الاستهلاك والهلاك صور من المجتمع العشوائي
ثقافة الاستهلاك، سمة العصر بلا أدنى منازع، فقد توسعت قائمة الطلبات للفرد، حتى أصبح الجشع سمة الأفراد والمجتمعات؛ لا الشركات فقط. الجشع بمعناه الواسع؛ حين تؤمن أن الإقبال على هذه الثقافة حق طبيعي لك. وإذا كانت ثقافة الاستهلاك في ما يخص أنواعًا من المشروبات الغازية والعصائر وأنواعًا من الأطعمة التي لا يتم استهلاكها بإفراط؛ فهذا أهون الشرور، قياسًا بثقافة المعلوماتية التي لا تقف وراءها جهات مختصة، مثل الأدوية وغيرها، والتي تؤدي إلى الإدمان وتسبب أمراضًا خطيرة.
إن أخطر أنواع الاستهلاك هو ذلك النوع من حب التباهي والظهور بمظهر المثقف والعالم، حين تَـلوك النخبة المثقفة معلومات خطيرة ظاهرها الدفاع عن مجموعة أو مجموعات سكانية، وباطنها إدامة الحروب والكراهية والبغضاء بين البشر بعامة، وبين أبناء الوطن أو المنطقة بخاصة. نعم، أخطر أنواع الاستهلاك حين تقود الدعايات ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي النخب إلى ترديد معلومات خاطئة فيتلقفها الناس الأقل حظًّا في الشهرة والمكانة الاجتماعية و”الثقافية” فيحيلونها إلى ثقافة مقدسة؛ ظنًّا من الناس أن قائليها من ذوي الاختصاص وأن معلوماتهم التي رددوها دقيقة للغاية.
معلومات تُسوِّق لها شركات تريد جني الأموال الطائلة من خيرات المنطقة، فتشيع وتركز في إعلامها على أنواع من الثقافة يتبناها المثقف ويؤدي دورًا في إشاعتها، أي يتم استهلاكها عشوائيًّا وبلا تمحيص ونقد وتحليل وتفكيك لنواياها، فيتساوى المثقف مع الشخص العادي، بل إن خطورة المثقف أكبر بكثير، لأن الفرد يُحطّم حياته، وإن كان هو نواة المجتمع، لكن أن يتحول المثقف إلى مستهلك لثقافة التدمير والـهُـويات الضيقة، فجريمته هنا أنه يقوم بتدمير مجتمعات، لا نفسه فقط. إنه يسحب المجتمع إلى الهاوية.
لم تتسبب ثقافة الاستهلاك بفقدان الناس لصحتهم فقط، بل كرست ثقافة سطحية ومعلومات مغلوطة يتبناها “المثقف” مهما كانت درجته العلمية -إلّا ما رحم رَبّي- ووعيه بها، ويُسهم فيها ويكون فاعلًا ومبشرًا؛ ثقافة سمحت لأن تتصدر واجهة المعارض والحوانيت والمحلات التجارية أردأ أنواع المنتجات، وفي الوقت نفسه تتصدر واجهات القنوات الفضائية ووسائل الإعلام أردأ أنواع النخب، ثقافية وسياسية ودينية على السواء.
ثقافة تراجع فيها العلم والعمق المعرفي، وأخلاقيات المثقف المبني على البحث والتدقيق في المعلومة وصحتها؛ ومن ثم تفكيكها قبل أن يتفوه بها أو يكتبها؛ وتساوَى فيها ما هو معروض في واجهات الأسواق، وإعلانات البضائع واطئة الجودة، سيئة الصنع، والتعليم في عموم منطقتنا، وكان قد سبقه ومَهَّدَ له قبل بضعة عقود صعود دكتاتوريين جهلة إلى قيادة بلدان المنطقة، ليعمّ الخراب الروحي والجسدي والنفسي والثقافي مجتمعاتنا قاطبة، حتى أصبح الكفاح الحقيقي أن لا نتلوث بهذه الأوبئة التي تلاحقنا. أوبئة مثلما لوّثت الهواء كذلك فعلت مع الأجساد والنفوس والعقول على حدّ سواء.
قبل ثلاثين عامًا وأكثر، كانت لدينا تقاليد راسخة في المجتمع، قبل أن تهجم علينا ثقافة الاستهلاك، ومعها ثورة التواصل الاجتماعي؛ ومن هذه التقاليد كان الناس؛ من البسطاء والصفوة؛ حين يتحدثون إلى المجتمع عبر مكبرات الصوت أو الإذاعة أو التلفاز (قبل ظهور الفضائيات) يخففون من لهجاتهم المحلية، ويحاولون أن يستعينوا ببعض الجمل العربية الفصيحة، بما يجعل المواطن العربي البسيط قادرًا على فهم ما يتكلم به المواطن عبر الإذاعة أو التلفاز مهما كانت لهجته ومن أي بلد عربي كان. لكن مع تنامي شيوع ثقافة الاستهلاك، ومفاهيم الحداثة وما بعدها؛ صار بعض الناس -حتى الشعراء والأدباء- يتحدثون بلهجة عامية مغرقة في محليتها، وكذلك مقدمو البرامج في الإذاعات والفضائيات.
