الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر
طرحت مجلة “الجديد” في عددها الماضي الصادر في مستهل شهر فبراير 2019 ملفًا غاية في الأهمية بعنوان “أدب الاعتراف”. الملف يأتي استكمالاً لجملة الملفات الحيوية التي بدأتها المجلة منذ عددها الأول. يسعى الملف بما طرحه من رؤى جديدة مغايرة إلى استكشاف الذات والكتابة في الثقافة العربيّة. ومن هنا لم تُوْقف المجلة مفهومها الذي طرحته عند السيرة الذاتيّة كجنس أدبيّ يلجأ إليه الكثيرون عند الكتابة عن الذّات. بل يتخذ -هنا- الاعتراف مفهومًا أوسع “يتسع لكل كتابة ذات طابع ذاتي تتحدّث عن الأنا في علاقتها بعالمها. ولكن من موقع الجرأة في التصريح، بل وحتى نقد الذات وكشف عيوبها قبل محاسنها” كما جاء في كلمة التحرير.
الأسئلة الجوهرية التي دار حولها الملف بزوايا مختلفة جاءت كالتالي:
• هل أدب الاعتراف حاضرٌ في الثقافة العربيّة؟ وما نسبة هذا الحضور في كتابات الذات مقارنة بكتابات الغرب؟
• ما هي مراوغات الكُتّاب لتمرير ما يعدّ تابوهات في مجتمعات منغلقة في أخبية تميل إلى التستر والتخفي أكثر من الفضح والإعلان؟
• هل الأنساق الثقافيّة المهمينة هي العائق الحقيقي دون كتابة سيرة ذاتية صريحة، أم أنّ ثمة عوامل أخرى تقف حائلاً دون تحقق سيرة ذاتية عربيّة خالصة؟
بداءة يجب الاعتراف بأن كثيرًا ممن تناولوا الموضوع في مقالات أو شهادات أقرّوا في يقين وحسم بأن الثقافة العربيّة لم تعرف أدب الاعتراف على عكس أدب التراجم أو كتابة النفس التي كانت سائدة كما يقول عامر درويش، أو “يعدُّ من الممنوعات أو المحرّمات”، كما وصفه جيلاني عمراني. أو “يتطلب مسؤولية مشتركة بين الأنا والآخر” كما تقول حنان مصطفى. بل هناك مَن تخوّف من كتابة اعترافاته في الأصل، على نحو ما اعترفت رحاب أبوزيد في تساؤلها الاستنكاري: كيف أعترف؟ خاصة أنها تقرّ بنقصانها الجرأة لكتابة مثل هذا الكتابة.
وإن كان سعيد الكفراوي يرجع الغياب إلى الشرائط الناقصة التي يحتاجها الأديب لكي يبوح باعترافاته وهي تتمثّل في “حرية التعبير وحرية الثقافة وحرية التلقي والحريات المجتمعية عمومًا، كما يحتاج الكاتب إلى امتلاك ذاتٍ شجاعة لمواجهة كل المناطق السّلبيّة داخله وخارجه. ولذلك كله فإن النصوص العربيّة التي أنجزت تلك المغامرة قليلة للغاية بل نادرة، وتبدو عادة خجولة ومرتعشة تلامس أسطح الأشياء دون أن تتورط في كشف الجروح”.
وإن كان ثمة رأي له وجاهة يرى أن الاعتراف لا يعني “إماطة اللثام عن بعض الأسرار، كما نقرأ في مذكّرات الزعماء وسير المشاهير، بقدر ما هو مُسارَّةٌ بالذنوب والأخطاء، وتفريج عن النفْس من عبء ثقيل” على نحو ما ذهب أبوبكر العيادي.
الملاحظة الأساسيّة أنه على تنوعّ المقالات والشهادات عن الاعتراف وداوفعه فإن ثمة مشتركات أهمها أن معظم المقالات تبدأ بنفي قطعي لغياب أدب الاعتراف، ثم تورد الأسباب والعوامل وجميعها تكاد تكون واحدة متمثلة في عدم تقبل الثقافة العربية لمثل هذه الاعترافات التي تكون ضد الثالوث المحرّم: الدين والجنس والسياسة. وإلى طبيعة الثقافة العربيّة التي تحتكم للأنساق بكافة صورها دينيّة وسياسيّة وأخلاقيّة مجتمعيّة.
الشيء الثاني أن الجميع أجمعوا على استحالة كتابة المرأة لمثل هذه الكتابة التي تتحدى الأنساق الثقافيّة والمجتمعيّة كما ذهبت زينب العسال وعامر درويش وحنان مصطفى.
