الاشتباك بين الدين والفن
لطالما أثارت عودة بعض الفنانات المعتزلات إلى الفن واعتزامهن الوقوف أمام الكاميرا مجدداً بعد فترة انقطاع دام، في بعض الحالات، أكثر من عقد من السنوات جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الوسط الفني. ولطالما اختلف المراقبون بين مرحب ومعارض. بعض النقاد يعتقد أن إقلاع هذه الفنانة أو تلك عن الفن -أو عودتها إليه- إنما هو، بداهة، قرار شخصي يتعلق بحرية الشخص وحده أما خلع الحجاب والعودة إليه فهو أمر غير شخصي. ولدينا مثال على معتنقي الرأي الأخير يتمثل في ناقدة فنية من مصر هي ماجدة خيرالدين التي رأت أن من حقها أن ترفض عودة الفنانة المعتزلة حلا شيحا إلى ممارسة مهنتها الفنية بعد اعتزال دام 10 سنوات. بل إن الاختفاء -من وجهة نظرها- بعودة شيحة وخلعها للحجاب يُعد إهانة للفن. واليوم هناك جدل في مصر يتعلق بهذه المسألة التي تشغل الرأي العام في أكبر بلدان المشرق العربي.
الحقيقة أن المسألة التي يطرحها هذا المقال لا تخص فنانة بعينها هي حلا شيحة وحدها، ولا الآراء والمواقف الشخصية التي أحاطت بخبر عودتها إلى الفن. المسألة برمتها ترتبط بظاهرة مجتمعية لها أبعاد ثقافية ودينية واقتصادية، ظهرت في بداية التسعينات من القرن الماضي وعُرفت بـ”اعتزال الفنانات”. وهي ظاهرة لها حضور في المجتمع المصري بحيث تحتاج إلى وقفة، وإلى المزيد من التأمل، بل إن رصد هذه الظاهرة وتحليلها من شأنهما أن يلقيا الضوء على تعاطي المجتمع المصري مع مفاهيم ما زالت غير مستقرة من قبيل الفن والإبداع والتدين، وصورتي الفنان والمتدين في نظر المجتمع.
فالظاهرة في أساسها هي صراع جدلي بين الدين والفن، بين صورة الفنان الذي نحبه ولنا مآخذ أخلاقية على سلوكياته، وصورة المتدين الذي يحظى بالاحترام في نظر العامة، لكنه -في الوقت نفسه- يمثل الوجه المتجهم، الذي يبالغ في جديته حتى أنه قد يفسد عليهم فرحتهم وسعادتهم التي يحصلون عليها عن طريق التعاطي مع الفن والفنانين. ولكي نفهم حقيقة الظاهرة ودلالاتها، ينبغي أن نعود للوراء إلى ما قبل التسعينات من القرن الماضي، بداية نشوء الظاهرة.
وفي هذا السياق تعتبر شمس البارودي حالة خاصة ينبغي التوقف عندها؛ فقد اعتزلت الفن في ثمانينات القرن الماضي، وفي سياق ثقافي واجتماعي مختلف، أي قبل المواجهات الحادة التي حدثت في التسعينات بين الفنانين وأصحاب الفكر من ناحية، والجماعات المتطرفة التي حملت لواء التكفير في ذلك الوقت واعتمدت العنف أسلوباً لفرض رؤيتها حول الفن والأدب ومظاهر الإبداع، من ناحية أخرى.
