها دون تدميرها”.

ويشير بورخس إلى أمثلة عديدة من عمليات التدمير هذه. ويمكن القول بأن العصر الفكتوري المتشدد كان ماثلا وراء ترجمة إدوارد لين. فقصة الليلة رقم 217 والتي تروي حكاية ملك ينام مع إحدى زوجتيه في ليلة يتبعها بليلة مع الزوجة الأخرى تحذف من نصه ويستعاض عنها بالقول إن الملك كان يعامل الزوجتين “دون انحياز”.

وفي معرض المفاضلة بين ترجمة غالان ولين، يقول بورخس إن عرب غالان يبدون وكأنهم لم يخرجوا من باريس، أما لين فإنه كان يفهم أن السعي وراء الأصالة يعني أن العرب (أبطال الحكايات) هم أحفاد هاجر. وهنا أود أن أفسر ملاحظة بورخس بالإشارة إلى أنه حسب التقليد العبراني فإن هاجر هي محظية النبي إبراهيم، والدة إسماعيل ابنه الأكبر. وقد كانت سارة، زوجته شديدة الغيرة إلى حد إساءة معاملة هاجر حتى أنها اضطرت للفرار إلى الصحراء. وهذا ليس مطابقا، إذا لم يكن مخالفا للتقليد الإسلامي في بعض التفاصيل.

وأما بالنسبة إلى ترجمة بيرتون لألف ليلة وليلة فإن بورخس يعتبرها في مقالته المهمة “مترجمو الألف ليلة وليلة” أفضل من ترجمتي لين وغالان. وهذا على الرغم مما توصف به من صعوبة لغوية.

وكان فرانشسكو غابرييلي المستشرق الإيطالي قد شكا خلال محاولته ترجمة الليالي معتمدا على نص بيرتون بأنه كان يضطر للاستئناس بالنص العربي بين الحين والآخر وذلك لأسباب تتصل بوعورة ترجمة بيرتون.

ويشير روبرت إروين بهذا الصدد، إلى أن هذه الترجمة تعتبر من أعاجيب الأدب الإنجليزي. كما يقتطف قول الباحث العراقي حسين هداوي في وصفه لهذه “الأعجوبة” بأنها تشبه المعادل الأدبي لمعرض برايتون، وهو بناء شيد في تلك البلدة، مليء بالمقرنصات التي يمكن أن تذكر الناظر بمصطلح الأرابيسك Arabesque أي فن الزخرفة العربي.

----

 

------------

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.