في ظل هذه المعوِّقات التي حالت دون ظهور اعترافات عربيّة مُقارنة بما كتب في الغرب هناك من ذهب إلى بديل يستطيع من خلاله أن يُمرِّر الكاتب ما يودُّ قوله دون أن يصطدم مع السلطات الرادعة، والحل يتمثّل في تقنية القناع على نحو ما ذهب محمد آيت ميهوب حيث اعتبر القناع “سبيلا إلى البوح” وهو ما يتوافق مع ما طرحته العسال من كون الاعترافات تمرّر عبر صيغتين الرواية والسيرة الذاتية
أوّل إشكاليات هذه المقاربات أن الجميع يضعون الاعترافات في الغرب مقياسًا للحُكْم والنفي بعدم وجود اعترافات في الثقافة العربية! وهذه مغالاة في حدّ ذاتها، مُتناسين أنّ لكل ثقافة طبيعتها الخاصّة، والأهم أن هذه المجتمعات الغربيّة التي كانت حاضنة لهذه الاعترافات على جرأتها كانت ترفع شعار الحرية وهو الشّعار الأهم الذي كان حافزًا للكتابة دون مواربة أو خشية سُلْطة. ورغم هذه الحرية فإنّ بعض الكتابات صودرت بسبب جرأتها أو لأنها خاضت في مسائل عقدية وغيرها، والأمثلة التي تدل على ممارسات محاكم التفتيش كثيرة والتي أغلبها كان نتاج سلطة دينيّة متشدّدة أو عنصرية. وهذا ما يشير إلى أن خصوصية كل ثقافة عامل مؤثّر في شيوع أجناس أدبية وغياب أخرى. وهو ما يظهر بصورة جلية عند الحديث عن غياب أجناس أدبيّة وظهور أخرى.
أضف إلى ذلك أن الكُتّاب الذين يعتدّون باعترافاتهم بأنها النموذج المثال في أدب الاعتراف، على نحو ما ذكرت أدبيات السّيرة الذاتيّة عن اعترافات القديس أوغسطين واعترافات جان جاك روسو، في الأصل اعتراهما النقص حيث أغفل الكاتبان الحقيقة، وإن كان ثمّة تعلّلا لما فعلا على نحو ما أشار أبوبكر العيادي، حيث “غفلا عن بعض المسائل لتعجّل الأوّل ملاقاةَ رحاب دين ربّه، وتعلل الثاني بخلل شاب ذاكرته، ولكن وقائع التاريخ تثبت أنهما غفلا قصدًا عن أحداث تسيء كثيرا إلى الصّورة التي حرص كلاهما على تقديمها للقارئ، وتركها للأجيال اللاحقة، وأن ذاكرة كل منهما كانت انتقائية”.
وهذه الإشارة بالغة الأهمية في موضعها حيث تؤكد على “أن الاعترافات في الغرب أغفلت عن عمد الحقيقة، وهي المجتمعات المفتوحة، وسقف حريتها عال؟ وهو ما يجعل ما كتب في الأدبيات العربيّة، بجرأته التي رفضها البعض، مقبولاً ومُسْتحْسَنًا في ظل هذه السياقات التي نَتَجَ فيها.
ثمة دوافع أخرى ذكرها الكُتّاب كانت حائلاً لعدم شيوع مثل هذا الجنس في كتابتنا، خاصة أن فيها ما يتناقض مع طبيعة البيئة العربية. وهو ما أتوقف عنده قليلاً.
يسوق عامر درويش أسبابًا جديدة لغياب كتابة الاعترافات في أدبنا. فهو يعتمد ثنائية الشرق والغرب التي ينقسم إليها الأدب كأساس لهذا الغياب، فمن وجهة نظره أنّ “المشرق لم يستطع أن يعرّي نفسه تمامًا كما فعل مثيله المغرب” ويرجع هذا الفارق إلى عدة أسباب يذكر منها “تأثّر أدباء المغرب بالإرث الاستعماري الثقافي أكثر مما هو حال نظرائهم في المشرق”.
ووفقًا لهذا السبب يرى أن بلاد المغرب باستثناء ليبيا اكتسبتْ هذه الثقافة. وإن كان في نفس الوقت يجيب عن تساؤل بأن لبنان وسوريا كانتا خاضعتيْن للانتداب الفرنسي، إلّا أنه يجد مخرجًا بأن فترة الانتداب في المشرق كانت أقل من المغرب، والتبرير الثاني الذي يسوقه مفاده أن “قوة الهُوية في المشرق العربي كانت أكثر صلابة من المغرب”. وأعتقد أن الكاتب نفسه توقف عند ما يمكن أن يوجه لكلامه من انتقاد، دون أن يقنعنا بتبريره.
أما سبب تأخّر المشرق في أدب الاعتراف فهو أن معظم المشرق كان محتلاً من قبل بريطانيا صاحبة تقاليد المحافظة على ما هو قائم. وهذا أيضًا يحتاج إلى ردٍّ، فمصر التي كانت خاضعة للانتداب الإنكليزي لأكثر من سبعين عامًا لم تتأثّر بالثقافة الإنكليزية، ومن ثم لم تكتسب من ثقافتها المحافظة التي كانت رائجة في تقاليد التاج البريطاني، ومع هذا فمالت الكتابة عن الذات إلى المحافظة نوعًا ما.