الاعتزال في هذه الفترة لم يكن مرتبطاً -دائماً- بفنانات لعبن أدوار الإغراء مثل البارودي وسهير رمزي فيما بعد، وإنما وقع من قبل فنانات عرفن بالالتزام في المسلك والملبس داخل الوسط وخارجه، وكأن الاعتزال كان نتيجة منطقية لحياتهن السابقة الملتزمة. ومن هؤلاء كانت نسرين وزوجها محسن محيي الدين، وهناء ثروت وزوجها محمد العربي، وهما من النماذج التي اختفت بعد اعتزال الفن تماماً، فقد انقطعت أخبارهما ربما حتى هذه اللحظة
اعتزلت البارودي لأسباب شخصية تخص تجربتها الفنية الخاصة، حيث اشتهرت بأدوار الإغراء في الستينات والسبعينات، وجاء قرار الاعتزال بمثابة التوبة من الآثام التي اقترفتها من جراء مشاركتها في هذه النوعية من الأفلام حتى أنها تبرأت منها بعد الاعتزال. ويؤكد الفنان حسن يوسف (زوجها) أن البارودي كانت غير راضية عن نفسها، وإنما كانت تشعر بالقلق والرعب من عدم ارتدائها الحجاب. وعن تجربتها الروحية يقول يوسف “وصلت إلى المسجد الحرام.. أدت تحية المسجد وبدأت تطوف بالبيت العتيق، وبدأ جسدها يرتعد، والعرق يتصبب من جسدها، وشعرت ‘شمس′ ساعتها وكأن هناك إنساناً بداخلها يريد أن يخنقها وخرج الشيطان من داخلها، وذهب الضيق الذي كان يجثم فوق صدرها، وذهب القلق” (فيصل الميموني. حسن يوسف يكشف ملابسات توبة شمس البارودي، موقع (لها أون لاين).
فاعتزال شمس البارودي لم يكن موقفاً من الفن، لكن من نوعية خاصة من الأدوار، إلا أن تجربتها الشخصية جعلت الاعتزال والتوبة مترافدين، لأنها لعبت من الأدوار ما جعل الفن والخطيئة وجهين لعملة واحدة. لهذه الأسباب اعتزلت البارودي إلى غير رجعة رغم الحملة المغرضة التي تعرضت لها -على حد قول يوسف- وبطبيعة الحال رحب جمهور شمس ومحبوها بالاعتزال، لأن الاعتزال على هذه الصورة كان بمثابة التوبة وهو ما يمس الشعور الديني لدى العامة. أما بالنسبة للمثقفين وأرباب الفن فقد جاء رد فعلهم متحفظاً من قبل البعض ورافضاً من قبل البعض الآخر، لأنه يُعد بمثابة الإهانة والتحقير من شأن الفن.
بهذا المعنى تُعد تجربة شمس البارودي في الاعتزال لا مثيل لها.
أما في بداية التسعينات فقد تحول الاعتزال الفني إلى طوفان أغرق الوسط بحيث كنا نسمع كل عدة شهور عن اعتزال واحدة من الفنانات الشهيرات اللاتي لم نكن نتوقع أن يتخذن هذه الخطوة خاصة أنهن في قمة مجدهن الفني. وقد تزامنت هذه الظاهرة مع المد الديني وما عُرف بالصحوة الإسلامية وظهور الدعاة الجدد من ناحية، وانتشار حوادث إرهابية طالت بعض المثقفين مثل فرج فودة ونجيب محفوظ، من ناحية أخرى.
والملاحظ أن الاعتزال في هذه الفترة لم يكن مرتبطاً -دائماً- بفنانات لعبن أدوار الإغراء مثل البارودي وسهير رمزي فيما بعد، وإنما وقع من قبل فنانات عرفن بالالتزام في المسلك والملبس داخل الوسط وخارجه، وكأن الاعتزال كان نتيجة منطقية لحياتهن السابقة الملتزمة. ومن هؤلاء كانت نسرين وزوجها محسن محيي الدين، وهناء ثروت وزوجها محمد العربي، وهما من النماذج التي اختفت بعد اعتزال الفن تماماً، فقد انقطعت أخبارهما ربما حتى هذه اللحظة. وهذه النوعية من المعتزلات غادرت الساحة في هدوء دون ضجيج، إذ لم نقف على آرائهما في الفن أو الدين، وبدا اعتزالهما مسألة شخصية تماماً بعيداً عن القيل والقال.
وعن أسباب اعتزالها تقول هناء ثروت “لقد كافحت من أجل أن أصبح فنانة؛ وقفت ضد أهلي وأصدقائي من أجل هذا الهدف، لإيماني بأن الفن رسالة سامية، وكنت أريد أن أصل من خلاله إلى الناس بما أؤمن به من قيم ومبادئ ولكن سرعان ما تحطمت، وجدت أن الأدوار التي تصل بي إلى النجومية بعيدة كل البعد عن الأخلاقيات التي تربيت عليها، فكان عليّ إما أن أقدم أدوار الإغراء أو أرفض” (موقع جولولي، 30-12-2014).