تحفل مجتمعاتنا بأنواع متعددة من المشروبات النافعة مثل العرقسوس وبذور الريحان والكركديه وغيرها من المشروبات التي يمكن احتساؤها باردة وبعضها ساخنة، وبعضها يصلح في الحالتين، لكننا نتركها جميعًا ونترك أبناءنا فريسة للمشروبات الغازية المدمرة للمناعة، والتي تعطي نتائج كارثية مستقبلًا. وكذا الحال في مجال الثقافة؛ التي تستحق أن نصرخ في وجه حكوماتنا التي فشلت فشلًا ذريعًا في إدارة التنوع اللغوي والعقائدي، وأساءت إساءات بالغة لإحدى أهم خصال مجتمعاتنا؛ ألا وهي التعايش، ولم تستفد من تجارب شعوب وحكومات حاولت تذويب المختلف لغويًّا أو عقائديًّا أو كليهما معًا، وكانت النتيجة الفشل الذريع والجلوس إلى طاولة المفاوضات والإقرار بالتنوع والتفنن بإدارته والاهتمام به، على شَرطَي الإيمان المطلق بوحدة التراب الوطني واحترام اللغة الوطنية الأولى وعقيدة الأغلبية.
لكننا في الوقت نفسه نشيح بوجوهنا عن آلاف الأمثال والوقائع التي تحتفظ بها الذاكرة الجمعية عن تكافل مجتمعاتنا وتعايشها وتسامحها، ونصرّ على الاستمرار في تجاهل دراسة هذا التنوع وتفكيكه والوقوف عنده بما يُقوّي من أواصر التعايش والسلم الأهلي في أوطاننا ويثريها، عبر التعريف بثقافة التنوع ودوره في رفد ثقافتنا العربية والإسلامية. ليس هذا فقط؛ بل ثمة ظاهرة منتشرة فضحتها وعرّتها وسائل التواصل الاجتماعي، ثقافة استهلاكية سطحية ومدمرة وتضع حواجز خطيرة بين المثقف والمجتمع؛ حين يستعين كثير من “المثقفين” أمام أيّ عملية إرهابية بجمل جاهزة يُثبت مستخدموها أنهم صورة أكثر بشاعة من عسس الأنظمة الدكتاتورية ومن الإرهابيين أنفسهم، ومن هذه الجمل على سبيل المثال “هذا هو دين محمد” و”الإسلام الداعشي هو الإسلام الصحيح”، و”الإسلام دين صحراوي مناهض للمدنية والحضارة” جمل قد تتقبلها من أشخاص لا حظ لهم من الثقافة بمفهومها المتعارف عليه، لكنها لا تُقبل حين يتلفظها شعراء وأدباء وكتاب وحملة دكتوراه بالتاريخ وعلم اللغة والأدب وغير ذلك من المواد العلمية الإنسانية التي تُحتّم على حاملها تضلعًا باللغة وأصولها وبالتاريخ.
تؤدي البيئات الأولى دورًا عظيمًا لو أحسن استخدامها في كبح جماح ثقافة الاستهلاك، والبيئات الأولى تتمثل في الأسرة ورياض الأطفال والمدرسة، حيث يجب أن تستفيد المؤسسات التعليمية من الطرق العلمية الحديثة، وأن تسير في طريقين: خلق نزعة الاحتياجات الضرورية وذات المنفعة الصحية والاقتصادية، وزرع ثقافة التفكير النقدي ونزعة التدقيق المعرفي، أي التدقيق في مصادر وصحة سيل المعلومات المتوفرة مجانيًّا في الشبكة المعلوماتية وما تضخّه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
زوجتي مديرة مكتبة (أمينة مكتبة) تحرص على تعليم طلابها أن موسوعة ويكيبيديا وسواها من المواقع ليست مواقع علمية آمنة، وترفض أيّ وصفة طبية ومعلومة علمية وتاريخية تأتي منها، وتؤكد على البحث في مواقع الجامعات الأولى في العالم ومواقع المجلات العلمية الـمُحَكَّمَة الدولية، أي المجلات التي تنشر بحوث الترقية لأساتذة الجامعات، ويتمثل تشدد زوجتي هذا فيما ذكرت أعلاه وفي عدم الانصياع أمام مغريات الإعلانات والثقافة الاستهلاكية، وحرصها على قراءة محتويات أيّ مادة غذائية نود شراءها، وحين تخلو من المحتويات تتركها.
هذا الوعي الذي يجب أن تكون عليه المؤسسات التعليمية كافة. لننجو بصحتنا ومدخراتنا وتنجو مجتمعاتنا من الإسراف في المأكل والملبس وسيل الفتاوى في التاريخ والسياسة والطب والفقه والعقائد، وكي لا يظهر عندنا أساتذة جامعات مختصون بالنقد وعلوم اللغة وهم يهرفون بمثل هذا الكلام “إن في القرآن خطابين، خطاب مختص بالعرب، وآخر مختص بالأمم الأخرى، فأما الذي يخص العرب فهو حديث الله عن الجنة والحور العين والقصور والولدان المخلدين، وأما المختص بالأمم الأخرى فهو حديث الله عن العلم والتعلم”.