ربما ما ذكره الكاتب عن وقوف الهُوية الدينيّة في بلاد الخليج كحاجز لشيوع مثل هذا النوع، مثلما تقف التقاليد أمام كتابات المرأة، مقبول إلى حد بعيد، وإن كان يضاف إليه طبيعة هذه المجتمعات المغلقة التي ما زالت تحتكم لثقافة الخيمة، وإن بدأت بعض البلاد في التحرر نوعًا ما بفضل البعثات إلى الخارج، والرغبة الداخلية في التحرّر من تقاليد مجتمع القبيلة.
وإن كان جيلاني عمراني يردّ هذا الغياب إلى التخلُّف الذي كانت تعيش فيه مجتمعاتنا، وهو ما يتفق فيه معه الحبيب السائح، مع اختلاف المُسمّى، حيث وسمها بالقيود التي حسب وصفه “تمثّل قوة ردع قاهرة لكل تفكير لدى كل مُبدع وتتمثّل في “قيد المضْفُور بيد العائلي القبلي والإتني والأخلاقي والدينيّ والتاريخيّ والسياسيّ والقانوني.”ومن ثمّ يُقرُّ بيقين إلى أن أدباء الجزائر لن يكتبوا هذا النوع، فالتخوّف أيضًا أحد العوامل التي تحول دون تحقّق مثل هذه الكتابات، فالجميع يصفه بأنه “جملة أسرار” أو “مدونة فضائح”، وهو ما انعكس كما يقول محمد الحجيري “سلبًا على الكتّاب فراحوا يتحاشون ذكر الوقائع النافرة أو الفاضحة وغير المُستساغة لدى القرّاء. وهذا يتعارض مع مهمّة أدب الاعتراف، وثمة بعض الشواهد الحسيّة، تدل على مدى الرقابة الذاتية في أدب البوح والاعتراف”.
التواطؤ مع الكذب
تذهب زينب العسال إلى منطقة أخرى في أسباب غياب أدب الاعتراف حيث ترى أننا نشأنا في مجتمعات تتواطأ مع الكذب، وهو ما يعني السعى إلى فكرة تجميل ذواتنا وتاريختا وسيرتنا، وهو الأمر الذي يتنافى مع مواثيق كتابة الذات التي تستلزم تعرية الذات. فحسب قولها الاعتراف بالحقيقة يعدُّ صدمة للمجتمع ولعاداته ومعتقداته، ومن ثم فلا يُقبل الأدباء على كتابة أدب الاعتراف لأن ذلك يتسبَّب في جُرسة وكسر للحدود والتابوهات وانتقاص من هيبة الأديب ومكانته وفقده احترام الآخرين.
تقرُّ العسال بأنّ كتابات الاعترافات وزّعها الكُتّاب العرب في صيغتين الأولى في أعمال روائيّة والثانية في السيرة الذاتيّة. في حين أن المرأة العربية تُغرِّد خارج هذه الكتابات فكما تقول من الصعب “أن نجد كاتبة تهبنا أدب الاعتراف، سنظل لسنوات ندور في فلك كتابة السيرة الذاتية”، وإن كانت تستثني بعض الكتابات مثل مذكرات الأميرة العمانية “وليم” -باللغة الألمانية- التي تتأرجّح بين السيرة الذاتية والاعتراف، والكتاب الثاني “هو لا حشومة في الجنسانيّة النسائيّة في المغرب”، الكتاب من تأليف سمية نعمان جسوس، وترجمة وتحقيق عبدالرحيم خزعل، وهو الكتاب الذي يتحدّث عن اعترافات نساء مارسنَ الجنس خارج مؤسسة الزواج وكيف واجهتهن مشكلات مثل فقدان العذرية والحمل ورفض الأب الاعتراف بابنه وغيرها.
وتنتهي إلى أنها لا تتصوّر أن الكاتبة العربيّة سيُتاح لها أن تكتب أدب الاعتراف، أن تكتب عن حياتها بصدق، فهي تعاني من ضغوط شديدة، السطوة الذكورية تمنعها من البوح والكشف وتعرية المستور، فالمجتمع لا يبيح للرجل أن يعترف، لقد تندّر البعض من زواج لطيفة الزيات برشاد رشدي، وكان السؤال لماذا؟ وحين جاءت إجابتها عبر أوراق شخصية “الجنس أسقط روما” كانت صادقة في ما قالته. هذه هي الحقيقة دون تجميل أو تزويق.
نفس هذا التصوّر تميل إليه حنان مصطفى فترى أن ذات المرأة في الكتابة مُعرّضة للانتهاك على مستوى النص، حيث التلصص الذكوري على ما تكتبه المرأة “باحثًا عمّا يمكّنه من اختراق خصوصيتها، محقّقًا لذة ذكورية من شأنها أن تحوّل العَلاقة بين النص والقارئ إلى شكل من أشكال الممارسة الجنسيّة على مستوى الخيال”. وقد يكون هذا التلصص وإن لم تصرّح به مباشرة رحاب أبو زيد سببًا لعدم الكتابة، وهو ما يضطرها أثناء الكتابة لأن تلوذ “إلى غرفة موصدة النوافذ ومبطّنة الجدران بطبقات سميكة من الفلين والإسفنج حتى أتيقن أن لا أحد يسمعني”.