بينما عبّرت نسرين عن سبب اعتزالها بعبارة مقتضبة مفادها أنها لم تنسجم مع الوسط الفني. وفي كلتا الحالتين صرحت النجمتان بأنهما وجدتا الراحة والاستقرار في الحياة الأسرية أكثر مما وجدتاهما في الفن.
غير أن فريقاً من المعتزلات لم يقنع بالحياة الأسرية مثل سهير البابلي وشهيرة وياسمين الخيام، اللاتي حاولن أن يستبدلن برسالة الفن رسالة أخرى دينية تنفع الناس وتكون وسيلة لمرضاة الله، فاتجهن إلى أعمال البر وخوض غمار الدعوة. ساعد في ذلك أن هذه الفئة ارتبط اعتزالها ببعض الرموز الدينية مثل عمر عبدالكافي والشيخ الشعراوي، أو ارتبط بتجربة روحية خاصة.
فقد صرحت الفنانة سهير البابلي بأنها سألت عددا من الشيوخ، أبرزهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، واقتنعت بأنها مقصرة بحق دينها، فلجأت إلى ارتداء الحجاب، لأنها خافت من عقاب الله. وتحكي الفنانة شادية أنها عادت من زيارة لبيت الله الحرام، وهي تحمل بداخلها رغبة شديدة في اعتزال الفن، والتقت بالشيخ الشعراوي في ذلك الوقت لتسأله عن بعض الأمور الدينية ثم أعلنت بعد ذلك اعتزالها الفن. وجاء اعتزال الفنانة نورا في منزل الفنانة عفاف شعيب -وفقاً لتصريحات عفاف شعيب- عندما كانت في زيارة لختم القرآن، واستمعت إلى سورة “مريم” من خلال “الراديو”، فاهتزت بشدة وظلت تبكي بصوت مسموع، ثم قالت للجميع إنها سوف تعتزل الفن نهائياً. كما صرحت الفنانة سهير رمزي في حوار تلفزيوني بأنها لم تكن تفكر في ارتداء الحجاب حتى قابلت الشيخ عمر عبدالكافي الذي قال لها “ربنا مخاصمك، لأنك بعدم ارتدائك للحجاب تبارزين الله بجمالك الذي وهبه لك”، بعدها قررت عدم استكمال حياتها دون حجاب.
ومن الفنانات اللاتي اعتزلن نتيجة تجربة نفسية وروحية الفنانة عفاف شعيب التي صرحت في أحد اللقاءات التلفزيونية بأنه بعد وفاة أخيها جاءتها رؤيا، ظهر فيها أخوها وهو يقول “الدنيا فانية، وكل متع الدنيا زائلة” وقصت الرؤيا على صديقتها الفنانة ياسمين الخيام، التي نصحتها بارتداء الحجاب، بعدها اعتزلت عفاف شعيب التمثيل لفترة ثم عادت مرة أخرى لتقديم أعمال وهي مرتدية الحجاب. وكذلك الفنانة الراحلة مديحة كامل التي اعتزلت بعد أن رأت رؤيا روتها ابنتها. وفيها شاهدت شخصاً يتقدم نحوها، ويعطيها رداءً أبيض فضفاضا قائلاً “لقد آن الأوان يا مديحة”. وبالفعل استيقظت وقد عزمت على ارتداء الحجاب للأبد.
ومن الملاحظ أن الفنانات اللاتي اعتزلن الفن لأسباب أخلاقية أو دينية هن اللاتي أثار اعتزالهن الجدل، في حين كان اعتزال الفنانات لأسباب شخصية واجتماعية أمراً عادياً لم يتوقف عنده الناس طويلاً، بل إنه في الكثير من الأحيان يسقط من الذاكرة الجمعية ويغيب في طي النسيان، ومن هؤلاء ليلى حمادة وجيهان نصر ونسرين إمام، وكلهن فضلن الاعتزال لتغليب الحياة الأسرية على الحياة الفنية. والحقيقة أن هذه الطريقة في الاعتزال هي الطريقة الطبيعية التي تماثل اعتزال لاعبي الكرة عندما يتقدم بهم العمر ويفقدون اللياقة البدنية والنفسية المطلوبة للاستمرار في الملاعب. وقد كانت هذه هي الطريقة السائدة لدى فنانات الزمن الجميل على نحو ما رأينا في حالات اعتزال الفنانات: ليلى مراد وسامية جمال وهند رستم وغيرهن.
ولأن اعتزال الفنانات في السنوات الأخيرة كان مرتبطاً بموقف ديني أو أخلاقي من الفن، وهو موقف غير نهائي يخضع لاعتبارات كثيرة قد تتجاوز الموقف الديني والأخلاقي وقد تتماس معه، لكن من زاوية خاصة، فقد شاهدنا ظاهرة عودة بعض الفنانات المعتزلات للفن. وهو الموقف الأكثر إثارة للجدل، خاصة أن هؤلاء الفنانات العائدات كن قد اعتزلن الفن لأنه -من وجهة نظرهن- متعارض مع الدين. ومن هنا كان يثار السؤال دائماً: هل اعتزلن -في الحقيقة- لأسباب أخرى غير دينية، ومن ثم عدن مرة أخرى إلى الفن بعد زوال أسباب الاعتزال؟ أم أنهن اعتزلن لأنهن اكتشفن بعد رحلة بحث ألا تعارض بين الفن والدين؟ أم أن المسألة -في التحليل الأخير- تخضع لأسباب اقتصادية تحرك الفنانات، سواء باتجاه الفن أو باتجاه الدين على نحو ما يروج البعض؟
في الواقع لا يمكننا أن نجزم بحقيقة السبب الذي يقف وراء عودة الفنانات المعتزلات، كما لم نستطع أن نجزم بحقيقة السبب الكامن وراء اعتزالهن، لأننا -في كل الأحوال- نعتمد على تصريحاتهن التي يرددنها في وسائل الإعلام، وهي تصريحات قد تبدو متناقضة في بعض الأحيان وقد تبدو غير مقنعة في أحيان أخرى.
لذلك، لا سبيل أمامنا سوى الاعتماد على رؤية المشهد من الخارج، مع أخذ تصريحات الفنانات العائدات وتصرفاتهن على محمل الصدق.
وفي محاولة تفسير ظاهرة عودة الفنانات المعتزلات يرى البعض أن الظروف المادية هي السبب، بينما يرى البعض الآخر أنه الحنين للنجومية والشهرة، ويمثل للحالة الأولى بالفنانتين عبير صبري وصابرين، وبالحالة الأخيرة بالفنانتين غادة عادل وإيمان العاصي. كما يحاول فريق ثالث تقديم تفسير علمي نفسي للظاهرة يعول فيه على الاضطراب الوجداني، والحالة المزاجية المتقلبة التي تصيب أغلب نجوم الفن.
والحقيقة أن المسألة -من وجهة نظرنا- تظل مرتبطة بالعلاقة الإشكالية التي بين الفن والدين في المجتمع المصري، وهي علاقة تعارضية انفصالية تحكمها الصيغة المنطقية “إما – أو”؛ إما أن تكون فناناً أو تكون متديناً دون وجود حل وسط مُرضٍ. وإزاء هذا التعارض ظهرت محاولات للتوفيق بين هذين النقيضين الظاهرين، فحاولت بعض الفنانات -مثل عفاف شعيب ومنى عبدالغني- أن يمثلن بالحجاب، وهو ما حصرهن في دائرة ضيقة من الأدوار التي تتطلب شخصيات ترتدي الحجاب. كما وجدت صابرين حلاً مبتكراً يسمح لها بأداء شخصيات أكثر تنوعاً دون أن تكشف عن شعر رأسها، وذلك عن طريق ارتداء “الباروكة”.