السؤال الذي لم تقربه هذه المقاربات وهي تتحدّث عن صعوبة كتابة المرأة ذاتها بجرأة مفاده: هل هذه الدوافع والمبررات التي سيقت حقيقية، أم ثمة تمويه وتخفّ خلف هذه القناعات، من عدم الكتابة؟! فالشعور بالاستقلالية هو الحافز الأساسي للتحرّر من الخوف، وعندما يتحقق لا تخاف المرأة هذا المتلصص الذي اخترعته لتهرب من فكرة الكتابة، كما فعلت لطيفة الزيات في “حملة تفتيش أوراق شخصية”، وهي تجلد ذاتها وذات رشاد رشدي، ما فعلت هذا إلا بعد شعورها بالتحرّر، وبالمثل فعلت الكاتبة الكويتية ليلى العثمان في جلدها لرجال الدين، وقتل الأب ليس في الأحلام كما ادعى فرويد وإنما عبر الكتابة، فكتبت سيرة جريئة بعنوان “لا قيود.. دعوني أتكلّم”، دون أن تعتدّ بالسلطات القامعة.
وهم القناع السّيري
في ظل هذه المعوِّقات التي حالت دون ظهور اعترافات عربيّة مُقارنة بما كتب في الغرب هناك من ذهب إلى بديل يستطيع من خلاله أن يُمرِّر الكاتب ما يودُّ قوله دون أن يصطدم مع السلطات الرادعة، والحل يتمثّل في تقنية القناع على نحو ما ذهب محمد آيت ميهوب حيث اعتبر القناع “سبيلا إلى البوح” وهو ما يتوافق مع ما طرحته العسال من كون الاعترافات تمرّر عبر صيغتين الرواية والسيرة الذاتية.
فمِن وظائف القناع كما يقول توفير الحماية لمن يكتب قصة حياته وحياة ذويه. ويبرّر اللجوء إلى القناع، بقوله “إن تاريخ الرواية العربية والغربية من فلوبير إلى نجيب محفوظ وحيدر حيدر مليء بأمثلة قاسية ممّا قد يتعرّض له الروائيّ بسبب ما يكتب من المحاصرة والمحاكمة وحتّى التحريض على القتل”.
فالقناع هو السبيل الوحيد للانفلات من حصار الرقابة بكافة أشكالها الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة بما تمثّله من عداء للكُتّاب، فيظل المتخيّل الروائيّ هو القادر على أن “يضمن مسافة فاصلة بين النص والواقع التاريخي، وبين الشخصية الروائيّة وخالقها الكاتب”، لذا يرى أن تضمين الكاتب أجزاء من سيرة حياته يُعدُّ جزءًا من التقنّع والاختفاء.
في الحقيقة أختلف مع هذا الطرح كليًّا لسببين الأوّل أن ليس كل رواية سيرة ذاتية، وليست كل سيرة ذاتية تمثّل اعترافًا بالحقائق كاملة، فالذات تعتمد على الذاكرة في استدعاء الماضي، وأكّد الكثيرون صعوبة الاعتماد على الذاكرة لما يعتريها من الضعف والنسيان بسب عوامل الزمن، علاوة على أن الذاكرة دومًا تعتمد على مبدأ الانتقاء والاختيار، وهو ما يعني أن طبيعتها تُنحِّي كل ما يُشين هذه الذات ويدينها، وتتخيّر من سيرتها ما يرضيها.
في معظم التحقيقات والشهادات عن سؤال هل أدب الاعتراف موجود في الثقافة العربية؟ كان الجواب بالطبع لا. وهو ما يعني غياب أدب الاعتراف عن الثقافة العربية
كما أن الاعترافات بصفة عامة تتمثّل في الأخطاء التي ارتكبها الشخص أو الأفعال التي لم يطّلع عليها أحد أو الصّورة المخفيّة للكاتب في علاقاته ومواقفه، وهي صورة مجهولة بالنسبة إلينا كقرّاء. أما السبب الثاني، وهو الأهم عندي، فخاص بفكرة القناع، الذي هو عندي ضدّ الاعتراف، فكاتب الاعتراف لا يحتاج إلى التخفي أو التقنع، ففي الأصل فكرة الاعترافات قائمة على الصّراحة والتعرية، وهذا ما يتنافى مع فكرة القناع تمامًا.
فالشخص الواقع تحت ميثاق سيري لا يهمه أن يتقنّع أو يخفي شخصيته الحقيقيّة باستعارة شخصية روائيّة وإحالة ما فعله عليها. بل على العكس تمامًا فذات المؤلف تتطابق مع ذات الراوي مع ذات الشخصية المحورية، وهو ما وصفه فيليب لوجون بتطابق الهويات الثلاث؛ المؤلف والشخصية والبطل، وإذا انتفى هذا الشرط فقدت الكتابة جنسها أي انتماءها إلى الجنس السّيريّ.