وفي السياق ذاته حاولت فنانات أخريات أن يتجاوزن التدين الشكلي على الشاشة فعملن على تقديم أدوار هادفة تحقق المتعة للمشاهد وتقدم له رسالة سامية في الوقت ذاته على نحو ما عملت حنان ترك في بعض المسلسلات، وإن كانت توقفت لصعوبة تحقيق هذه المعادلة الصعبة (كما ورد في بعض تصريحاتها). وفي المقابل عادت بعض الفنانات مثل عبير صبري إلى نقطة البدء حتى أنها قدمت أدواراً تحتوي على مشاهد ساخنة كما في فيلم “عصافير النيل”، وعلقت على ذلك بأن الله وحده هو الذي يملك الحساب وليس الإنسان.
يمكننا القول إن محاولة تخليص ما هو فني مما هو ديني محاولة غير عادلة بكل المقاييس. فالفن، في الوقت الذي يرفض فيه تدخل الدين في شؤونه لا يتورع عن اتخاذ هذا الأخير موضوعاً نقدياً لإبداعه، ليس هذا فحسب، بل إن الفن لا يتورع عن اختراق المناسبات الدينية (شهر رمضان والعيدين) المخصصة للعبادة، وتحويلها إلى سوق للترويج والتربح من منتجاته التي صنعها وفقاً لقناعاته ومبادئه التي قد تخالف تعاليم الدين
وبهذا المعنى، تعتبر ظاهرة اعتزال الفنانات مؤشراً جيداً على فهم حالة التوتر القائمة بين الدين والفن في المجتمع، وهي الحالة التي انعكست على الأحداث السياسية بعد ثورة 25 يناير، وجعلت معظم الفنانين يقفون في جبهة واحدة للدفاع عن مصالحهم، خاصة بعد أن اعتلى التيار الديني سدة الحكم في البلاد.
والمسألة برمتها تحتاج في نظرنا إلى إعادة صياغة للعلاقة بين الديني والفني بحيث لا يشعر الفنان بالحرج إذا أراد أن يجمع بين المجالين دون أن يحس بالتعارض بينهما، ومن ثم لا يكون عرضة لاستهجان المجتمع إذا لعب أدواراً مخالفة لتقاليده، أو لا يكون عرضة لرفض الفنانين إذا قرر الخروج من زمرتهم والتخلي عن المجد الفني والتفرغ للعبادة وأعمال البر.
فالمسألة في التحليل الأخير مسألة حرية اختيار، وينبغي احترامها من قبل الجميع. غير أن المناخ العام يحتاج إلى تحريك بحيث يسمح بهذا التعايش بين المجالين دون حرج أو إشكال. ولن يتحقق ذلك إلا إذا سُمح لكافة التيارات بالتعبير الفني عن أفكارها وقناعاتها دون رفض أو تسفيه لها من قبل التيار الفني السائد، المتأثر بعادات وتقاليد فنية تنتمي إلى مجتمعات أخرى لها ظروفها المختلفة.
فالقُبلة السينمائية -على سبيل المثال- كان أول ظهور لها عام 1896 في الأفلام الأميركية الصامتة. وبالرغم من أنها قوبلت بالرفض من قبل المدافعين عن الأخلاق العامة خاصة في نيويورك، إلى درجة أن أحد الناقدين أعلن أن مثل هذه الأشياء تستدعي تدخل الشرطة، إلا أنها وصلت إلى الذروة خلال العصر الذهبي الهوليوودي في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين مع ازدهار التعبير الجسدي على الشاشة واعتبارها مكملة للمشاهد الرومانسية مع العيون وسائر أجزاء الجسم، وقد انتقلت إلى جميع أنحاء العالم باعتبارها واحدة من العلامات المميزة للفن السينمائي.
وبالرغم من أن القُبلة السينمائية لا تنتمي إلى جوهر العملية الإبداعية في الفن السينمائي، إلا أنه -وبمرور الوقت- تعامل معها مبدعونا العرب على أنها مسألة تخص الضرورة الفنية، بمعنى أنها تكتسب مشروعيتها من خلال السياق الدرامي، بحيث لا يمكن استبعادها -بأي حال من الأحوال- إذا اقتضت الضرورة الفنية ذلك. ولما كانت الضرورة الفنية مسألة فضفاضة، وغير منضبطة مثل الضرورة المنطقية والعلمية، فقد صارت باباً لتمرير الكثير من المشاهد المجانية التي لا تهدف إلا إلى الإثارة وتحقيق أكبر الإيرادات من شباك التذاكر.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إنما امتد إلى سائر المشاهد العاطفية -خاصة الساخنة منها- التي تتجاوز مجرد التقبيل. وقد وصل التمسك بالضرورة الفنية على هذه الصورة إلى درجة أنها شكلت أخلاقا فنية خاصة تفوق الأخلاق الاجتماعية، ودينا أرضيا يعلو على أديان السماء.