يُبرّر محمد آيت ميهوب لجوء الكُتّاب إلى القناع والمداورة عند الكتابة عن ذواتهم بالصّراع الذي يقع فيه الكاتب بين أن يقول أو يحجب قوله. ففكرة أن يقول الكاتب كل شيء عن نفسه سيُعرِّضه إلى تحدي هذه السُّلطات: الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة. أما إذا أحجم ولم يقل شيئًا فتأتي سيرته عادية. ومن ثم يضطر بالقناع للهروب من فخ السلطات تارة، وتمرير ما يجعل لسيرته رواجًا.
في الحقيقة هذا التبرير لا أميلُ إليه. فالحكم هنا هو لمواثيق الكتابة ذاتها، كما وضحنا سابقًا. فكتابة أيّ شيء تحت مُسمّى كتابة الذات بصفة عامة، أو السّيرة الذاتيّة بصفة خاصة، لا تقيّم وفق الأنساق المهيمنة السّائدة، وإنما تقيّم وفق “الميثاق السّيريّ” بالإصطلاح الفرنسي أو “اليمين السّيريّ” بالإصطلاح الإنكليزي.
فخضوع الكاتب تحت سلطة ميثاق سيريّ، يُلزمه -بالضرورة- بأن بقول كل شيء عن نفسه، وإن لم يقل فهو حانث بالعهد أو الميثاق، ومن ثمّ لا تعدّ كتابته خاضعة لجنس السّيرة لأنّها فقدت شرطها الأساسي الصدق في قول كل شيء، ومع الأسف غياب الصّدق متحقّق في معظم السّير بما فيها تلك التي عُدّت نموذجًا للصّراحة لدى كتّاب الغرب كاعترافات القديس أوغسطين وجان جاك روسو، لأنهما أثناء كتابة السيرة وقعوا تحت أَسْرِ أيديولوجيا الذات التي وظيفتها الأساسيّة الحجب وإخفاء حقائق خطيرة.
أما الرواية فكاتبها حرٌّ في أن يُحمِّل شخصياته ما يريد من مواقف وآراء، بل لا ضَرَرَ من أن تحمل الشخصية الروائيّة الكثير من صفاته الشخصية، دون أن نكون أيضًا مُلزمين بردّ الشخصية الروائية إلى شخصية الكاتب. فنحن نحتكم إلى معايير التخييل التي لا تعتد بالمطابقة بين الشخصية الروائيّة وشخصية المؤلف. وإن كان ثمّة شيء يجب أن يؤخذ في الاعتبار فهو أن الكاتب وهو يستعيد شخصية من الواقع ثمّ يلبسها ثوب الخيال في النص بالتموية، من خلال إعطائها اسمًا يُباعد به بينها وبين الشخصية الحقيقية، يقع في فخّ الاستعادة، فلعبة الاستعادة هذه في حدّ ذاتها وإلباس الحقيقي لبوس التخييل أكسبا الشخصية الجديدة الروائيّة (المتخيلة أو المقنعة بالخيال) صفات جديدة بعيدة عن مرجعيتها الواقعية، وتعدّ في هذه الحالة عكس الشخصية الحقيقية. كما أنه لا يمكن مقارنتها بها على نحو رفض نجيب محفوظ كل التلميحات والإشارات بأن شخصية كمال في الثلاثية هي شخصية محفوظ الحقيقية.
تناسى الجميع في بحثهم عن أسباب غياب أدب الاعتراف وثقافته في الثقافة العربية أن السبب الأساسي يرجع لغياب مناخ الحرية في هذه المجتمعات التي تهيمن عليها سلطة حاكمة قاهرة للذات أولا وأخيرًا. كما أن الشيء المؤسف أن الجميع أخذ حكمًا قطعيًا، وإن كان أشبه بحكم القيمة، مفاده غياب هذا الأدب وندرته في ثقافتنا. والأغرب أن إحدى الكاتبات تضع ميثاقًا للاعترافات تعنونه بـ”أخلاقيات الاعتراف” وكأن كاتب الاعترافات عليه أن يلتزم بأخلاقيات، في حين أن الاعتراف في حدّ ذاته خرق لكل الأنساق، وهو ما يجعل الكثيرين يُحْجِمون عنها، بغية محافظتهم على صورتهم السّائدة لدى جمهور القرّاء.
ثمّة خلط واضح في التعامل مع مفردة اعترافات. فالجميع تعامل مع الاعترافات كجنس مستقل منفصل عن كتابات الذات بكافة صورها، مقارنة بتلك الكتابات التي وضعوها مقياسًا في نفي وجود مثل هذه الصراحة في كتابتنا العربيّة. مثل اعترافات القديس أوغسطين والاعترافات لجان جاك روسو، وإن كان ثمة اتّهام بأنهما اعتمدا على مبدأ الانتقاء في قول الحقيقة، فخلت سيرتهما من أشياء توضح الخسة التي تعاملا بها مع الآخر.
وبما أنه الأمر الذي لن يتحقق فالأجدر البحث عنها في كتابات الذات بصفة عامة “كالسيرة الذاتية، والمذكرات والشهادات واليوميات، إلخ…”، حيث تنسل الاعترافات داخل هذه الكتابات كما شهدنا في مذكرات لويس عوض “أوراق العمر”، ونجيب محفوظ “صفحات من مذكراته، وأضواء جديدة على أدبه وحياته”، وأيضًا في سيرة رؤوف عباس “مشيناها خطى”، وعزيز العظمة “جيل الهزيمة”.
وهذا التماهي يشير إلى عدم انفصال كتابة الاعترافات عن كتابات الذات، بل هي في داخلها، يُمرّرها الكاتب وهو في حالة لاوعي، حيث تتماهى الذات مع أنّاتها، لدرجة أنها تجعل منها شخصية أخرى تحكي عنها كل ما عانته وواجهته في مسيرتها الحياتيّة، لا من أجل التطهر كما في الفكر الكنسي، وإنما بغية التحرّر من عبء المسؤولية.
الشيء الطريف أن في المدوّنة العربية قلة هي الكتابات التي تحمل مفردة اعترافات، على نحو ما فعل عبدالرحمن شكري في بداية القرن الماضي، وما فعله أحمد عبدالمعطي حجازي مؤخّرًا في إصداره جزءًا من سيرته في صيغة الاعترافات. وإن كان هذا لا يمنع أن الاعترافات حاضرة -وإن كانت بحياء- في الكثير من كتابات السيرة الذاتيّة والشهادات، وأيضًا الرّسائل، وكل ما يتصل بكتابة الذّات.
الذّات في مواجهة أناتها
في معظم التحقيقات والشهادات عن سؤال هل أدب الاعتراف موجود في الثقافة العربية؟ كان الجواب بالطبع لا. وهو ما يعني غياب أدب الاعتراف عن الثقافة العربية. وهو ما يُعدُّ علامة ودليلًا على تضعضع مكانة الذّات في المجتمعات الناطقة بلغة الضاد وضعف الفرص أمامها للتعبير عن مكنوناتها وتجاربها
وأمام الإقرار بغياب هذه الكتابات فطنت المجلة إلى حيلة بإزائها وضعت الكُتّاب أمام اختبار حقيقي في كتابة عارية؟ وإن كان ثمّة تخوّف كان ماثلاً في أنّ تعرية الذّات لا وجود له في الثقافة العربية!
السّؤال هنا: ما الذي تحقّق، وهل نجحت المجلة في استدراج الكتّاب؟ وثانيًا: هل نجح الكُتّاب في الاختبار وقدَّموا نصوصًا تعتمد على البوح والاعتراف ومواجهة الذّات أم أنّ عقدة الخوف من التعرية ما زالت تقف حائلاً أمام تقديم نماذج دالة على هذا الجنس؟
هذا ما نتأمّله على مستوى النصوص الاعترافيّة التي جاءت مرافقة للشهادات والدراسات والمقالات. حيث قدّم خمسة كتاب وكاتبات اعترافاتهم، جاءت ثلاثة اعترافات على مستوى الذكور، ممثلة فيما كتبه فاروق يوسف وعبدالمنعم رمضان ورامي العاشق، واعترافان من قبل الكاتبات، الأول خاص بالكاتبة والناقدة اللبنانية سمية عزّام، والثاني خاص بالروائية الإماراتية لولوة المنصوري.
بالنسبة إلى نص سمية عزّام، فمع أن الكاتبة قدّمت اعترافات عن التابوهات التي شكّلت هويتها وحصرتها في التابوه الإيماني والطبقي والعقدي وتابوه الهُوية الأنثويّة، إلا أن ما يُمكن قوله إنها لم تقدّم اعترافات صادمة أو جريئة بل هي تعاملت مع فكرة رقش الذّات السّائدة في كتابة السّيرة الذاتيّة لا تعريتها، فمجمل ما قالته لا يعدّ خرقًا لأنساق الدين أو المجتمع أو حتى السُّلْطة السياسيّة، ربما الاعتراف بهويتها الأنثوية وميل البعض احتكامًا إلى شكلها وهيئتها التي كانت تبعدها عن طبيعة الأنثي، لأن تُصنّف بالمثليّة، وهو ما كان سببًا في تعاظم كراهيتها لهويتها الأنثوية.
لا يختلف عمّا سبق ما كتبته لولوة المنصوري بعنوان “ألواح النصوص الأولى-سيرة أثر” فهي تسرد عن طفولتها ونشأتها مع أبيها النجّار، حيث تستدعي طفولتها وهي تتذكّر عيدان “أصابعه الدقيقة كخزانات عطر من خشب وماء بين ثنايا الأصابع″ وحالة الخط المستقيم الذي يتولد من نشر الخشب إلى نصفين، وخشيتها أن تتحوّل حياتها إلى ذات المسار! وما إن تتعدّى طور الطفولة حتى تخايلها ذكرى طَوفانها السري بين شعاب البلدة وممرّات البحر والمزارع، وهي تشعر بأن “سقف الأرض سيسقط على البلدة بوخز النميمة يوماً ما، بدأت كل الأبواب والجدران توصد بالصّمت والأسرار والمحظورات والرِّضا بالقدر، بذريعة التديّن”.