وإزاء هذا الموقف كان طبيعيا أن ترفض بعض الفنانات المشاهد الساخنة المحتوية على قُبل سينمائية أو تلك التي تُصور في البارات وداخل غرف النوم. وفي المقابل كان طبيعيا أيضا -في ظل هذا الفهم للضرورة الفنية- أن يرفض المخرجون الانصياع لهذا التحفظ تحت مقولة “إما فن أو لا فن”.
على الجانب الآخر، قامت محاولات لتأسيس مصطلح فني جديد يستوعب وجهة النظر المحافظة في الفن، وهو مصطلح “السينما النظيفة”. إلا أنه -وبالرغم من كون المصطلح مصرياً خالصاً، معبراً عن إشكالية واقعية تخص المجتمع العربي وتتناسب مع أخلاقياته وعاداته وتقاليده- تمت مهاجمة المصطلح والتهكم عليه باعتباره ينطوي -ضمنيا- على حكم أخلاقي معياري بعدم نظافة السينما السائدة، وتم وأد المصطلح في مهده.
والحقيقة أن الرؤية الواحدة المستوردة التي تهيمن على السينما المصرية، هي المسؤولة عن هذه الإشكالية التي تضع الفنانين في الحرج، ونعود لنكرر أن الحل يكمن في السماح لاتجاهات سينمائية مغايرة بالتعبير عن نفسها، سواء بإحياء مصطلح السينما النظيفة، الذي يعتمد على الإيماء بدلا من التعبير المباشر، أو بابتكار مصطلحات أخرى.
وتاريخنا الثقافي يشهد بأننا كنا من المرونة بحيث قبلنا مصطلحات -تبدو شاذة- من قبيل “مسرح العبث” و”أدب اللا معقول” إلا أننا رفضنا -في العصر الحالي- مصطلحات أخرى، بالرغم من أنها تحمل صيغة أخلاقية، من قبيل “الأدب الإسلامي” و”السينما النظيفة”. وواضح أن الإشكال راجع إلى الصبغة الدينية التي تغلف هذه المصطلحات (صراحة أو ضمنا).
ويمكننا القول إن محاولة تخليص ما هو فني مما هو ديني محاولة غير عادلة بكل المقاييس. فالفن، في الوقت الذي يرفض فيه تدخل الدين في شؤونه لا يتورع عن اتخاذ هذا الأخير موضوعاً نقدياً لإبداعه، ليس هذا فحسب، بل إن الفن لا يتورع عن اختراق المناسبات الدينية (شهر رمضان والعيدين) المخصصة للعبادة، وتحويلها إلى سوق للترويج والتربح من منتجاته التي صنعها وفقاً لقناعاته ومبادئه التي قد تخالف تعاليم الدين.
المسألة إذن في حاجة إلى فض الاشتباك بين ما هو ديني وما هو فني بحيث يتماهى الإثنان في بنية أو مركب أعلى، فلا يقف أحدهما موقف الضد أو الخصم من الآخر، وإنما باعتبارهما وجهين للنشاط الإنساني الخصب الذي يستوعب هذا وذاك. لأن ما هو فني ناجح حتى الآن في تهميش وإقصاء ما هو ديني من دائرة الإبداع، فنحن في حاجة إلى كوادر جديدة تؤمن بقناعات مغايرة ويسمح لها بخوض غمار الإبداع الفني عموماً، والسينمائي بخاصة، على كافة المستويات: إنتاجاً وإخراجاً وتمثيلاً، وعندها لن تكون هناك حاجة إلى اعتزال الفن أو العودة من الاعتزال للفن، لكن ستكون هناك مساحة رحبة يتحرك فيها الفنان وفقاً لقناعاته واختياراته دون أن يضحي بفنه أو يبتعد عن دينه على نحو ما يصور لنا المشهد الحالي.