كما تستنكر حالة الخرس التي صارت عليها النّساء، فلم يعدن يُمارسن حقهن الطبيعي في الحلم والعبور نحو الدهشة والسؤال فقد “رُسِم لهن خط مستقيم واحد لا يحدن عنه، شرط ألّا يقع الغدر على الخط المستقيم، أن يخرجن من السراب إلى المجهول، من ستار إلى وِزر، وبالرجل تستتر المرأة، فمن ضلعه الرمزي المُسيّس خرجت، وإليه تعود”.
ثم تسرد عن التطورات التي لحقت بالعائلة بسبب غلاء المعيشة، فهجر الأب النجّار مهنته، والتحق بالجيش، إلى أن جاءت حرب الخليج الثانية، وغاب الأب في مكتب الطوارئ، وبعدها أغلقت الأم الباب “في وجه الشمس والناس والحرب ونساء الإشاعات”.
ثم تنتقل في سردها إلى علاقتها بالوسط الثقافي فما إن فتحت عينها على الوسط في أواخر التسعينات من القرن العشرين حتى “وُلِدت (..) عقدة الكاتب الأوسط، الذي يُفتش عن منبت وانتماء وَيُصارع ليحظى بالاهتمام والتكيّف والتعاطف والبقاء على قيد الكتابة، في ظل غياب المنبع والجذور والكثير من الأسماء التي أشعلت روح الثقافة ومهّدت الدرب في السبعينات”.
على هذا المنوال تسير السّيرة في جزئها الأخير تبحث عمّن تُحمّله أسباب افتقار الجيل الأوسط، جيل (الفجوة) للجرأة الفكرية وإحجامهم عن “الخوض في مسائل فكرية بحثية جريئة تشاكس الوجود والمعطى الفلسفي وتقتحم الأسئلة الكبرى وتناقش في متاهات الغيب وحول الله والخلق الأول والأبدية! يكون الجواب بمثابة اعتراف تعرية هذا الوسط كله، وليس جيلها فتقول “لقد وجدنا المدرسة فارغة من معلّميها”.
الدرس المهم الذي تستخلصه من هذه التجربة هو أنه لا وقت للملام، ومن ثمّ كان الانكفاء على طاقة صمتها، وترى أنه مع “القراءة والموسيقى والنبش في أفلاك الحجر والماء والكتب سأستعيد كل ينابيعي وخلاياي المفقودة، بل ستضاف عليها خلايا جديدة تتضاعف في لحظات التمجيد والتسبيح والشكر. شرود عميق غامض، توحّد آمن في الصمت، وتدثّر حميم مع القلب”.
هكذا تأخذنا الكاتبة في حوار مع الذات، حيث جعلت من الأنا آخر تحاوره بغية أن تسير على خلاف الخط المستقيم الذي رُسم لنساء القرية كلهن.
حفلة اعترافات
في النص الخاص بفاروق يوسف “حفلة اعترافات مرحة في مقبرة” تتردّد كلمة اعتراف بإطراد، لكن النص بعيد كل البعد عن النصوص الاعترافيّة، هو أقرب إلى البوح والكتابة على الكتابة، حيث يستعيد ذكرياته عن أعمال سبق وأن كتبها ولاقت تعنتًا في نشرها. حيث أخذنا المؤلف في حكايات عن الغربة والعزلة والكتابة، فهي حسب الوصف المدرجة تحته مذكرات. وهذا ما يؤكده الكاتب نفسه عندما يحكي عن ذكريات كتاباته وكتبه السابقة.
في نص عبدالمنعم رمضان “أوراق شاعر”، وهو نص سيري بامتياز، يتحدث فيه عن طفولته وعن القراءات التي أثّرت في حياته، ومع هذا السّرد السّيريّ المتماهي مع ذات الكاتب وأناتها تمَّ تسريب الكثير من اعترافاته التي تكون مزعجة للآخرين، فيعترف أولاً عن خجله أثناء القراءة، وسخرية الأستاذ ذي الاسم العجيب على حدّ وصفه من قراءته حتى أنه وصفه بأنه لا يقرأ “أنت تُشحّر، مثل قطار قشاش يوشك أن يقف، اجلسْ اجلسْ”، ثمّ محاولاته لتقويم مشاكله في القراءة، وهذا جزء خفيّ لم نعرفه لولا إطلاع الكاتب لنا عليه من خلال الاستماع لإذاعة القرآن الكريم، وبرنامج فاروق شوشة.
ويأخذنا في رحلة عن قراءاته والكُتّاب الذين أثّروا فيه، والأهم هي رحلة تقييمه للشّعر والشّعراء ممن نهل منهم وأثّروا فيه، فبقدر محبته لشعر عفيفي مطر، إلّا أنّه يعترف في تحسّر “فاجأنا عفيفي في آخره بآراء كهلة وشعر عجوز وحروب فاسدة، فبكينا على ما ضاع، وبعدها بكينا على موته”. كما يشير إلى الدور الذي لعبه الشاعر العوضي الوكيل في حياته. وإن كان الخجل أحد المعوّقات في حياته وإن كان اكتشف له فضيلة تتمثل في” أنه يلزمني بالإنصات إلى حكايات الآخرين” ويعترف بأنه لم يستمع لمحمد عفيفي مطر، لأنه كان جهمًا حتى حين يضحك، كما أنه لم يكن يحكي، كان يرشد ويدل”، واكتفي من سعدى يوسف “بغمغماته وجمله الناقصة التي دعتني إلى إكمالها”. ويعترف بأن إصرار حلمي سالم على تجويد حكاياته يجعلها أشبه “بنصوص تدرّب على إلقائها، وتظل فتنتها ناقصة، وتظل تبحث عن الخاتمة التي يريدها حلمي أن تكون زاعقة صاعقة”.
ومن الاعترافات التي يُمرِّرها على صديقه محمد خلّاف فيقول “كان محمد خلّاف يشبه صورة الفنان في شبابه، كان كتومًا يتكلّم فقط فيما ليس شخصيًّا، ضبطته في الإسكندرية يُعاشر صاحبة الشقة فحسدته، وضبطته في بيتي يختلس كتبي فأصابتني الرّعشة”، دون أن يتوقف عن محبته. تتوالي اعترافاته عمّن عرفهم من الشّعراء خاصّة، ثم تقييمه الصّراع بين جيل السبعينات من القرن العشرين فيرى أن حلمي سالم شاعر، أما قصيدته “شرفة ليلى مراد” فهي “قصيدة رديئة، وهي كذلك في رأيي حتى الآن، وأن الدفاع عن حرية التعبير لا يعني الدفاع عن قصيدة رديئة، وكان حلمي يرى ضرورة الدفاع حتى عن حرية الرداءة، فشكاني إلى كل المثقفين والشعراء، خاصة الشعراء العرب من أصحابنا، وبكى أمام بعضهم، ومنهم من تأثر وانفعل ولامني”.
في قصة رامي العاشق المعنونة “الذين قتلتهم حتى الآن” على طرافة فكرتها، حيث العجز يُغري ويحرّض الإنسان على استخدام بدائل للتخلّص من أعدائه، فيلجأ إلى الحلم للانتقام من الجميع الذين سبّبوا أذى بطريق مُباشر أو غير مباشر كزوجة الأب والأم والعمّ المثقف والصديق والأخ الأصغر المدلّل، ابن عمته المخبر وغيرهم. ينتهي في نهاية القصة إلى اعتراف كاشف ودال حيث يقول “كلّ هؤلاء الذين قتلتُهم بأحلامي ما زالوا أحياء، يهجمون على ذاكرتي كجيش واحد، يضحكون ويرقصون وينظرون إليّ بشماتة، لم يختفوا، ولا حلّ لإنهاء وجودهم على ما يبدو إلّا في قتل ذاكرتي! كثيرون فعلوا مثلي، كثيرون قتَلوا، كلّكم قتَلتم في أحلامكم، إلّا أنكم لم تعترفوا بعد!”.
يظل المتخيّل الروائيّ هو القادر على أن “يضمن مسافة فاصلة بين النص والواقع التاريخي، وبين الشخصية الروائيّة وخالقها الكاتب
ما توصل إليه الكاتب في نهاية القصة بمثابة مفتاح حقيقي لمغزى الاعتراف، ففكرة الاعتراف قائمة على التعرية وهي بمثابة القتل، حيث تصوير الآخر سواء الذات التي ترتقي مسافة كي يستطيع من خلالها أن يروي دون حواجز والآخرين ممّن ارتبط بهم بصداقة وعمل أو حتى صلة قرابة، يأتون في صورة بعيدة عن التحيّز والنفاق.
في الأخير، حتى لو توفّر الصّدق في كتابات الذّات وعلى الأخص السّيرة الذاتيّة، نتساءل مع أحمد برقاوي “تُرى هل تصلح السيرة الذاتية أن تكون مرجعًا للتاريخ وللمعرفة أم لا تعدو أن تكون عملاً روائيا فيه من الواقعية والتخيل ما فيه؟”.
يجيب برقاوي في اطمئنان بنفي كونها تعدّ مرجعًا صادقًا وحقيقيًّا للشخص فحسب قوله “نعتقد بأن السّيرة الذاتيّة وما يمكن أن تتيحه من مساحة للاعتراف عالم يسمح لنا بفهم عام للشخص ولعالمه المعيش، لكنها ليست مرجعًا معرفيًّا يمكن الثقة به، حتى لو كانت استثناء”، وقد يعود السّبب الحقيقي ليس فقط إلى معيارية الصّدق ودرجته المتحقّقة في هذه الأعمال، وإنما أيضًا يعود إلى الذاكرة وما يعتريها من صفات طبيعة كالنسيان، وغير طبيعة حيث تعمد إلى التلفيق وسعيها إلى تجميل صورة الذات، بخلق مسافة بين الذّات المروية والذات الراوية، وكما يقول جان ستاروبنسكي في كتابه “الشّفافية والحاجز″ الذي تناول فيه”اعترافات” روسّو، -كما ذكر أبوبكر العيادي- فالكاتب يحرص أن تبقى المسافة قائمة بين الشخص المتحدّث عنه (وإن كان على لسان المتكلّم) والشّخص الحقيقيّ.